العودة إلى فهرس الكتاب

بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ

الٓمٓ ١ ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ ٢ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ٣ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ ٤ أُوْلَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥

المعنى في ضوء التحليل االلغوي :

1 – أقْرَأُ السُّورَةَ بالاسْتِعانَةِ باللهِ المَوْصُوفِ بأنّهُ الرَّحمنُ الذي أتْقَنَ برَحْمَتِهِ خَلْقَ كُلِّ شيءٍ لأداءِ وَظيفَتِهِ التي خَلَقَهُ لأدائِها، المَوْصُوفِ بأنَّهُ الرَّحِيمُ الذي جَعَلَ وَظيفةَ كُلِّ شيءٍ خَلَقَهُ في حُدُودِ قُدْرَتِهِ واسْتِطاعَتِهِ، ألف لام ميم رَمْزٌ لهذِهِ السُّورَةِ باخْتِصاصِها بعُلومٍ ومعارِفَ إلهِيَّةٍ نَزَلَ بها القُرآنُ

2 – ذلك، أي : القرآنُ المُشتمِلُ على العُلومِ والمعارِفِ الإلهِيَّةِ، المُشارُ إليه بالتعظيم لا شَكَّ ولا ظَنَّ واقِعٌ فيه (أي : مَنْفِيٌّ عنهُ جِنْسُ الشَّكِّ والظَّنِّ، ويَدُلُّ نفْيُ وجودِ الشكِّ والظّنِّ على كَوْنِهِ نازِلاً من اللهِ إلى رَسٍولِهِ مُحَمَّدٍ (ص)، لأنَّ الأسْبابَ الباعِثةَ على الشَّكِّ والظَّنِّ مِثْلَ الْتِباسِ عِباراتِهِ، ورَكاكةِ نَظْمِهِ، وهُبُوطِ لُغتِهِ، وتناقُضِ معانِيهِ، وعَدَمِ صلاحِ أحكامِهِ للنّاسِ، وافْتِقارِهِ إلى الحُجَجِ والبراهينِ التي تُؤيّدُ دَعْواه، وافْتِقارِهِ إلى المَعارِفِ والمَفاهيمِ التي تَهْدِي النّاسَ إلى سبيلِ الهُدَى والرَّشادِ مَنْفِيَّةٌ عَنْهُ)، ذلك، أي : القرآنُ المُشتمِلُ على العُلومِ والمعارِفِ الإلهِيَّةِ، المُشارُ إليه بالتعظيم إرشادٌ للمُتَّقِينَ الذين يَخافُونَ رَبَّهم، ويَحْفَظُونَ أنْفُسَهم من عِقابِهِ إلى تَوْحِيدِ اللهِ، وإخْلاصِ العِبادَةِ لَهُ، وتَعْرِيفٌ وبَيانٌ لهم بأحْكامِ دينِهم ووصاياهُ ومعارِفِهِ الإلهِيَّةِ (يستطيعُ المُتَدَبِّرُ آياتِ السُّورَةِ أنْ يسْتَنْتِجَ أنَّ (ألم) تَدُلُّ على أنَّ اللهَ تعالى خَصَّ هذه السُّورَةَ بتعظيمِ القُرآنِ بالإشارةِ إليه بالتَّعْظيمِ، لأنّهُ المَصْدَرُ الرَّئيسُ للأحكامِ والتّشْريعِ والهدايةِ، وخَصَّها ببيانِ الأُسسِ التي يقومُ عليها دينُ اللهِ، وبيانِ حقيقةِ بني إسرائيل الذينَ وَقَفُوا من الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ (ص)، ومن القُرآنِ الذي أنْزَلَهُ اللهُ إليه موقِفَ الجاحِدِ المُشَكّكِ الصّادِّ عن سَبِيلِ اللهِ، وتَذْكِيرِ بني إسرائيل المُعاصرين للرّسولِ مُحَمّدٍ (ص) بما كان عليه أسْلافُهم من أنبيائهم)

3 – الذين يُصَدِّقون بما غابَ عنهم، ولم يُدْرِكُوهُ بحَواسِّهم مِمّا أخْبَرَهُم بِهِ القُرآنُ (مِثل وجودِ الله وملائكتِهِ واليومِ الآخِر، والبعثِ يومَ القيامة للحساب والجزاء، والجَنَّةِ والنّارِ)، ويُؤَدّونَ الصَّلاةَ مُوَفَّىً حقّها، ويُديمونَها في حياتِهم، ويَبْذُلونُ في وُجُوهِ الخَيْرِ، وعلى الفُقراءِ والمَساكِينِ من كُلِّ شيءٍ أعْطَيْناهُم إيَّاهُ لِيَنْتَفِعُوا بِهِ ((الصَّلاةُ) عند العرب : الدُّعاءُ والرّحمَةُ والاستغفار، وكانت العَرَبُ قَبْلَ الإسْلامِ تَعْرِفُ الصّلاةَ بهذا المعنى، وظَلَّتْ العَرَبُ تَعْرِفُ الصَّلاةَ بمعنى الدُّعاءِ والرَّحمةِ والاستغفارِ بَعْدَ الإسْلامِ، وكانَ المُسْلِمُونَ الأوائِلُ في مكّةَ يَعْرِفُونَ الصَّلاةَ بهذا المعنى، ويُؤَدُّونَها بهذا المعنى في أوقاتٍ مُعَيَّنةٍ حتى فَرَضَ اللهُ الصَّلاةَ في زَمَنٍ مُتأخّرٍ بعدَ بعثةِ الرَّسُولِ (ص)، فأدّاها الرسولُ أمامَ المُسلمين بطَرِيقَةٍ مُعيّنةٍ، ثمّ تَناقَلَها المُسْلِمُونَ بهذه الطَّرِيقَةِ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ، ولَفْظَةُ (صلاة) قديمةٌ، وهي من ألفاظِ اللُّغةِ الأمِّ لشعوبِ الجزيرةِ العربيّةِ، وكانت تُلْفَظُ (صَلُوتُو)، و(صالُوتَه)، و(صَلُوتَه) بدليل أنّها تُلْفَظُ كذلك في اللُّغَةِ الآرامِيَّةِ التي هي أحدى اللُّغاتِ المُتَفَرِّعَةِ عن اللُّغَةِ الأمِّ لشُعُوبِ الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ، وهي في اللُّغَةِ العِبْريّة (إحدى لغات شُعُوبِ الجَزِيرَةِ العَرِبِيَّةِ المُتَفَرِّعَةِ عن اللُّغَةِ الآرامِيَّةِ) (صلوتا)، وكانَ العربُ يلفظونها (صَلُوتا)، ولمّا نَزَلَ القُرآنُ على الرَّسولِ مُحَمّدٍ (ص) نَزَلَ بها بلفظ (صَلاة)، وكُتِبَتْ (صلوة) تنبيهاً إلى أصْلِها القديمِ في اللُّغَةِ الأمّ لشعوب الجَزِيرَةِ العَرَبِيّةِ، وليس صحيحاً قَوْلُ القائلِ : إنّ العَرَبَ قَبْلَ الإسْلامِ لم تَكُنْ تَعْرِفَ لَفْظَ (صَلاة)، ولا معناها، لأنَّ بَعْضَ العَرَبِ كانُوا يَأتُونَ إلى البَيْتِ الحَرامِ للصَّلاةِ، ولكنّ صَلاتَهم كانَتْ مُخْتَلِفَةً عن صَلاةِ اليَهودِ والنَّصارَى، فكانوا يُصَلّونَ وهم يَطُوفُونَ حَوْلَ الكَعْبَةِ بالغِناءِ والإنْشادِ على أنغام التَّصْفِيرِ والتَّصْفِيقِ باليَدَيْنِ كما وَصَفَ القُرآنُ صَلاتَهم بقولِهِ (الأنفال : 35) : “وما كانَ صَلاتُهُم عِنْدَ البَيْتِ إلّا مُكاءً وتَصْدِيَةً”)

4 – والذين يُصَدِّقُونَ بالقُرآنِ الذي أُنْزِلَ إليك، ويُصَدِّقون بالكتابِ الذي أُنْزِلَ على الأنبياءِ والرُّسُلِ من قبلِكَ، وهم يُصَدِّقُونَ بالحَياةِ الآخِرَةِ، ويَعْلَمُونَ أنَّها حَقٌّ، وتَصْدِيقَهم بِها ثابِتٌ طِوالَ حياتِهم في الدُّنيا، ويَخُصُّونَها بالاهْتِمامِ في حَياتِهم، لأنَّها هَدَفُهم ومُبْتَغاهُم

5 – أولئك كائِنُونَ على رَشادٍ وسَدادٍ من رَبِّهم، (يدلّ المعنى على أنَّهم يَفْعَلُونَ الصَّوابَ في حياتِهم بتَسْدِيدِ ربِّهِم)، وأولئك هم الفائِزُونَ بالجَنّةِ، النّاجُونَ من النّارِ .

 

التحليل اللغوي:

1 – (الم) اخْتُلِفَ في إعراب الحروفِ المُقطَّعة أوائل السور، واخْتُلِفَ في المراد بها أيضاً، ولي فيها رأيٌ أسألُ اللهَ ربَّ القرآنِ الكريم ومُنْزِلَهُ على نبيّه الكريم مُحَمَّدٍ (ص) أنْ يجعلَهُ سديداً، وإنْ لم يَكُنْ سديداً فأسأله أنْ يغفرَ لي ابتعادي عن المعنى المراد بها، فهذا الرأيُ هو غايةَ اجتهادي، ورأيي قائمٌ على النظرةِ إلى أنّ سُوَرَ القرآنِ الكريم تَشْتَمِلُ على علومٍ ومعارِفَ إلهِيَّةٍ في توحيدِ اللهِ، وهدايةِ خَلْقِه إلى عبادتِهِ، وفي خَلْقِ الإنسانِ والكونِ، وتَشْتَمِلُ على أحكامٍ تُنظِّمُ علاقةَ الإنسانِ بخالقِهِ، وعلاقتَهُ بأفرادِ جنسِهِ الذين يتكوّنُ منهم المجتمعُ الإنسانيّ، سواءٌ أكانَ مجتمعاً صغيراً أم مجتمعاً كبيراً، وتُنَظِّمُ علاقتَهُ بالطبيعة، وتَشْتَمِلُ على معارِفَ إلهيةٍ تبنِي في نفس الإنسانِ الأخلاقَ الحَسَنَةَ، وتُطهِّرُ نفسَهُ من الأخلاقِ السيّئة، وتَشْتَمِلُ على قَصَصِ الأُمَمِ الماضِيةِ والأنبياءِ الذين أرْسَلَهُم اللهُ إليهم، وأهَمُّ تلك الأُمَمِ التي قَصَّها اللهُ في القُرآنِ أُمَّةُ بني إسرائيل، واخْتَصَّتْ بعضُ السُّوَرِ بحروفٍ مُقَطَّعةٍ تُفْتَتحُ بها، وفي رأيِي أنَّ هذه الحُروفَ المُقَطَّعَةَ التي افْتُتِحَتْ بها بعضُ السُّوَرِ هي رموزٌ لهذِهِ السُّوَرِ باخْتِصاصِها بعُلومٍ ومعارِفَ إلهِيَّةٍ نَزَلَ بها القُرآنُ، وإذا اشتركتْ سورةٌ مع أخرى في الحروفِ المُقَطَّعَةِ نَفْسِها فهذا يعني أنّ آياتِ السُّورتين تشتركان في الرَّمْزِ باخْتِصاصِهِما بتلك العُلومِ والمعارِفِ الإلهِيّة، وإذا افْتُتِحَتْ سورةٌ بحروفٍ تختلف عن الحروفِ التي افْتُتِحَتْ بها السُّورةُ التي قَبْلَها فهذا يعني أنَّ هذه السُّورةَ اخْتَصَّتْ بعلومٍ ومعارِفَ إلهيّةٍ مُختلفةٍ عن السُّورةِ التي قبلها، ولم يُؤْثَرْ عن الرَّسُولِ (ص)، ولا عن أحَدٍ من الأئمّة من أهلِ بيتِهِ، ولا عن أحدٍ من صحابتِهِ بيانُ دلالةِ الحروف المُقَطّعَةِ في أوائلِ بعضِ السّوَر، بل تُرِكَ ذلك لمَنْ يتدَبّرُ آياتِ السُّورةِ التي افْتُتِحَتْ بحروفٍ مُقطّعَة، ويتفَكّرُ في مفاهيمها ومعارفِها وأحكامِها ودلالاتِها وقَصَصِها، ليَصِلَ إلى العِلْمِ بأنَّ حُروفَ السُّورَةِ رُمِزَ بها لتلكَ العُلومِ والمعارِفِ الإلهيّةِ التي عَلِمَها بعدَ قِراءَتِهِ السُّورةَ وتَدَبُّرِهِ آياتِها، وبناءً على هذا الرأي يكون إعراب (الم) مبتدأ، وخبرُهُ مُقدّر، تقديرُهُ : (رَمْزٌ لهذِهِ السُّورَةِ باخْتِصاصِها بعُلومٍ ومعارِفَ إلهِيَّةٍ نَزَلَ بها القُرآنُ)

2 – (ذلك الكتابُ … للمُتّقين) مُستأنفة في سياق ما قبلها، (ذلك) اسم إشارة مبتدأ، (الكتابُ) بدل منه، والمراد به : (القرآن)، وفي الإشارة بـ(ذلك) مع وجود الألف واللام في  (الكتاب) دلالةٌ على تعظيمِ الكتاب، (لا ريبَ فيه) (لا) نافية للجنس، (ريبَ) مبني على الفتح لتركيبِهِ مع (لا) تركيب (خمسةَ عَشَرَ)، والمُركَّبُ (لا ريبَ) في محلِّ رفعٍ مُبتدأ، (فيه) مُتعلّقان بمُقدَّر خبر (لا رَيْبَ)، والتقدير : (واقِعٌ فيه)، والجُملة الاسميَّة خبر (ذلك)، و(الرَّيْبُ) : الشَّكُّ والظَّنُّ، (هُدَىً) خبر ثانٍ للمُبتدأ (ذلك) مرفوع بضمّةٍ مُقدّرة على الألف المقصورة المحذوفة لفظاً الثابتة خطّاً بسبب صوتِ التنوين على قاعدةِ الاسم المقصور في موضعِ الرّفع، و(الهُدَى) : الإرشادُ والبَيانُ والتَّعريفُ، (للمُتّقين) متعلّقان بـ(هدىً)، والمُتّقي : هو الذي يخافُ الله، ويحفظُ نفسه من عقابه بتَجَنُّبِهِ ما يكْرَهُ

3 – (الذين) موصول مبتدأ، (يؤمنون بالغَيْبِ) صلة (الذين)، (يُؤمنون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعله، وهو عائد إلى الموصول، (بالغيب) متعلّقان بـ(يؤمنون)، و(آمَنَ به) : صَدَّقَهُ، و(الغيب) : كلُّ ما غاب عن الإنسان ولم يَشْهَدْهُ، سواء كان مُحصّلاً في القلوب أم غيرَ مُحصّل، مثل وجود الله وملائكته واليوم الآخر والجنة والنار، (ويُقيمون الصلاةَ) جملة فعلية عطف على (يُؤمنون ..)، فهي داخلة في حَيِّزِ صِلة (الذين)، (يُقيمونَ) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعله، (الصَّلاةَ) مفعول به، و(أقامَ الشيءَ) : أدامَهُ، وأنْشأَهُ مُوَفّىً حقَّهُ، (وممّا .. يُنفقون) عطف على ما قبلها، فهي داخلة في حيِّزِ صلة (الذين)، (مِمّا) متعلّقان بـ(يُنفقون)، و(ما) نكرة موصوفة في محلّ جرّ بـ(من)، (رزقناهم) صفة لـ(ما)، (رزقْناهم) فعل ماضٍ، وضميرُ المُتكلّمين فاعلُهُ، والضمير (هم) مفعول به أوّل، والمفعول به الثاني مُقدّر، وهوالعائد إلى (ما)، والتقدير : (رزَقْناهم إيّاهُ)، و(رَزَقَهُ رِزْقاً) : أعطاهُ إيّاهُ، و(الرِّزْقُ) : الشيءُ المرزوق، وهو كُلُّ ما يُنْتَفَعُ به، (يُنفقون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعله، و(الإنفاق) : بَذْلُ المالِ ونَحْوِهِ في وَجْهٍ من وجوهِ الخير

4 – (والذين) عطف على (الذين يؤمنون بالغيب)، (يُؤمنون .. إليك) صلة (الذين)، وتقدّم القولُ في (يُؤمنون)، (بما) جار ومجرور متعلقان بـ(يُؤمنون)، (ما) موصول، (أُنْزِلَ إليك) صلة (ما)، (أُنْزِلَ) فعل ماضٍ مبني للمجهول، (إليك) مُتعلّقان بـ(أُنْزِلَ) في موضع نائب الفاعل، (وما أُنْزِلَ .. قبلك) عطف على (ما أُنْزِلَ ..)، ومثلها في القول، أي : (ويُؤمنون بما أُنزل من قبلك)، فاستغنى عن الفعل وحرف الجر بالعطف، (وبالآخرة .. يُوقنون) عطف على (يُؤمنون ..)، فهي داخلة في حيّز صلة (الذين)، (بالآخرةِ) جار ومجرور متعلقان بـ(يُوقنون)، وقُدِّما للاهتمام بالآخرة في كونها هدفهم الذي يسعون إليه، (هم يوقنون) مبتدأ وخبر، وأصل الجملة : (وهم يُوقنون بالآخرة)، و(يَقِنَ الشيءَ) : عَلِمَهُ وتحقَّقَهُ وصَدَّقه، وفي الجملة الاسمية دلالةٌ على الثبات والدوام

5 – (أولئك .. ربّهم) جملة اسميّة خبر المبتدأ في صدر (الآية : 3)، أي : خبر (الذين يُؤمنون ..) وما عُطِفَ عليه، (أولئك) مبتدأ (على هُدى) مُتعلّقان بمُقدّر خبر، (من ربّهم) مُتعلّقان بـ(هُدى)، والجملة (الذين يُؤمنون … من ربِّهم) مُستأنفة في سياق ما قبلها، (وأولئك .. المُفلحون) عطف على ما قبلها، (أولئك) مبتدأ (هم) ضمير الفصل لا محلَّ له، (المُفلحون) خبر، والفلاحُ : الفوزُ بما يسعى إليه الإنسان، والنجاةُ ممّا يخشى منه ويخاف .

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ ٦ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰٓ أَبۡصَٰرِهِمۡ غِشَٰوَةٞۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ ٧

المعنى في ضوء التحليل اللغوي :

6 – إنَّ الذينَ جَعَلُوا معَ اللهِ شُرَكاءَ في الطّاعةِ والعِبادةِ، ولم يُصدِّقُوا بنُبُوّةِ الرَّسُولِ مُحَمّدٍ، ولم يُصَدِّقوا بأنَّ (القرآنَ) كتابُ اللهِ، أنْزَلَهُ إلى رسولِهِ مُحَمّدٍ إنذارُهم بالتخويفِ من عذابِ اللهِ، وعَدَمُ إنذارِهم سواءٌ، لأنَّهم لا يُصَدّقونَ بنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ وبِما أُنْزِلَ إليه (المُرادُ بهم بقرينةِ كونِ السُّورةِ نَزَلتْ في المدينة المُنَوّرةِ أحبارُ اليهودِ وعلماؤهم الموجودون في المدينةِ زَمَنَ الرسولِ مُحَمَّدٍ)

7 – لأنَّ اللهَ جعَلَهُم لا يَفْهَمُونَ شيئاً مِمَّا يَدْعُوهُم إليهِ رسولُ اللهِ بسَبَبِ إصرارِهِم على الإشراكِ باللهِ غيرَهُ في الطّاعةِ والعِبادةِ، وعَدَمِ تصديقِهِم بنُبُوّةِ الرَّسُولِ مُحَمّدٍ، كأنَّهُ جَعَلَ على مراكز الوَعْي والإدرْاكِ والتّفكيرِ فيهم مانعاً يُشبِهُ الغِطاءَ، مَنَعَ قُدْرَتها على أداءِ وظيفتِها، فعَطَّلها، وجَعَلَهم لا يفهمون ما يَسْمَعُونَهُ من القُرآنِ، ولا يَسْتَجِيبُونَ (يدلّ المعنى على أنّ اللهَ تعالى جَعَلَهم كذلك جزاءً لهم على جُحودِهم نُبوّةَ الرسولِ مُحَمّدٍ، وإنكارِهم أنّ (القرآنَ) كتابُ الله أنْزَلَهُ إليه)، ولأنَّ على قِوى الإدْراكِ والفِطْنَةِ فيهم مانِعاً من تَحْصِيلِهم العِلْمَ الصَّحيحَ بحقائقِ الأشياءِ، والمُقارنةِ والانْتِقالِ من العِلْمِ بالمحْسُوساتِ إلى إدراكِ المعقولات بسَبَبِ إصرارِهِم على الإشراكِ باللهِ غيرَهُ في الطّاعةِ والعِبادةِ، وعَدَمِ تصديقِهِم بنُبُوّةِ الرَّسُولِ مُحَمّدٍ، ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم .

التحليل اللغوي :

6 – (إنّ الذين … لا يُؤمنون) مستأنفة في سياق ما تقدّم للإخبار عن طائفة من الناس في المدينة زَمَنَ الرسول (ص)، (الذين) موصول اسم (إنَّ)، (كفروا) صلة (الذين)، و(كَفروا) : جَحَدوا نُبوّةَ الرسول محمد (ص)، وأنكروا أنّ (القرآنَ) كتابُ الله، أنْزَلَهُ إلى رسولِهِ محمد (ص)، والمُراد بهم بقرينة كون السورة نَزَلتْ في المدينة المُنَوّرة : اليهود الموجودون في المدينة زَمَنَ الرسول (ص)، (سواءٌ عليهم أأنذرتهم) جملة اسمية خبر (إنّ)، (سواءٌ) خبر مُقدّم، (أأنذرتهم) همزة الاستفهام للتسوية، وهي مع الفعل في تأويل مصدر مُبتدأ مُؤخّر، (أم) متصلة، وهي حرف عطف معادلة لهمزة التسوية، (لم تنذرهم) في تأويل مصدرٍ منفيٍّ معطوفٍ على ما قبله، وأصل الجملة : (إنّ الذين كفروا إنذارُهم وعدمُ إنذارِهم سواءٌ)، (لا يؤمنون) تعليل لما قبلها، وتقدّمَ القولُ في مثلها

7 – (ختم … سمعهم) تعليل لما قبلها، (خَتَمَ) فعلٌ ماضٍ، (اللهُ) فاعلُهُ، (على قلوبهم) مُتعلّقان بـ(خَتَمَ)، (وعلى سمعهم) عطف على (على قلوبهم)،  و(خَتَمَ على الطعام والشّراب) : غَطّى فُوَّهَةِ وِعائِهِ بطينٍ أو شَمْعٍ أو غيرِهما، و(خَتَمَ على قلبِهِ أو على سَمَعِهِ) : جَعَلَهُ لا يَفْهَمُ شيئاً، كأنّهُ، غطّى قلبَهُ، أو جَعَلَهُ لا يفهم ما يسمعه، ولا يستجيب له، والمرادُ بـ(القلوب) : مراكزُ الوعي والإدراك والتفكير فيهم، والمرادُ بـ(السمع) : مراكزُ الفهم والاستجابة لما يسمعونه، (وعلى أبصارهم غشاوة) عطف على (ختم ..)، (على أبصارهم) مُتعلّقان بمُقدّر خبر مُقدّم، (غِشاوةٌ) مُبتدأ مُؤخّر، و(البصيرة) : قُوَّةُ الإدراكِ والفِطنةِ، و(الغِشاوة) : الغِشاء، وهو الغِطاء، وفي (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) و(على أبصارهم غشاوة) استعارة، (ولهم .. عذابٌ) مرتبطة بما قبلها بالواو لبيان جزائِهم في الآخرة، (لهم) مُتعلّقان بمُقدّر خبر مُقدّم، (عذابٌ) مُبتدأ مُؤخّر، (عظيمٌ) صفة لـ(عذاب) .

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشعُرُونَ ٩ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ١٠ وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ ١١ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشعُرُونَ ١٢ وَإِذَا قِيلَ لَهُم ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُۗ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَٰكِن لَّا يَعۡلَمُونَ ١٣ وَإِذَا لَقُوا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمۡ قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ ١٤ ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ ١٥ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ ١٦ مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ ٧١ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ ١٨ أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ ١٩ يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٢٠

8 – ومن النّاسِ الذين يقولون : صَدَّقْنا بوحدانيّةِ اللهِ ورسولِهِ والقرآنِ الذي أنزلَهُ على رسولِهِ، وصَدَّقْنا باليومِ الآخِرِ، وحالُهم حين يقولون ذلك أنَّهم ليسوا بمُصَدّقين – 9 – وحالُهم حينَ يَقُولُونَ ذلك أنَّهم يُظْهِرونَ لرسولِ اللهِ وللذين صَدّقوا به وبالقرآنِ خلافَ ما يُخْفونَهُ في أنفُسِهم (أي : يُظهِرونَ لرسولِ الله وللذين صَدّقوا به وبالقرآنِ الإسلامَ ويُبْطِنُونَ الكُفْرَ، وهُم بهذا الفِعْلِ يُخْفُونَ عن اللهِ ما يَكْتُمونَهُ ويَسْتُرُونَهُ في أنْفُسِهِم)، وحالُهُم بفِعْلِهِم هذا أنَّهم ما يَجْعلونَ عاقِبَةَ خِداعِهِم إلّا بأنْفُسِهِم (أي : أنَّ خِداعَهم لا يَرْجَعُ إلّا على أنْفُسِهِم بالعَذابِ والخِزْي)، وحالُهُمُ أنّهم ما يعلمونَ أنَّ خِداعَهُم يَرجعُ عليهم بالعذابِ والخِزْي

10 – في مراكزِ وَعْيِهِم وإدراكِهِم وتفكيرِهِم نِفاقٌ يُشْبِهُ المَرَضَ، (أي : داءٌ أفْسَدَ مراكزَ الوَعْي والإدراكِ والتفكيرِ فيهم، فصاروا في حالةٍ مَرَضِيَّةٍ هي حالةُ النفاق)، فزادَهُم اللهُ نِفاقاً بِسَبَبِ ما أنْزَلَ في المُنافقين من آياتِ القرآنِ (أي : تَسَبَّبَتْ آياتُ القُرآنِ التي أنْزَلَها اللهُ في المُنافقين بجَعْلِهِم مُصِرِّين على النفاقُ حتى صارَ النِّفاقُ حالةً مَرَضِيّةً في نفوسِهم لا يَنْفَكّونَ عنها)، ولهم في الآخرةِ عذابٌ مُؤْلِمٌ بسَبَبِ كونِهم يُخْبِرونَ عن أنُفسِهم بخلافِ ما هي عليه في الواقِعِ

11 – وإذا قيل لهم : لا تَفْعَلُوا ما يُؤدّي إلى التّلَفِ والعَطَبِ والاضْطِرابِ والخَلَلِ في أرْضِ المدينة، قالوا : إنّما نحن نَفْعَلُ ما هو صالِحٌ نافِعٌ  للمُجْتَمَعِ، وما نَعْمَلُ إلّا ما هو صالحٌ نافعٌ للمُجتْمَعِ

12 – انْتَبِهُوا – أيُّها المُؤمنون –  ليس صَحيحاً ما قالُوهُ، إنَّهم هم المُفْسِدُونَ على وَجْهِ الخُصوصِ  في المدينة بفِعْلِهم ما يُؤدّي إلى التّلَفِ والعَطَبِ والاضْطِرابِ والخَلَلِ في المُجْتَمَعِ، ولكن لا يَعْلَمُونَ أنّهم مُفْسِدون، لأنّ إدْراكَهم الذي يُميِّزُ بينِ الإصلاحِ والفَسادِ قد عَطّلوهُ بسَبَبِ نِفاقِهم

13 – وإذا قيل لهم : صَدِّقُوا بنُبُوَّةِ مُحمّدٍ وبالقرآنِ الذي أنْزَلَهُ اللهُ إليه تصديقاً مِثْلَ تصديقِ النّاسِ بهِ وبما أُنْزِلَ إليه قالُوا بلَهْجَةِ الاسْتِنكارِ : أنُصَدِّقُ بِهِ وبما أُنْزِلَ إليه تَصْديقاً مِثْلَ تَصْدِيقِ الجُهَلاءِ ناقِصِي العُقُولِ، ضَعِيفِي الرَّأي ؟ لا يكونُ منّا ذلك، انْتَبِهُوا – أيّها المُؤمنون – إنّهم هم الجُهَلاءُ ناقِصُو العُقُولِ، ضَعِيفُو الرّأي على وَجْهِ الخُصوص ، ولكنْ لا يَعْلَمُونَ أنَّ ما يَفْعَلُونَهُ من النِّفاقِ هو الجَهْلُ بعينِهِ

14 – وإذا صادَفُوا الذين صَدّقوا بنُبُوَّةِ مُحمّدٍ وبالقرآنِ الذي أنْزَلَهُ اللهُ إليه قالوا : صَدّقْنا تَصْديقاً مِثْلَ تصديقِكم بنُبُوَّةِ مُحمّدٍ وبالقرآنِ الذي أنْزَلَهُ اللهُ إليه، وإذا انْفَرَدُوا بأوليائِهم مِنْ رُؤساءِ الضَّلالَةِ الذين يُشْبِهُونَ الشّياطينَ في إضلالِ النّاسِ قالوا : نُؤَكِّدُ لكم أنّا كائِنونَ مَعَكُم على إنكارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ والقُرآنِ، يُؤكّدُ ذلك أنَّا مُسْتَهْزِئُونَ بالذين صَدّقوا بنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ وبالقُرآنِ، مُسْتَخِفُّونَ بهم حين نقولُ لهم : صَدّقْنا بنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ وبالقُرآنِ، وليس عِنْدَنا شُغْلٌ إلّا الاسْتِهْزِاءُ والسُّخْرِيَةُ بهم، (يَدُلُّ المعنى والسّياقُ على أنَّ المُرادَ بـ(شياطينهم) : رُؤساءُ الضَّلالَةِ من عُلماءِ اليهودِ وأحبارِهم ورؤسائِهم، ويَدُلُّ تخصيصُ هذه الطّائفةِ من النّاس بكلامٍ طويلٍ على أنَّ اللهَ أرادَ أنْ يُمَيِّزَهم للمُؤمنين ليُشَخِّصُوهُم بصفاتِهم، وعلى أنَّ اللهَ أرادَ أنْ يُعْلِمَ المُؤمنينَ أنَّ هذه الطائفةَ هي أخْطَرُ النّاسِ على الإسلامِ والمُسلمينِ، وأنّ خُطُورتَها تَكْمُنُ في أنّ لها صِلاتٍ باليهودِ الذين مَعَهُم في المدينة)

15 – اللهُ بعَظَمَتِهِ وقُدرَتِهِ يُدَبِّرُ أمْراً لَهم يُخْفِيهِ عَنْهُم، ليُعاقِبَهم به كما يُخْفُونَ أمْرَ اسْتِهزائِهم بالمُؤمنين، وتَدْبيرُ اللهِ لهم ذلك الأمْرَ حادثٌ ومُتجَدِّدٌ بتَجَدُّدِ حُصُولِ الاسْتِهزاءِ منهم بالمُؤمنين، واللهُ يزيدُهم في تجاوزِهم الحَدَّ في نِفاقِهم نِفاقاً حالةَ كونِهم يَتَحَيَّرُونَ ويَتَرَدَّدون في حياتهم، لا يَهْتَدُون إلى الرُّشْدِ، ولا يَدْرُونَ أينَ يَكُونُونَ

16– أولئك الذين أخَذُوا الباطِلَ (الذي هو الكُفْرَ والإشراكَ باللهِ، والعُدولَ عن التَّصْديقِ بنُبُوَّةِ رسولِهِ مُحَمّدٍ، وبما أُنْزِلَ إليه) بَدَلَ الهُدَى (الذي هو الإيمانُ بوَحْدانيّةِ اللهِ، والتَّصديقُ بنُبُوَّةِ رسولِهِ مُحَمّدٍ، وبما أُنْزِلَ إليه) بثَمَنٍ هو مَنافِعُ الدُّنيا، وحِفاظُهُم على مصالحِهم ومنافعِهم الدنيويّة، فما كَسَبتْ حِرْفَتُهم في النِّفاق (أي : وَسيلَتُهم لكَسْبِ منافِعِ الدُّنيا)، وما وُجِدوا في فِعْلِهِم هذا حالةَ كونِهم مُهْتدين إلى شيءٍ من المَكْسَبِ في الدُّنيا والآخِرَةِ في حِرْفَةِ النِّفاقِ التي اشْتَغلوا فيها، فخَسِرُوا الدُّنيا والآخرةَ، فحالُهم في حِرْفَةِ النِّفاقِ كحالِ تاجرٍ أخَذَ بضاعةً رديئةً بثَمَنٍ غالٍ، فما كَسَبَ شيئاً من المَكْسَبِ في تِجارَتِهِ، فخَسِرَ البِضاعةَ وثَمَنَها

17 – شَبَهُهُم في نِفاقِهم على وَجْهِ توكيدِ المُطابَقَة شَبَهُ الذي قَصَدَ إلى أنْ يُوقِدَ ناراً في ليلةٍ مُظْلِمَةٍ، ليَنْتَفِعَ بها هو والذين مَعَهُ  في إضاءَةِ المكان الذي كانَ حولَهُم، لرُؤيةِ ما يقرُبُ منه، والحصولِ على الدِّفْءِ بحرارتِها، فأوْقَدَها، فلمّا أضاءتْ النّارُ المكانَ الذي كانَ حولَهُ، وانْتَفَعَ بها هو والذين مَعَهُ في إضاءةِ المكانِ الذي كان حولهم، لرُؤيةِ ما يقرُبُ مِنْهُم، وحُصُولِهم على الدِّفْءِ بحرارتِها أطْفَأَها اللهُ وأزالَ النُّورَ الذي حَصَلُوا عليه من ضوئها كامِلاً، فلم يَبْقَ لهم مَطْمَعٌ في أيِّ نورٍ، وصَيَّرَهم في ظلامٍ شديدٍ حالةَ كونِهم لا يُبصرون شيئاً ممّا حولهم، (المعنى على التشبيه التمثيلي، أي : شَبَهُ المنافقين شَبَهُ موقِدِ النّارِ المذكورِ في الآية، فهم قَصَدوا إلى أنْ يَدْخُلوا في الاسلام للانتفاعِ به في عِصْمَةِ أنْفُسِهم وأموالِهم وأعراضِهم، والحُصُولِ على المنافِع الدُّنْيَوِيّةِ التي يَحصلُ عليها المُؤمنونَ الذين دَخَلُوا في الإسلام، فدَخَلُوا في الإسلام، وأخْفَوا كُفْرَهم باللهِ ورسولِهِ والقرآنِ الذي أنْزَلَهُ إليه، فلمّا انْتَفَعُوا بدُخُولِهم في الإسلامِ، وأصَرّوا على إخفاءِ كُفْرِهم أزالَ اللهُ عن قلوبِهم الإيمانَ كاملاً، بسَلْبِهِ من مراكزِ الوَعْي والإدراكِ والتفكيرِ فيهم، فلم يَبْقَ لهم مَطْمَعٌ في أنْ يَصِيروا مُؤمنين، وصَيّرَهم في ضلالٍ وحَيْرَةٍ شديدتَيْنِ حالةَ كونِهم لا يُدْرِكون ببصيرَتِهم سبيلَ النّجاةِ فيَهْتدون إليه، ويَدُلُّ المعنى على أنَّ اللهَ أزالَ عن قلوبِ المُنافقين الإيمانَ كامِلاً جزاءً لهم على إخفائِهم الكُفْرَ بوحدانيّةِ اللهِ ورسولِهِ والقرآنِ الذي أنْزَلَهُ إليه وإظهارِهم التصديقَ بذلك)

18 – هم كالصُّمِّ، لأنَّهم لا يَسْمَعُونَ قولَ الحَقّ، وكالبُكْم لأنَّهم لا يَنْطِقُونَ بالحَقّ، وكالعُمْي لأنَّهم لا يُبْصِرُونَ طريقَ الحَقّ، فهم بسَبَبِ ذلك لا يَنْصَرِفون عن النّفاقِ (أي : هم مُقيمون على النِّفاق طولَ حياتهم)

19 – أو شَبَهُهُم شَبَهُ مُصاحبين لمَطَرٍ نازِلٍ من السّحابِ الذي يكونُ في إحدى طَبَقات الغلافِ الجَوّي للأرض، فيه ظَلامٌ شديداٌ ورَعْدٌ وبَرْقٌ، وحالُهُم أنَّهم يَضَعُونَ أصابِعَهم داخِلَ آذانِهم بسَبَبِ الصّواعِقِ المُصاحِبةِ للرَّعْدِ والبَرْقِ خوفاً من الموتِ (المعنى على التشبيه التمثيلي أي : شَبَّهَ المنافقينَ بأصحابِ مَطَرٍ، وشَبَّهَ القرآنَ النازِلَ من اللهِ تعالى بمَطَرٍ نازلٍ من السّحاب، لأنَّ القرآنَ نافِعٌ كالمَطَر لاشتمالِهِ على ما ينفعُ الناسِ في الحياةِ الدّنيا والآخرة من الهِدايةِ إلى توحيدِ الله، وإخلاصِ العِبادةِ له، ومن الأحكامِ والوصايا والمعارفِ الإلهيةِ، وشَبَّهَ اشتمالَ القرآنِ على التخويفِ والتحذيرِ والترغيبِ باشتمالِ المَطَرِ على ظُلُماتٍ ورَعْدٍ وبَرْقٍ، وشَبَّهَ خوفَ المُنافقين من أنْ يكشِفَهم القرآنُ للرّسول والمُؤمنين، ويكشفُ صِلاتِهم برُؤساءِ الضَّلالَةِ من اليهود، ويكشِفُ مكْرَهم وتَدبيرَهم السَّيّيء بالمُؤمنين بخوفِ المُصاحبين لمَطَرٍ مُشْتَمِلٍ على ظلامٍ شديد، وعلى رَعْدٍ وبَرْقٍ، فهم خائفونَ وجِلون من أنْ يُصيبَهم أمْرٌ مكروهٌ، أو تصيبُهم صاعقةٌ، وشَبَّهَ حالُ المُنافقين في عدمِ سماعِهِم القرآنَ حينَ يُتْلَى عليهم خوفاً من أنْ تَنْزِلَ فيهم آيةٌ تكشفُ حقيقتَهم للرسولِ والمؤمنين بحال المُصاحبين للمَطَرِ المُشتملِ على رَعْدٍ وبَرْقٍ في وَضْعِهم أصابِعَهم داخِلَ آذانِهم بسَبَبِ الصَّواعِقِ المُصاحِبةِ للرّعْدِ والبرقِ خوفاً من الموتِ)، واللهُ مُدْرِكٌ الجاحدينَ نُبُوّةَ رسولِهِ مُحَمّدٍ، والجاحدينَ إنْزالَ اللهِ القرآنَ إليه من جميع حالاتِهم وأفعالِهم، لا يفوتُهُ شيءٌ من أحوالِهم وأفعالِهم

20 – وشَبَهُهُم في خوفِهِم من أنْ يكشِفَهم القرآنُ للرّسولِ والمُؤمنينَ، ويَكْشِفُ صِلاتَهم برُؤساءِ الضَّلالَةِ من اليهود، ويكشِفُ مَكْرَهم وتَدبيرَهم السَّيّيء بالمُؤمنين فيقْتُلُهُم المُؤمنون شَبَهُ المُصاحبينَ للمَطَرِ الذي فيه ظَلامٌ شديدٌ ورعْدٌ وبَرْقٌ حالةَ كونِهم يَقْرُبُ البَرْقُ أنْ يستَلِبَ قُوَّةَ أبْصارِهم لشِدَّتِهِ وقوَّتِهِ، ويَسْتَلِبَ قوَّةَ إدراكِهم بسببِ خوفِهم من أنْ تَنْزِلَ عليهم الصواعقُ المُصاحبةُ للبَرْقِ، وحالُهم حينَ يَلْمَعُ البَرْقُ في السّحابِ أنّهم كُلَّ وَقْتٍ يُنيرُ البَرْقُ طريقَهم وَسْطَ الظَّلامِ يَمْشُونَ فيه، وإذا ذَهَبَ عنهم ضوءُ البَرْقِ، وعادَ الظَّلامُ ثَبَتوا في مكانِهم مُتَحَيِّرين (شَبَّهَ اللهُ القرآنَ في كونِهِ كاشِفاً ما يُخفونَهُ في أنْفُسِهم بالبَرْقِ الكاشِفِ ما يُخْفِيهِ الظَّلامُ من الأشياء، وشَبَّهَ حالَهُم حين يُتْلَى عليهم القرآنُ بحالِ المُصاحبينَ للمَطَرِ الذي فيه ظَلامٌ شديدٌ ورعْدٌ وبَرْقٌ في كونِ القرآنِ يَقْرُبُ أنْ يَسْتَلِبَ عقولَهم بسَبَبِ خَوْفِهم من انْ يكشِفَ حقيقتَهم للرَّسولِ والمُؤمنين ويَفْضَحَهم، ويَقْرُبُ أنْ يَسْتَلِبَ إدراكَهم لأنّهم يَتَوَقَّعونَ أنْ تَنْزِلَ فيهم آيةٌ أو آياتٌ تكشِفُ للرَّسولِ والمُؤمنينَ حقيقَتَهم، وتكشفُ صِلاتَهم برُؤساءِ الضلا لةِ من اليهود، وحالُهُم في كونِهِم كُلَّ وَقْتٍ نَزَلَتْ فيه آياتٌ من القُرآنِ فيها ذِكْرٌ للغنائِمِ، وتقسيمِها بين المُؤمنين، وفيها وَعْدٌ من اللهِ بحصولِ المُؤمنينَ عليها مَشَوا للحصولِ على حِصَّتِهم منها مع المُؤمنين، وفي كونِهِم إذا ذَكَرَ القرأنُ نِفاقَهم، وحَرَمَهم من المنافِعِ المادِيَّةِ التي حصَلَ عليها المُؤمنون بسَبَبِ تَخَلُّفِهم عن الرَّسولِ والمُؤمنين في قتالِ المُشركين ثَبَتُوا في بُيوتِهم مُتحيّرين مِثْلُ حالِ المُصاحبينَ للمَطَرِ الذي فيه ظَلامٌ شديدٌ ورعْدٌ وبَرْقٌ في كونِهم كُلَّ وَقْتٍ يَلْمَعُ البَرْقُ في السَّحابِ ويُنيرُ طريقَهم وَسْطَ الظَّلامِ يَمْشُونَ فيه، وفي كونِهم إذا ذَهَبَ عنهم ضوءُ البَرْقِ، وعادَ الظَّلامُ ثَبَتوا في مكانِهم مُتَحَيِّرين) ولو شاءَ اللهُ أنْ يُزيلَ عنهم مراكزَ الفَهْمِ والاستجابةِ لِما يسمعونَهُ، ويأخُذَها كاملةً منهم، وأنْ يُزيلَ عنهم قُوَّةَ الفَهْمِ والإدْراكِ والفِطْنةِ، ويأخذَها كاملةً منهم عقوبةً لهم على نفاقِهم لأزالَها، لأنّ الله قديرٌ على كلّ شيء (يَدُلُّ المعنى على أنَّ اللهَ تعالى تَرَكَهم إلى ما اختارُوهُ من النِّفاقِ، ليكونَ حسابُهم يومَ القيامةِ على ما اختاروهُ بإرادتِهم) .

التحليل اللغوي:

8 – (ومن الناس .. الآخر) مرتبطة بما قبلها بالواو، للإخبار عن طائفة أخرى من الناس في المدينة زَمَنَ الرسول (ص)، (من الناس) مُتعلّقان بمُقدّر خبر مُقَدّم، (مَنْ) موصول مبتدأ مؤخّر، (يقول آمنّا .. الآخِر) صلة (مَنْ)، (يقولُ) مُضارع مرفوع، وفاعلُهُ ضميرٌ عائدٌ إلى (مَنْ) (آمَنّا ..) مقول القول، (آمَنّا) فعلٌ ماضٍ، وضمير المُتكلّمين فاعلُهُ، (بالله) مُتعلّقان بـ(آمَنّا)، (وباليومِ) عطف على (بالله)، (الآخِرِ) صفة لـ(اليوم)، (وما هم بمؤمنين) حال من فاعل (يقولُ)، (ما) نافية عاملة عمل (ليس) (هم) اسمها، (مؤمنين) مجرور لفظاً بالباء الزائدة لتوكيد نفي الخبر، في محلّ نصب خبر (ما)

9 – (يُخادعون .. آمنوا) حال ثانية من فاعل (يقولُ)، (يُخادعون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (اللهَ) مفعول به، وهو في الأصل مُضاف إليه قامَ مقامَ مُضافٍ مُقدَّر، والتقدير : (رسولَ الله)، لأنَّ خِداعَ رسولِ اللهِ هو خِداعُ اللهِ، (والذين) موصول عطف على (الله)، أي : (على رسول الله)، (آمنوا) صلة (الذين)، ويُقال : (خادعه، وخَدَعَهُ) : أظهرَ لهُ خلافَ ما يُخْفيه، و(خادعه، وخَدَعَهُ) : اسْتَتَرَ منه، (وما يخدعون إلاّ أنفسهم) حال من فاعل (يُخادعون)، والمعنى : ما يَجْعلونَ عاقِبَةَ خِداعِهِم إلّا بأنْفُسِهِم، (ما) نافية، (يخدعون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ (إلا) أداة حصر، (أنفسَهم) مفعول به، (وما يشعرون) عطف على ما قبلها، فهي حالٌ مثلها، (ما) نافية، (يشعرون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعله، ومفعولاه مُقدّران بدلالة السياق، و(شَعَرَ) : عَلِمَ

10 – (في قلوبهم مرض) مُستأنفة في سياق ما قبلها، (في قلوبهم) مُتعلّقان بمُقدّر خبر مُقدّم، (مَرَضٌ) مُبتدأ مُؤخَّر، وفيها استعارة، فقد استُعيرَ المَرَضُ للنفاق، (فزادهم الله مرضاً) مرتبطة بما قبلها بالفاء التي بمعنى السّبب، (زادَهم) فعل ماضٍ، والضمير (هم) مفعول به أوّل، (اللهُ) فاعل، (مرضاً) مفعول به ثان، و(زادَهُم اللهُ مَرَضاً) بمعنى : زادَهُم نِفاقاً بسببِ ما أنْزَلَ في المُنافقين من الآياتِ التي تُبيِّنُ حقيقتَهُم، وهذا مِثل قولِهِ تعالى (سورة التّوبة : 124 – 125) : “فأمَّا الذين آمَنُوا فزادَتْهُم إيماناً وهُم يَسْتَبْشِرون . وأمّا الذين في قُلُوبِهِم مَرَضٌ فزادَتْهُم رِجْساً إلى رِجْسِهِم”، (ولهم … يكذبون) مرتبطة بما قبلها بالواو لتوكيد معناها، (لهم) مُتعلّقان بمُقدّر خبر مُقدّم، (عذابٌ) مُبتدأ مُؤخّر، (أليمٌ) صفة لـ(عذاب)، (بما) الباء حرف جر بمعنى السببية، و(ما) مصدرية، (كانوا) (كان) واسمُها، (يكذبون) خبر (كان)، (يكذبون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعله، و(كَذَبَ) : أخْبَرَ عن الشيء بخلاف ما هو عليه في الواقع، والمصدر المُؤوّل (ما كانوا يكذبون) مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلّقان بـ(عذاب)

11 – (وإذا .. مصلحون) مُرتبطة بسياق ما قبلها بالواو، (إذا) ظرفية فيها في معنى الشرط، (قيل … الأرض) جملة الشرط بـ(إذا)، (قيلَ) فعلٌ ماضٍ مبني للمجهول، (لهم) مُتعلّقان بـ(قيل) في موضع نائب الفاعل، (لا .. الأرض) مقول القول، (لا) ناهية جازمة، (تُفسدوا) مُضارع مجزوم بحذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (في الأرض) مُتعلّقان بـ(تُفْسِدوا)، والألف واللام في الأرض للتعريف، والمُرادُ بها : أرض المدينة، و(أفْسَدَ فلانٌ) : فعلَ ما يُؤدّي إلى التّلَف والعَطَبِ والاضطراب والخلَل، (قالوا.. مُصلحون) جواب الشرط، (إنّما .. مُصلحون) مقول القول، (إنّما) كافّة ومكفوفة بمعنى الحصر، (نحن) مبتدأ، (مُصلحون) خبر، و(أصْلَحَ فلان) : فعلَ ما هو صالح نافع

12 – (ألا .. المُفسدون) مُستأنفة في سياق ما قبلها للتنبيه إلى حقيقتهم، (ألا) حرفُ استفتاح وتنبيه، (إنَّهم) (إنَّ) واسمها، (هم) ضمير الفصل لا محلَّ له، يُؤكد كونهم المخصوصين بالخبر، (المُفسدون) خبر (إنَّ)، (ولكن لا يشعرون) مرتبطة بما قبلها بالواو للاستدراك عليها بـ(لكن)، وتقدّم القولُ في (لا يشعرون)

13 – (وإذا… السُّفهاء) عطف على (وإذا قيل ..)،(قيل … الناس) جملة الشرط بـ(إذا)، وتقدّم القولُ في (قيل لهم)، (آمنوا .. الناسُ) مقول القول، (آمِنوا) فعلٌ ماضٍ، (واو الجماعة) فاعلُهُ، والكاف في (كما) بمعنى (مثل)، وهي صفة قامت مقام مفعول مطلق مقدّر، و(ما) مصدرية، (آمَنَ) فعلٌ ماضٍ، (الناسُ) فاعلُهُ، والمصدر المُؤوّل (ما آمَنَ الناسُ) في محلِّ جرّ بإضافة (الكاف) إليه، وتقدير: الكلام (آمنوا إيماناً مِثْلَ إيمانِ الناس)، (قالوا … السُّفهاء) جواب (إذا)، (أنُؤمن .. السُّفهاء) مقول القول، الهمزة للاستفهام الإنكاري، (نُؤْمنُ) مُضارع مرفوع، وفاعلُهُ ضمير المُتكلّمين مُستتراً، وتقدّم القول في (كما)، والمصدر المُؤوّل (ما آمَنَ السُّفهاءُ) في محلِّ جرّ بإضافة (الكاف) إليه، وتقدير: الكلام (أنُؤْمِنُ إيماناً مِثْلَ إيمانِ السُّفهاء)، و(السّفيه) : الجاهل، (ألا … لا يعلمون) مُستأنفة في سياق ما قبلها، وتقدّم القول في مثلها

14 – (وإذا … آمنا) عطف على ما قبلها، (لقوا الذين آمنوا) جملة الشرط بـ(إذا)، (لقوا) فعل ماضٍ، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (الذين) موصول مفعول به، (آمنوا) صلة (الذين)، (قالوا آمنّا) جواب (إذا)، (قالوا) فعل ماضٍ (واو الجماعة) فاعله، (آمَنّا) مقول القول، (آمَنّا) فعل ماضٍ، وضميرُ المُتكلمين فاعلُهُ، ويدلّ السياقُ على مفعول مُطلق مُقدّر، والتقدير : (كما آمنتم)، (وإذا خلوا … معكم) عطف على ما قبلها، (خَلَوا إلى شياطينهم) جملة الشرط بـ(إذا)، (خَلَوا) فعل ماض، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (إلى شياطينهم) مُتعلّقان بـ(خَلوا)، و(الشيطانُ) : كُلُّ مُتَمَرِّدٍ مُفْسِد، واستعار (الشياطين) لرؤساء الضلالة، و(خلا بصاحبه) : انفَرَدَ به في مكان الخلْوَة، (قالوا إنّا معكم) جواب (إذا)، (إنّا معكم) مقول القول، (إنّا) (إنَّ) واسمها، (معكم) ظرف مكان مُتعلّق بمُقدّر خبر (إنّ)، (إنّما نحن مستهزئون) توكيد لمضمون ما قبلها

15 – (الله يستهزئ بهم) مُستأنفة في سياق ما قبلها للردّ على استهزائهم، وهي في الأصل جملة فعلية قُدِّمَ فيها الفاعل إلى موضع المُبتدأ لتخويفهم بقَرْعِ أسْماعِهم باسْمِ اللهِ العظيم، والجملة الفعلية تدلُّ على معنى الحدوثِ والتَّجَدُّد، واستعارَ الاستهزاء الذي أسندَهُ إليه لتدبيرِهِ أمْراً يُخفيه عنهم، ليُعاقبهم به مُقابلَ إخفائِهم أمْرَ استهزائهم بالمؤمنين، وفيه أيضاً ما يُعْرَفُ بفنِّ المشاكلة، لأنهم أسندوا الاستهزاء إليهم، فأسندَ اللهُ الاستهزاءَ إليه، (ويمُدّهم في طغيانهم) عطف على (يستَهْزِئ بهم)، (يمُدُّهم) مُضارع مرفوع، وفاعلُهُ ضميرٌ عائد إلى (الله)، والضمير (هم) مفعول به، (ومَدَّهُ في الشيء) : زادَهُ فيه، (في طُغيانِهم) مُتعلّقان بـ(يمُدّهم)، و(طغيانهم) : تجاوزهم الحَدّ في تكذيبهم بنُبُوّة الرسول (ص)، والقرآن، وفي استهزائهم بالمُؤمنين، (يعمهون) حال من الضمير (هم) في (يمُدّهم)، (يعمهون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، و(عَمَهَ فلانٌ) : تحَيَّرَ وتَرَدَّدَ في الطريق لم يدرِ أينَ يذهَبُ

16 – (أولئك .. بالهدى) مُستأنفة في سياق ما قبلها، (أولئك) مُبتدأ، (الذين) موصول خبر، (اشْتروا .. بالهُدى) صلة (الذين)، (اشتروا) فعل ماض، (واو الجماعة) فاعله، (الضلالةَ) مفعول به، و(الضلالة) : الباطل، والعُدول عن الطريق المُستقيم عَمْداً أو سَهْواً، و(اشترى شيئاً) : أخَذَهُ بثمن، (بالهُدى) مُتعلّقان بـ(اشْتروا)، والباء بمعنى : البَدَل، (فما .. تجارتُهم) مرتبطة بما قبلها بالفاء، (ما) نافية، (رَبِحَتْ) فعلٌ ماضٍ، والتاء الساكنة للتأنيث، (تجارَتُهم) فاعلُهُ، و(رَبِحَتْ تجارتُهُ) : كَسِبَتْ، و(الرِّبْحُ) : المَكْسَبُ، و(التّجارة) : ما يُتْجَرُ به، (وما .. مُهتدين) عطف على ما قبلها، (ما) نافية، (كانوا) فعل ماضٍ تام، (واو الجماعة) فاعله، (مُهتدين) حال من فاعل (كان)، واستعار الاشتراء لأخْذِ الضلالة بَدَلَ الهُدى، ورشح لهذه الاستعارة بـ(فما ربحت تجارتهم)

17 – (مثلهم .. ناراً) مستأنفة في سياق ما قبلها، (مثلُهم) مبتدأ، و(المَثَل) : الشّبَهُ، (كمثل) الكاف حرف جر زائد لمعنى توكيد المُشابهة، والجار والمجرور خبر المُبتدأ، و(مثَل) مُضاف و(الذي) موصول مضاف إليه، ولفظُهُ مُفرد بمعنى الجماعة، لأنّهُ أعاد الضمير إليه جمعاً في (بنورِهم) مراعاة للمعنى، (اسْتوقد ناراً) صلة (الذي)، (استوقد) فعلٌ ماضٍ، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (الذي)، (ناراً) مفعول به، و(اسْتَوقَدَ) بمعنى : (أوْقَدَ)، والألف والسين والتاء زائدة لا لمعنى الطَّلَب، بل لمعنى القَصْد إلى الانتفاع بها، وسببُ إيقاده النار محذوف، وتقديره : (لينتفع بها)، (فلمّا … بنورهم) مرتبطة بالفاء بكلام مُقدّر قبلها دلَّ عليه السياق، والتقدير : (فأوقدها)، و(لمّا) ظرفية فيها معنى الشرط، (أضاءتْ ما حولَه) جملة الشرط بـ(لمّا)، (أضاءتْ) فعل ماضٍ، والتاء الساكنة للتأنيث، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (ناراً)، (ما) موصول مفعول به، (حولَهُ) ظرف مكان مُتعلّق بمُقدّر صلة (ما)، (ذهب الله بنورهم) جواب (لمّا)، (ذَهَبَ) فعلٌ ماضٍ، (اللهُ) فاعلُهُ، (بنورِهم) مُتعلّقان بـ(ذَهَبَ)، وقال : (ذهب بنورهم) ولم يقل : (أذهب نورَهم)، لأنَّ في (ذهب به) معنى : أزالَهُ وأخَذَهُ منهم، ليفيد معنى أنّهم لا يبقى لهم مَطْمَعٌ في عودةِ النّور، وقال : (بنورهم) فأضاف النور إلى ضميرهم لمعنى : النور الذي حصلوا عليه من إيقاد النار، ولم يقل : (بضوئهم) مراعاة لـ(أضاءت)، لأنّ الضوء لِمَا بالذات، كضوء الشمس والنار، و(النور) لِمَا بالعَرَض والاكتساب، (وتركهم في ظلمات) عطف على ما قبلها، (تَركهم) فعل ماضٍ، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (الله)، والضمير (هم) مفعول به أوّل، (في ظلمات) مُتعلّقان بمُقدّر مفعول به ثان، و(ترك) هنا بمعنى : (صَيَّرَ)، و(الظُّلُمات) : الظلامُ الشديد بمعنى : ظُلْمَةٌ فوقَ ظُلْمَة،  (لا يُبصرون) حال من ضمير الغائبين، والآية على معنى التشبيه التمثيلي

18 – (صمّ بكم عمي) أخبارٌ متعددة لمبتدأ مُقدّر، تقديره : (هم)، والجملة مُستأنفة في سياق ما قبلها لبيان حقيقة المنافقين، والمعنى فيها على  التّشبيهِ البليغ، و(الأصَمُّ) : الذي ذَهَبَ سمعُهُ و(الأبْكَمُ) : الأخرس الذي لا يتكلم، (فهم لا يرجعون) مرتبطة بما قبلها بالفاء التي بمعنى السبب، (هم) مُبتدأ، (لا يرجعون) خبر، (لا) نافية، (يرجعون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعله، و(رَجَعَ إلى الشيء) : ردَّ إليه، ويدلّ معنى (رجَعَ) على مُتعلّق بـ(يرجعون) مُقدّر، والتقدير : (إلى هُدَى الإسلام)

19 – (أو … الموت) عطف على (مَثَلُهم كمثل ..)، (الكاف) بمعنى (مَثَل)، فهو خبر لمُبتدأ مُقدّر دلَّ عليه ما قبلَهُ، وهو مُضاف إلى (صَيِّب)، والتقدير : (أو مَثَلُهم كصَيّب)، و(صَيِّب) في الأصل مضاف إليه قامَ مقامَ مُضافٍ مُقدّرٍ يدلُّ عليه السياق، والتقدير : (أو مَثَلُهم مَثَلُ أصحابِ صيِّب)، و(الصَّيِّبُ) : المطر النافِع، (من السماء) مُتعلّقان بمُقدّر صفة لـ(صَيّب)، (انظر المُراد بـ(السّماء) حيثُ وَرَدَتْ في القرآن في الآية 133 من سورة آل عمران)، والمُراد بـ(السماء) هنا : السّحاب الذي يكونُ في إحدى طَبَقات الغلاف الجوّي للأرض التي يشملها معنى السّماء،، (فيه ظلمات) جملة اسميّة صفة لـ(صيّب)، (فيه) مُتعلّقان بمُقدّر خبر مُقدّم، (ظُلُماتٌ) مُبتدأ مُؤخّر، (ورعدٌ وبرقٌ) عطف على (ظلمات)، (يجعلون … الموت) حال من (أصحاب صيّب)، (يجعلون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعله، و(جعلَ) هنا بمعنى : وَضَعَ، (أصابعَهم) مفعول به، (في آذانهم) مُتعلّقان بـ(يجعلون)، و(في) بمعنى الظرفيّة، (من الصواعق) متعلّقان بـ(يجعلون)، و(من) بمعنى السببيّة، (حذرَ) مفعول لأجله مضاف إلى (الموت)، ومعنى الآية على التشبيه التمثيلي أيضاً، (والله محيط بالكافرين) مرتبطة بما قبلها بالواو، (اللهُ) مُبتدأ، (مُحيطٌ) خبر، (بالكافرين) مُتعلّقان بـ(مُحيط)، و(أحاطَ بالأمْرِ) : أدْرَكَهُ من جميع نواحيه

20 – (يكاد .. أبصارهم) يَدُلُّ السّياقُ على جملةٍ مُقدّرةٍ قبلها، والتقدير : (ومَثَيُهُم كمَثَلِ أصحابِ صَيِّبِ فيه ظُلُماتُ ورَعْدٌ وبَرْقٌ)، فتكون الجملة (يكادُ .. أبصارَهم) حال من (أصحابِ صَيِّبِ)، (يكادُ) مُضارع من أفعال المُقاربة، (البرقُ) اسم (يكادُ)، (يخْطَفُ أبصارَهم) خبر (يكادُ)، (يخْطَفُ) مُضارع مرفوع، وفاعلُهُ ضميرٌ مُستترٌ عائدٌ إلى (البرق)، و(خطفَ البَرْقُ البَصَرَ) : اسْتَلَبَهُ وذَهَبَ به، (كُلَّما … فيه) حال ثانية من (أصحابِ صَيِّبِ)، (كلَّما) ظرف زمان فيه معنى الشرط، (أضاءَ لهم) جملة الشرط بـ(كُلّما)، (أضاءَ) فعلٌ ماضٍ، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (البرق)، ومفعولُهُ مُقدّر، تقديره : (طريقَهم)، (مشوا فيه) جواب (كلّما)، (مَشَوا) فعل ماضٍ (واو الجماعة) فاعلُهُ، (فيه) مُتعلّقان بـ(مَشَوا)، (وإذا .. قاموا) عطف على ما قبلها، وفيها مُماثَلَة أخرى، (أظلمَ عليهم) جملة الشرط بـ(إذا)، (أظلَمَ) فعل ماض، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (البرق)، و(أظلم البرقُ) : ذهب ضوؤُهُ، (عليهم) مُتعلّقان بـ(أظْلَمَ)، (قاموا) جواب (إذا)، (قاموا) فعلٌ ماضٍ (واو الجماعة) فاعلُهُ، و(قام) بمعنى : ثَبَتَ مُتَحَيِّراً، يُقال : (قام الماء) أي : ثَبَتَ مُتَحَيِّراً لا يجد منفذاً، والمعنى فيما تقدّم على التشبيه التمثيلي أيضاً، (ولو … وأبصارهم) مرتبطة بما قبلها بالواو، (شاءَ اللهُ) جملة الشرط بـ(لو)، (شاءَ) فعل ماضٍ، (اللهُ) فاعلُهُ، ومفعول (شاء) مصدر مُؤوّل مُقدّر بدلالة جواب (لو)، والتقدير : (أنْ يَذْهَبَ بسَمْعِهم وأبصارِهم)، و(ذَهَبَ به) : أزالَهُ، (لذهب .. وأبصارهم) جواب (لو)، واللام واقعة في جوابها، (بسمعهم) مُتعلّقان بـ(ذَهَبَ)، (وأبصارهم) عطف على (سمعهم)، (إنّ الله … قدير) تعليل لما قبلها، (اللهَ) اسم (إنّ)، (على كلِّ) متعلّقان بـ(قدير)، (قديرٌ) خبر (إنّ) .

يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ٢١ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٢٢ وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٢٣ فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ ٢٤

المعنى في ضوء التحليل االلغوي :

21 – يا أيُّها المُنافقونَ واليهودُ الموجودونَ في المدينةِ زَمَنَ الرسولِ مُحَمّدٍ، اخْضَعُوا لسيّدِكم ووَلِيّكم، ومالكِ أمْرِكم، والقيِّمِ عليكم، ومُدبّرِ شؤونِكم، والمُنْعِمِ عليكم بأصناف النِّعَم، ومُتَعَهّدِكم بالتَّربيةِ والرِّعايةِ والإصْلاحِ، الذي صَنَعَكم وأبْدَعَكم وقَدَّرَ صُنْعَكم على ما يُريدُ، وصَنَعَ الذين كانُوا من قَبْلِكُم، وأبْدَعَهم وقَدَّرَ صُنْعَهم على ما يُريدُ بأنْ تستجيبوا له فيما أمَرَكم به من الإيمانِ برسولِهِ محمدٍ، وبالكتابِ الذي أنْزَلَهُ إليه، لكي تَحْفَظُوا أنْفُسَكم من عذابِهِ، وهذا هو المطلوبُ منكم، وهو ما تَرْجُونَهُ

22 – هو الذي صَيَّرَ لأجلِكم الأرضَ مُنْبَسِطةً صالِحةً للعيشِ والاسْتِقْرارِ عليها، والتّصَرُّفِ بها، وصَيّرَ السماءَ (أي : طَبَقاتِ الغلاف الجوي للأرض) سَقْفاً مرفوعاً مُحْكَماً (يَدُلّ االمعنى على أنّهُ تعالى جَعَلَ طَبَقاتِ الغلاف الجوي للأرض سَقْفاً لأجْلِ الحِفاظِ عليهم من النيازِكِ والشُّهُبِ والأشِعَّةِ الضَّارّةِ)، وأنْزَلَ من السّحابِ ماءَ المَطَر، فأنْبَتَ بِهِ رِزْقاً لكم حالةَ كونِهِ من الثَّمراتِ، فإذا كانَ اللهُ كذلك فلا تُنْشِئوا للهِ أشباهاً ونُظَراءَ في الطاعةِ والانقيادِ حالةَ كونِكم تَعْلَمُونَ أنَّهُم ليسوا أشباهاً ونُظراءَ لله (يَدُلُّ السِّياقُ والمعنى على انَّ المُنافقينِ واليهودَ أنْشَؤا للهِ أشباهاً ونُظَراءَ في الطّاعةِ والانقيادِ، وهم عُلماءُ اليهودِ وأحبارُهم)

23 – وإنْ كُنْتُم (الخِطابُ للمُنافقين واليهود) في شكٍّ من القرآنِ الذي أنزلناهُ على عبدِنا مُحَمّدٍ، وتَتَّهِمُونَهُ بأنّهُ ليس نازلاً من عِنْدِنا إليه، وبأنّهُ من اخْتِلاقِ مُحَمّدٍ، فائْتُوا بسُورَةٍ كائنةٍ من مِثْلِ سُوَرِ القرآنِ في حُسْن اِلنَّظْمِ والفصاحةِ والإخبارِ عن الأمم الماضية، والإخبارِ عن المُسْتَقْبَلِ، وفي الأحكامِ والتّشريعاتِ والحِكَمِ والأمثالِ (يدلُّ قولُهُ (على عبْدنا) على أنَّ اللهَ تعالى شَرَّفَ رسولَهُ مُحَمّداً بصفةِ العبوديّةِ لَهُ، وفي هذا تعريضٌ بمَنْ يقول : عُزَيرُ ابنُ الله، وبمَنْ يقول : المسيحُ ابنُ الله، ويَدُلُّ تنكير (سورة) ووَصْفها بـ(من مثله) على تَحَدّيهم أنْ يأتوا بأيِّ سُورَةٍ، سواءٌ أكانتْ طويلةً أم قصيرةً)، وإنْ كُنْتُمْ صادقينَ في ادّعائِكم أنّ مُحَمّداً اخْتَلَقَهُ من نفسِهِ فادْعُوا من دونِ اللهِ الذين يُؤدّونَ الشَّهادَةَ على أنَّ القُرآنَ من اختلاقِ مُحمدٍ (وهم أحبارُ اليهود وعُلماؤهم الذين يَخضَعُونَ لهم، ويُطيعونَهم كطاعةِ اللهِ)، ليُعِينُوكُم على الإتيانِ بسورةٍ من مِثْلِ القرآنِ

24 – فإنْ لم تأتُوا بسورةٍ كائنةٍ من مِثْلِ سُوَرِ القرآنِ مع اسْتِعانَتِكُم بهم – وأُؤكِّدُ أنّكم لن تأتوا بسُورَةٍ كائنةٍ من مِثْلِ سُوَرِ القُرآنِ على طولِ الأزمنةِ وامتدادِ الأمكنةِ – فخافُوا النّارَ التي وَقُودُها النّاسُ والحِجارةُ حالةَ كونِها قد أعَدَّها اللهُ للجاحدينَ وحْدانيَّتَهُ وربوبيّتَهُ، ونبوّةَ رسولِهِ مُحَمّدٍ، والقرآنَ الذي أنْزَلَهُ إليه، واحفظوا أنفسَكم من عذابها .

التحليل اللغوي:

21 – (يا أيُّها … تتقون) مستأنفة في سياق ما تقدّم، (يا) حرف نداء ،(أيُّ) وُصْلة لنداء ما فيه (ال)، (الناسُ) مُنادَى، ويدلّ سياق الآيات وكون السورة نزلتْ في المدينة المنوّرة على أنّ المُرادَ بـ(النّاس) هنا : المنافقون واليهودُ الذين كانوا في المدينة زَمَنَ رسولِ الله (ص)، (اعبدوا ربّكم) ما نودي لأجله، (اعبُدوا) أمْرٌ مبني على حذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (ربَّكم) مفعول به، و(عَبَدَ الله) : انقاد له وخضع، ولـ(الربّ) معانٍ ستتبيّن في المعنى، (الذي) موصول صفة لـ(ربَّكم)، (خَلَقكم) صلة (الذي)، (خَلَقَ) فعل ماضٍ، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (الذي)، والضمير (كم) مفعول به، (والذين) موصول عطف على الضمير (كم)، أي : (وخلق الذين ..)، (من قبلكم) مُتعلّقان بمُقدّر صلة (الذين)، (لعلكم تتقون) تعليل لما قبلها، (لعلّكم) (لعلَّ) حرف نصبٍ من أخواتِ (إنّ)، والضمير (كم) اسمها، (تتّقون) خبرها، (تتّقون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعله، وهذا التركيب يتكرّرُ في القرآن، وهو بمعنى التعليل للأمْرِ المطلوبِ حصولُهُ مع رجاء حصول المُخاطبين به عليه

22 – (الذي) موصول خبر مُبتدأ مُقدّر، تقديره : (هو الذي)، (جعل .. فراشاً) صلة (الذي)، (جَعَلَ) فعل ماضٍ بمعنى (صيَّرَ)، وفاعلُهُ ضممير عائد إلى (الذي)، (لكم) مُتعلّقان بـ(جعلَ)، (الأرضَ) مفعول به أوّل، (فراشاً) مفعول به ثانٍ، و(الفِراش) : المُنْبَسِطُ من الأشياء، (والسماءَ بناءً) عطف على (الأرض فراشاً)، و(البناء) : ما ارتفَعَ من سقفٍ ونحوِهِ، (انظر المُراد بـ(السّماء) حيثُ وَرَدَتْ في القرآن في الآية 133 من سورة آل عمران)، والمُراد بـ(السماء) هنا : طَبقاتُ الغلاف الجوي للأرض التي يشملها معنى السماء، (وأنزل .. ماءً) عطف على (جعل ..)، (أنْزَلَ) فعل ماضٍ وفاعله ضمير عائد إلى (الذي)، (من السماء) مُتعلّقان بـ(انزَلَ)، و(السّماءُ) : السّحابُ وتقدّمَ القولُ فيها (في الآية : 19)، (ماءً) مفعول به، (فأخرج … لكم) عطف على ما قبلها بالفاء، (أخرَجَ) فعل ماضٍ، وفاعله ضمير مُستتر عائد إلى (الذي)، و(أخْرَجَ اللهُ البَقْلَ) : أنْبَتَهُ من الأرض، (به) مُتعلّقان بـ(أخْرَج)، (من الثمرات) مُتعلّقان بمُقدّر كان صفة لـ(رزقاً)، فلمّا قُدِّم صار في موضع نصب على الحال منه، (رزقاً) مفعول به، (فلا تجعلوا .. أنداداً) مُرتبطة بما قبلها بالفاء الفصيحة، لأنّها أفصحت عن شرط مُقدّر، (فلا تجعلوا ..) جواب الشرط المُقدّر، (لا) ناهية جازمة، (تجعلوا) مُضارع مجزوم بحذف النون، (واو الجماعة) فاعله، (للهِ) مُتعلّقان بـ(تجعلوا)، (أنداداً) مفعول به، و(جَعَلَ) هنا بمعنى : (أنْشأَ)، و(النِّدُّ) : المِثْلُ والنّظير، (وأنتم تعلمون) حال من فاعل  (تجعلوا)، (أنتم) مُبتدأ، (تعلمون) خبر، (تعلمون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ

23 – (وإنْ كنتم .. مثله) مرتبطة بما قبلها بالواو، (كنتم … عبدنا) جملة الشرط، (كنتم) فعلٌ ماضٍ ناقص، والضمير (تُم) اسمُهُ، (في ريبٍ) مُتعلّقان بمُقدّر خبر (كان)، و(الرَّيبُ) : الشَّكّ مع التُّهِمَة، (ممّا) متعلّقان بـ(ريب)، و(ما) موصول، (نَزَّلْنا على عبدنا) صلة (ما)، (نَزَّلْنا) فعل ماضٍ، وضمير المُتكلّمين فاعلُهُ، والعائد مُقدّر، وهو المفعول به، والتقدير : (نَزّلْناهُ)، (على عبدنا) مُتعلّقان بـ(نزّلنا)، (فائتوا .. مثله) جواب الشرط، (ائتوا) أمْرٌ مبني على حذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (بسورة) مُتعلّقان بـ(ائتوا)، (من مثله) مُتعلّقان بمُقدّر صفة لـ(سورة)، و(من) لتبيين الصّفة، (وادعوا … صادقين) عطف ما قبلها، وهي جملة شرطية تقدّم فيها جوابُ الشرط على الشرط للاهتمام به، وأصْلُ نَظْمُ الجملة : (إنْ كنتم صلدقين فادعوا شُهداءكم من دونِ الله)، (ادْعوا) مثل (ائتوا) في القول،  (شُهداءكم) مفعول به، و(الشهيد) : الذي يُؤدِّي الشهادة على شيء، (من دون) مُتعلّقان بـ(ادعوا)، و(دون) مُضاف إلى (الله)، والجملة جواب الشرط قُدِّمَ للاهتمام به، (إنْ) حرف شرط جازم، (كنتم صادقين) جملة الشرط في محلّ جزم، (كنتم) (كان) واسمها، (صادقين) خبر (كان)

24 – (فإن … للكافرين) مرتبطة بما قبلها بالفاء، (لم تفعلوا) جملة الشرط، (تفعلوا) مُضارع مجزوم بـ(لم)، وعلامة جزمه حذف النون، (واو الجماعة) فاعله، (ولن تفعلوا) مُعترضة لتوكيد استمرار النفي في الزمن المُستقبل، (لن) حرف نصب واستقبال ونفي، (تفعلوا) مُضارع منصوب بـ(لن)، وعلامة نصبه حذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (فاتقوا النار … والحِدارة) جواب الشرط، (اتّقوا) أمْرٌ مبني على حذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (النارَ) مفعول به، (التي) موصول صفة لـ(النار)، (وقودُها الناسُ والحِجارة) صلة (التي)، (وقودُها) مُبتدأ، (الناسُ) خبر، (والحجارة) عطف على (الناس)، (أُعدِّت للكافرين) حال من (النار) بتقدير (قد)، (أُعِدّتْ) فعل ماضٍ مبني للمجهول، والتاء الساكنة علامة التأنيث، ونائب الفاعل ضمير عائد إلى (النار)، (للكافرين) مُتعلّقان بـ(أُعِدّتْ)

وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ وَلَهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَهُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٥

المعنى في ضوء التحليل االلغوي :

25 – وأخْبِرْ الذين آمَنُوا بوحدانيّةِ اللهِ، وصَدَّقُوا بنُبُوّةِ رسولِهِ مُحَمَّدٍ وبالقرآنِ الذي أنْزَلَهُ اللهُ إليه من الرِّجالِ والنِّساءِ، وفَعَلُوا الأعمالَ النّافِعَةَ المُناسبةَ للناس بعدَ إيمانِهم خَبَراً سارَّاً بأنَّ لهم في الحياةِ الآخرةِ جنّاتٍ تَجْرِي من تَحْتِها الأنهارُ، وحالُهُم فيها أنَّهُم كُلَّ وَقْتٍ يُعْطِيهم اللهُ طعاماً من أشجارِها، أي : من ثِمارِها قالوا : هذا الذي رَزَقَنا اللهُ به في الحياةِ الدُّنيا من قَبْلِ انْتِقالِنا إلى الحياةِ الآخرةِ، وجاءَ الخَدَمُ بالطعامِ من ثِمارِ الجنّةِ حالةَ كونِهِ يُشْبِهُ بعضُهُ بعضاً في اللّونِ والشّكلِ والحَجْمِ حتى يلتبسَ بعضُهُ ببعض، ولكنَّهُ يَخْتَلِفُ في الطَّعْمِ، ولهُم (أي : للرجالِ وللنِّساءِ) أزواجٌ مُطهّرةٌ (أي : مُطَهّرة من الأقذارِ وسُوءِ الأخلاقِ والطِّباعِ، والمعنى)، وهم (أي : الرجالُ الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ وزوجاتُهم، والنساءُ اللاتي آمَنَّ وعَمِلْنَ الصالحاتِ وأزواجُهُنّ) مُقيمونَ فيها إقامةً دائمةً، لا يُخْرِجُهم منها أحَدٌ، ولا يُصيبُهم فيها زوالٌ ولا فناءٌ .

التحليل اللغوي:

25 – (وبشّر … الأنهار) مرتبطة بما قبلها بالواو، (بَشِّرْ) أمْرٌ، وفاعله ضمير المُخاطب مُستتراً، (الذين) اسم موصول مفعول به، وهو كناية عن الرجال والنساء، وجيء به بلفظ المُذكَّر على التغليب، وكذلك جاءت بقيّةُ الضمائر بلفظ المُذكّر على التغليب، (آمنوا) صلة (الذين)، و(بَشَّرَ فلاناً) : أخْبَرَهَ بخبر سارٍّ، (وعملوا الصالحات) عطف على صلة (الذين)، (عملوا) فعل ماض، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (الصّالحات) مفعول به، و(عَمِلَ صالحاً) : فَعَلَ ما هو نافِعٌ مُناسِبٌ، (أنَّ) حرف توكيد ونصب ومصدر، (لهم) مُتعلّقان بمُقدّر خبر (أنَّ) مُقدّم، (جَنّاتٍ) اسم (أنَّ) مُؤخَّر منصوب بالكسرة، لأنّهُ جمع مُؤنَّث سالم، والمصدر المُؤوّل (أنّ لهم جناتٍ) في محلّ نصب بنزع الخافض، (تجري .. الأنهار) صفة لـ(جنات)، (تجْري) مُضارع مرفوع بضمّة مُقدّرة، (من تحتها) مُتعلّقان بـ(تجري)، (الأنهارُ) فاعلُهُ، (كلّما … من قبل) حال من الضمير (هم) في (لهم)، (كلّما) ظرف زمان فيه معنى الشرط، (رُزِقوا … رِزْقاً) جملة الشرط بـ(كُلَّما)، (رُزِقوا) فعل ماضٍ مبني للمجهول، (واو الجماعة) نائب الفاعل، وكان مفعولاً به أوّل قبل بناء الفعل للمجهول، و(رَزَقَهُ اللهُ رِزْقاً) : أعطاهُ اللهُ إيّاه، (منها) متعلّقان بمُقدّر كان صفةً لـ(رِزْقاً) فلمّا قُدِّمَ صار في موضع نصْبٍ على الحال منه، والهاء في الأصل مُضاف إليه قام مقام مُضاف مُقدّر، والتقدير : (من أشجارها)، (من ثمرة) بدل من (منها)، و(ثَمَرة) : واحدة الثّمَر، وجَرُّها بـ(من) التي بمعنى التبيين مع تنكيرها يدلّ على أنّ المُراد : (من كُلِّ نوعٍ من ثمارها)، (رِزْقاً) مفعول به ثانٍ، وهو بمعنى (طعاماً)، وليس مصدراً، (قالوا .. قبلُ) جواب (كلّما)، (هذا .. من قبلُ) مقول القول، (هذا) اسم إشارة مُبتدأ، (الذي) موصول خبر المُبتدأ، (رُزِقْنا من قبلُ) صلة (الذي)، (رُزِقْنا) مثل (رُزِقوا)، والمفعول به الثاني مُقدّر عائد إلى (الذي)، والتقدير : (رَزَقَنا اللهُ إيّاه)، (من قبلُ) مُتعلّقان بـ(رُزِقْنا)، و(قبلُ) ظرف زمان مبني على الضّمّ في محلّ جر بـ(من) لقطعه عن المُضاف إليه مع إرادةِ معناه، (وأُتُوا به مُتشابهاً) مرتبطة بما قبلها بالواو، (أُتوا) فعل ماضٍ مبني للمجهول، (واو الجماعة) نائب الفاعل، (به) مُتعلّقان بـ(أُتوا)، و(الهاء) ضمير عائد إلى (رِزْق)، و(أتى به إليه) : جاءه به، (مُتشابهاً) حال من الضمير المجرور في (به)، و(تَشابَهَ الشيئان) : أشْبَهَ كُلٌّ منهما الآخر حتى الْتَبَسا، (ولهم .. مطهرة) مُرتبطة بما قبلها بالواو، (لهم) مُتعلّقان بمُقدّر خبر مُقدّم، وأراد بـ(لهم) : (للرجالِ وللنِّساءِ) على التغليب، (فيها) مُتعلّقان بـ(مُطَهَّرة)، (أزواج) مُبتدأ مُؤخّر، وهو جمع (زوج)، و(الزوج) : بَعْلُ المرأة، و(الزوج) : زوجةُ الرّجُل، (مُطَهَّرة) صفة لـ(أزواج)، (وهم فيها خالدون) عطف على ما قبلها، (هم) مُبتدأ، (فيها) مُتعلّقان بـ(خالدون) .

۞إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا بَعُوضَةٗ فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ ٢٦

المعنى في ضوء التحليل االلغوي :

26 – إنّ اللهَ لا يَسْتَحِي (أي : لا يخْجَلُ) من أنْ يَذْكُرَ في القرآنِ مثلاً، أيَّ مَثَلٍ يُمَثِّلُ به لبيانِ معنى يُريدُهُ، أي : لا يَسْتَحِي من أنْ يَذْكُرَ بعوضةً يَجْعَلُها مَثَلاً، فشيئاً أكبرَ منها يَجْعَلُهُ مَثَلاً، فأمَّا الذين آمنوا بأنَّ القُرآنَ مُنْزَلٌ من اللهِ إلى رسولِهِ مُحَمّدٍ فيَعْلَمُونَ أنّ المَثَلَ الذي يَضْرِبُهُ اللهُ لبيانِ معنى يُريدُهُ هو الحَقُّ حالةَ كونِهِ نازلاً من رَبِّهم مُطابِقاً للحِكْمَةِ من وراءِ ضَرْبِهِ، وأمّا الذين جَحَدوا القرآنَ (المُرادُ بهم أحبارُ اليهودِ وعُلماؤهم)، وأنْكَروا أنَّهُ مُنْزَلٌ من اللهِ إلى رسولِهِ مُحَمّدٍ فيقولون مُشَكِّكينَ في صُدُورِهِ من الله : أيُّ شيءٍ أرادَهُ اللهُ بهذا المَثَل في التَّمْثِيلِ به ؟ قُلْ جواباً لهم : يجْعَلُ اللهُ بالمَثَلِ الذي يذكُرُهُ كثيراً من النّاس يَزِلّونَ عن الحِكْمَةِ من وراءِ ذِكْرِهِ، (وهم الجاحدون بالقُرآنِ، المُشَكّكون به)، ويَجْعَلُهُم مُتَحَيّرين مُتَرَدِّدين فيه، جزاءً لهم على جُحُودِهم وتشكيكِهم بالقُرآنِ، فلا يَقْدِرونَ على مَعْرِفَةِ الموعِظَةِ والحِكْمةِ من وراءِ المَثَل، ويَجْعَلُ اللهُ بِهِ كثيراً من النّاسِ مُهْتَدِينَ إلى الحِكْمَةِ من وراءِ ذِكْرِهِ، (وهم المُؤمنون بأنَّهُ مُنْزَلٌ من اللهِ إلى رسولِهِ مُحَمّدٍ)، جزاءً لهم على إيمانِهم، وواقعُ الحال أنّ اللهَ ما يجْعَلُ أحداً يَزِلُّ بالمَثَلِ الذي يَذْكُرُهُ في القُرآنِ عن الحِكْمَةِ من وراءِ ذِكْرِهِ إلاّ الخارجين عن طاعةِ أمْرِهِ بالإيمانِ بنُبُوَّةِ مُحَمّدٍ، وبالقرانِ الذي أُنْزِلَ إليه (يدلّ المعنى على أنّ كُلَّ شيءٍ في القُرآنِ بما في ذلك ذِكْرُ الأمثالِ يُبيّنُ شيئاً من الأشياءِ التي يحتاجُها الإنسانُ في حياتِهِ، فالمُؤمنُ بأنَّ القرآنَ كتابُ اللهِ الذي أنزلَهُ إلى رسولِهِ مُحَمّدٍ (ص)، وجَعَلَهُ تبياناً لكلِّ شيء يَهْدِيهِ اللهُ إلى أخْذِ مَوْعِظةٍ أو حِكْمَةٍ أو حُكْماً أو تشريعاً أو معرِفَةً من المعارِفِ الإلهيّةِ من أمثالِ القرآنِ وقَصَصِهِ وآياتِهِ، والذي لا يُؤْمِنُ بأنَّ القرآنَ كتابُ اللهِ الذي أنزلَهُ إلى رسولِهِ مُحَمّدٍ (ص) لا يهديه الله إلى أخْذِ مَوْعِظةٍ أو حِكْمَةٍ أو حُكمٍ أو تشريعٍ أو معرفةٍ من المعارف الإلهيّة من أمثالِ القرآنِ وقَصَصِهِ) .

التحليل اللغوي:

26 – (إنّ الله … فوقها) مستأنفة في سياق ما تقدّم للتعقيب على المَثَلَيْن السابقين، (اللهَ) اسم (إنَّ)، (لا يستحي ..) خبر (إنَّ)، (لا) نافية، (يستحي) مُضارع مرفوع بضمّة مُقدّرة، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (الله)، و(استحيا منه) : خَجِلَ منه، (أنْ) مصدرية ناصبة، (يَضْرِبَ) مُضارع منصوب، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (الله)، والمصدر المؤوّل (أنْ يَضْرِبَ ..) في محلّ نصبٍ بنزع الخافض، (مَثَلاً) مفعول به و(ضَرَبَ مَثَلاً) : ذَكَرَهُ ومَثَّلَ به، (ما) نكرة صفة لـ(مثلاً)، (بعوضة) بدل من (ما)، (فما فوقها) (ما) نكرة موصوفة عطف على (بعوضة)، (فوقَها) ظرف مكان مُتعلّق بمُقدّر صفة لـ(ما)، (فأمّا .. ربهم) مرتبطة بما قبلها بالفاء، (أمّا) حرف تفصيل فيه معنى الشرط، (الذين) موصول مبتدأ (آمنوا) صلة (الذين)، ومُتعلّق (آمنوا) مُقدّر سيتبيّن في المعنى، (فيعلمون ..) خبر المُبتدأ، والفاء واقعة في جواب (أمّا)، (يعلمون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، وهو عائد إلى (الذين آمنوا)، (أنَّهُ) (أنّ) واسمها، واالهاء ضميرٌ عائدٌ إلى (المَثَل)، (الحقُّ) خبرها، (من ربّهم) مُتعلّقان بمُقدّر حال من (الحقّ)، والمصدر المُؤوّل (أنَّه .. ربّهم) سدَّ مَسَد مفعولي (يعلمون)، (وأما … مَثَلاً) عطف على ما قبلها، (أمّا الذين كفروا) مثل (أمّا الذين آمنوا) في القول، و(كفروا) : جَحَدوا وأنْكروا، والمراد بـ(الذين كفروا) هنا : أحبارُ اليهود وعُلماؤهم، (ماذا .. مثلاً) مقول القول، (ماذا) اسم استفهام مبتدأ (أراد .. مَثَلاً) خبرُهُ، (أرادَ) فعل ماضٍ، (اللهُ) فاعلُهُ، والمفعول به ضمير مُقدّر عائد إلى (ماذا)، (بهذا) مُتعلّقان بـ(أرادَ)، و(مثلاً) تمييز لـ(هذا)، (يُضلُّ به كثيراً) مقول قول مُقدّر يكون جواباً لسؤالهم، (يُضِلُّ) مُضارع مرفوع، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (الله)، (به) مُتعلّقان بـ(يُضِلُّ)، والضمير في (به) عائد إلى (المَثَل)، (كثيراً) مفعول به، و(أضَلَّ فلاناً) : جَعَلَهُ يضِلّ، (ويهدي به كثيراً) عطف على ما قبلها ومثلها في القول، (وما يُضِلُّ به إلا الفاسقين) مرتبطة بما قبلها بالواو لبيان واقع الحال، (ما) نافية، (يُضِلُّ) مُضارع، وفاعله ضمير عائد إلى (الله)، (إلا) أداة حصر، (الفاسقين) مفعول به .

ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِۦ وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ٢٧ كَيۡفَ تَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمۡ أَمۡوَٰتٗا فَأَحۡيَٰكُمۡۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ٢٨ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ ٢٩

المعنى في ضوء التحليل االلغوي :

27 – الذين يَنكُثُونَ عَهْدَ اللهِ الذي أخَذَهُ عليهم، ويَكْتُمُونَهُ، ولا يُبَيِّنُونَهُ من بَعْدِ إحكامِ اللهِ عَهْدَه عليهم (هم أحبارُ اليهود وعُلماؤهم الذين أخَذَ اللهُ عليهم العهدَ بواسطةِ أنبيائِهم بأنْ يُؤمنوا بخاتَمِ الرُّسُلِ مُحَمّدٍ، وبالكتابِ الذي يُنْزَلُ إليه، ويدُلُّ معنى : (من بعدِ ميثاقه) على أنّ اللهَ أقْسَمَ عليهم : لَتُظْهِرُنَّ نُبوّةَ مُحَمَّدٍ للنَّاسِ، ولَتُبَشِّرُنَّ به، ولَتُؤمِنُنَّ به حينَ يُبعَثُ إلى النّاسِ، ولا تُخْفُونَ هذا الأمْرَ عن النّاسِ، فكَتَمُوهُ من بعدِ إحكامِ اللهِ العَهْدَ عليهم، وإقْرارِهم به)، ويَمْنَعُونَ عن عامّةِ الناس الذي أمَرَ اللهُ بِهِ، أي : يَمْنَعُونَ إبلاغَهُ إليهم (وهو العَهْدُ الذي أخَذَهُ اللهُ عليهم بأنْ يُؤمنوا بخاتم الرُّسُلِ مُحَمّدٍ، وبالكتاب الذي يُنْزَلُ إليه)، ويتَسَبَّبون في الاضْطرابِ والخَلَلِ وعدم الاستقرار في الأرض (بإثارةِ الفِتَنِ والحُروبِ بين سُكّانِ أرض المدينة، وبالإخلال بنظام المجتمع في المدينة) أولئك هم الذين أهْلَكُوا أنفسهم بتَعْرِيضِها لعقابِ اللهِ

28 – على أيِّ حالٍ تَجْحَدون وتُنْكِرونَ قُدْرَةَ اللهِ على إرْسالِ مُحَمَّدٍ رسولاً للنّاسِ، مع عِلْمِكم أنّهُ قد أرْسَلَ رُسُلاً إليكم قَبْلَهُ، وحالُكم أنّكم قد كنتم قبل خَلْقِكم أشياءَ لا حياةَ فيها (يَدُلُّ المعنى على أنّ المُرادَ بـ(أمواتاً) عناصِرُ لا حياةَ فيها مِثْلُ العناصرِ الموجودة في تُرابِ الأرضِ) ثُمّ جَعَلَكم أحياءً (يدلّ معنى (جعلكم أحياءً) على أنّ اللهَ تعالى خَلَقَ أصْلَهُم الذي جاؤوا منه، (وهو آدمُ وزوجُهُ) من تُرابِ الأرض، ثُمّ جَعَلَهُما بَشَرَيْنِ حَيَّيْنِ بِبَعْثِ الحياة فيها، ثُمّ خَلَقَهُم من ذَكَرٍ وأُنثى باختلاطِ منيِّ الذّكَرِ ببُويضةِ الأُنثى، وتكوينِ البُويضةِ المُلَقّحَةِ، ثمّ صَيَّرهم أجنّةً أحياءً في أرحامِ أُمّهاتِهم، ثمّ أخْرَجَهم من بُطونِ أُمّهاتِهم ذكَراً وأنثى)، ثم يُميتُكم بعد انقضاءِ آجالكم في الدُّنيا، ثم يُحْيِيكُم يومَ القيامَةِ بعدَ موتِكُم، ثمّ يُرْجِعُكُم إليه للحسابِ والجزاءِ ؟ (يَدُلُّ المعنى على أنّ القادرَ على ذلك قادرٌ على إرسالِ مُحَمّدٍ رسولاً إلى النّاس، فلماذا تَجْحَدُون قُدرةَ اللهِ على ذلك ؟)

29 – هو الذي صَنَعَ لكم كُلَّ شَيءٍ موجودٍ في الأرض حالةَ كونِهِ مُجْتَمِعاً فيها، ثم قَصَدَ إلى السماءِ (أي : الفضاء الذي يعلو الأرض ضمن المجموعة الشّمسِيّة)، وتَمَكَّنَ منها وتَفَرَّدَ بصناعَتِها وأجرى حُكمَهُ ونظامَهُ فيها، فعَدَّلهنَّ وقوَّمَهُنَّ وفَصَّلَهُنّ في سَبْعِ سماواتٍ ((أي : في سبعِ طبَقاتٍ من الغلافِ الجوي التي تعلو الأرضَ ضِمْنَ المجموعةِ الشّمسيّة) وهذا المعنى مَذكورٌ في سِفْرِ التكوين من كتاب التوراة قبلَ ذِكْرِ خَلْقِ آدم)، ويُؤكِّدُ قُدرَتَهُ على ذلك أنّهُ عليمٌ بكُلِّ شيءٍ في السّماواتِ والأرضِ، فإذا كان اللهُ كذلك فعلى أيِّ حالٍ تُنْكِرونَ قُدْرَةَ اللهِ على إرْسالِ مُحمّدٍ رسولاً للنّاسِ ؟

التحليل اللغوي:

27 – (الذين … الخاسرون) مُستأنفة في سياق ما قبلها، (الذين) موصول مُبتدأ، وهو كنايةٌ عن أحبارِ اليهودِ وعلمائِهم الموجودين في المدينة زَمَنَ رسول الله (ص)، (ينقضون .. ميثاقه) صلة (الذين)، (ينقضون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، وهو العائد إلى (الذين)، (عَهْدَ) مفعول به، وهو مُضاف إلى (الله)، و(عَهْدُ الله) : هو العَهْدُ الذي أخَذَهُ اللهُ على علماءِ اليهود وأحبارهم بواسطة أنبيائهم بأنْ يُؤمنوا بخاتم الرُّسُلِ محمد (ص)، وبالكتاب الذي يُنْزَلُ إليه، و(نَقْضُهم العهْدَ) : نكْثُهُ، وإنكارُهُ، وكتمانُهُ بعدَ معرفتهم به، (من بعْدِ) مُتعلّقان بـ(ينقضون)، و(بعد) مُضاف إلى (ميثاقهِ)، و(ميثاقه) مُضاف إلى (الهاء) من إضافة المصدر إلى مفعوله، وفاعله مُقدّر، و(الميثاق) : إحْكامُ العَهْدِ وتوكيدُهُ، والتقدير : (من بعدِ إحكامِ اللهِ العَهْدَ عليهم)، (ويقطعون .. أنْ يوصل) عطف على صلة (الذين)، (يقطعون) مثل (ينقضون)، (ما) موصول مفعول به، (وقَطَعَ فلاناً عن فلانٍ) : مَنَعَهُ عنه، (أمَرَ اللهُ .. يُوصَلَ) صلة (ما)، (أمَرَ) فعل ماضٍ، (اللهُ) فاعله، (به) مُتعلّقان بـ(أمَرَ)، والهاء عائد إلى (ما)، (أنْ) حرف نصب ومصدر، (يُوصَلَ) مُضارع مبني للمجهول منصوب، ونائبُ الفاعل ضمير عائد إلى (ما)، والمصدر المؤوّل (أنْ يًوصَلَ) بدل من (ما)، و(أوْصَلَ الشيءَ إليه) : أبْلَغَهُ لهُ، (ويُفسدون في الأرض) عطف على ما قبلها، (يُفسدون) مضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (في الأرض) مُتعلّقان بـ(يُفسدون)، والمُراد بـ(الأرض) هنا : أرضُ المدينة، و(أفْسَدَ في الأرض) : تَسَبَّبَ في الاضطراب والخَلَل فيها، (أولئك هم الخاسرون) خبر المبتدأ الذي في صدر الآية، (أولئك) مُبتدأ، (هم) ضمير الفصْل لا محلّ له، ( الخاسرون) خبرُ المُبتدأ

28 – (كيف … ترجعون) مستأنفة في سياق ما تقدّم لتذكيرهم بقدرة الله بعد إنكارهم نُبُوّةَ محمدٍ (ص)، (كيف) اسم استفهام حال مُقدّم من فاعل (تكفرون)، والاستفهام بمعنى الإنكار والتوبيخ، (تكفرون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعله، (بالله) مُتعلّقان بـ(تكفرون)، و(الله) في الأصل مُضاف إليه قام مقام مُضاف مُقدّر، والتقدير : (بقُدرةِ اللهِ)، و(كَفَرَ بهِ) : جَحَدَهُ وأنْكَرَهُ مع عِلْمِهِ به، (وكنتم أمواتاً) حال ثانية من فاعل (تكفرون) بتقدير (قد)، (كنتم) (كان) واسمها، (أمواتاً) خبر (كان)، و(أمواتاً) جمعُ (مَيّت)، وهو الذي لا حياةَ فيه، أو الذي كان حيّاً ثمّ فارقتْه الحياة، (فأحياكم) عطف على ما قبلها، (أحياكم) فعلٌ ماضٍ، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (الله)، والضمير (كم) مفعول به، و(أحيا اللهُ فلاناً) : جَعَلَهُ حيّاً، (ثمَّ يُميتُكم) عطف على ما قبلها، (يُميتُكم) مُضارع مرفوع، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (الله)، والضمير (كم) مفعول به، (ثُمَّ يُحييكم) عطف على ما قبلها، (ثم إليه تُرْجَعون) عطف على ما قبلها، (إليه) مُتعلّقان بـ(تُرْجَعون)، (تُرْجَعون) مُضارع مبني للمجهول، (واو الجماعة) نائب الفاعل

29 – (هو الذي … جميعاً) مستأنفة في سياق ما قبلها، (هو) مبتدأ، (الذي) موصول خبر، (خَلَقَ … جميعاً) صلة (الذي)، (خلقَ) فعل ماضٍ، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (الذي)، (لكم) مُتعلّقان بـ(خلق)، (ما) نكرة موصوفة مفعول به، (في الأرض) مُتعلّقان بمُقدّر صفة لـ(ما)، (جميعاً) حال من (ما) بعد وصفها، ( ثم استوى .. السماء) عطف على ما قبلها، (استوى) فعل ماضٍ، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (الذي)، (إلى السماء) مُتعلّقان بـ(استوى)، (انظر المُراد بـ(السماء) في الآية : 133 من سورة آل عمران، والمُرادُ بـ(السّماء) هنا : الفضاء الذي يعلو الأرض ضمن المجموعة الشّمسية، وفي (استوى) معاني : قَصَدَ وتوجَّهَ، وتفرّدَ بملكهنَّ، وأجرى حُكْمَهُ ونظامَهُ فيهنّ، (فسوّاهنّ .. سماواتٍ) عطف على ما قبلها، (سوّاهنّ) فعل ماضٍ، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (الذي)، والضمير (هُنّ) مفعول به، وفي (سوَّى) معاني : فصَّله وقوَّمَه وعدَّله، (سبعَ) تمييز، وهو مُضاف إلى (سماوات)، (انظر المُراد بـ(السماء) في الآية : 133 من سورة آل عمران، والمُرادُ بـ(السّماوات) هنا طبَقاتُ الغلاف الجوي التي تعلو الأرض ضمن المجموعة الشّمسيّة، (وهو .. عليم) مرتبطة بما قبلها بالواو لتوكيد مضمونها، (هو) مُبتدأ، (بكُلّ) متعلّقان بـ(عليم)، (عليم) خبر المُبتدأ .

وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ ٣٠ وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمۡ عَلَى ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ فَقَالَ أَنۢبِ‍ُٔونِي بِأَسۡمَآءِ هَٰٓؤُلَآءِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٣١ قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ لَا عِلۡمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمۡتَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ ٣٢ قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ أَنۢبِئۡهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡۖ فَلَمَّآ أَنۢبَأَهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ غَيۡبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَأَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ ٣٣

المعنى في ضوء التحليل االلغوي :

30 – وذَكِّرْ بَنِي إسرائِيلَ المَوْجُودِينَ في المَدِينَةِ قِصَّةَ خَلْقِ آدَمَ حينَ قالَ رَبُّكَ للمَلائِكةِ إنّي جاعِلٌ في الأرضِ خَلِيفَةً يَسْتَقِرُّ فيها، ويَقُومُ بأمْرِها بما يأتِيهِ مِنّي مِنْ هُدَىً وبيانٍ للعَمَلِ فيها بما آمُرُهُ بِهِ وبما أنْهاهُ عَنْهُ (لم يَذْكُرْ القُرآنُ في هذا المَوْضِعِ من أيِّ شيءٍ يَخْلُقُ اللهُ الخليفةَ، ولم يَذْكُرْ كَيّفيةَ خَلْقِهِ)، قالَ الملائكةُ مُسْتَفْهِمِينَ : هل تَجْعَلُ في الأرضِ مخلوقاً يَفْعَلُ الاضْطرابَ والخَلَلَ في الأرضِ، ويُريقُ الدِّماءَ فيها، وحالُنا أنَّنا نُنزِّهُكَ عَمّا لا يَلِيقُ بِكَ مُتَلَبِّسِينَ بتَمْجيدِكَ والثّناءِ عليكَ، وحالُنا أيضاً أنَّنا نُعَظِّمُك ونُكَبِّرُك ونُطَهِّرُ ذَواتِنا مِنْ كُلِّ فِعْلٍ لا تَرْضاهُ ؟ (يَدُلُّ اسْتِفهامُ الملائكةِ (أتَجْعَلُ فيها) على أنَّهُم تَوَقَّعوا أنَّ المَخْلوقَ الذي يَسْتَخْلِفُهُ اللهُ في الأرضِ لا تكونُ طبيعتُهُ مِثْلَ طبيعةِ الملائكةِ الذين يُنَزِّهونَ اللهَ ويُمَجِّدُونَهُ ويُثْنُونَ عليه، فتوَقَّعُوا أنْ يَفْعَلُ الاضْطرابَ والخَلَلَ في الأرضِ، ويُريقَ الدِّماءَ فيها كما كان يَفْعَلُ المَخْلُوقُ الذي كانَ قبلَهُ) قال اللهُ جواباً لسُؤالِهم : إنّي أعْلَمُ الذي لا تَعْلَمُونَهُ عن هذا المَخْلُوقِ (يَدُلُّ قولُ اللهِ تعالى للملائكةِ على أنَّ الملائكةَ لا يعرفونَ شيئاً عن المَخْلُوقِ الذي يَسْتَخْلِفُهُ اللهُ في الأرضِ مِمَّنْ قَبْلَهُ، ويَدُلُّ أيضاً على أنَّ اللهَ تعالى يُخْبِرُهُم أنَّهُ يَعْلَمُ أنَّ هذا المَخْلُوقَ لا يَكُونُ مِثْلَ الذي خَلَقَهُ في الأرْضِ قَبْلَهُ، وأنَّهم لا يَعْلَمُونَ هذِهِ الحَقِيقَةَ، ويَدُلُّ قولُهُ تعالى على وجوبِ أنْ يَكُفُّوا عن السُّؤالِ عَمّا ليسَ لَهُمْ فيه عِلْمٌ)

31 – وَجَعَلَ ربُّكَ آدَمَ يَتَعَلَّمُ الأسْماءَ كُلَّها (يَدُلُّ السِّياقُ ومعنى (الاسم) على أنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ آدمَ يتعلَّمُ اللُّغَةَ، أي : يَتَعَلَّمُ نُطْقَ أصْواتٍ، ويُؤَلِّفُ مِنها ألفاظاً يَضَعُها على ما يَراهُ من الأشياءِ، ويَدُلُّ السّياقُ على أنَّ اللهَ تعالى أراهُ الأشياءَ التي خَلَقَها في الأرْضِ، فوَضَعَ آدَمُ لكُلٍّ شيءٍ منها لَفْظاً ذا أصْواتٍ خاصَّةٍ يَكُونُ اسْماً دالّاً عليه، ونَطَقَ بِهِ بأصْواتِ اللُّغَةِ التي تَعَلَّمَها، وهذا ما لم تَعْلَمْهُ الملائكةُ، لأنَّ الملائكةَ لم يَجْعَلْهُم اللهُ يَتَعَلَّمُونَ نُطْقَ أصْواتٍ، ويُؤَلِّفُونَ مِنها ألفاظاً يَضَعُونَها على ما يَرَوْنَهُ من الأشياءِ، إنّما يُوحِي اللهُ إليهم، فيُخْبِرُهم بما يُرِيدُ منهم أنْ يَفْعَلُوهُ، ويُعَلِّمُهم ما يُرِيدُ أنْ يُعَلِّمَهُم إيّاهُ، وتَدُلُّ قُدْرَةُ آدمَ على تَعَلَّمِ اللّغة على أنَّ البَشَرَ يتَمَيَّزُونَ بأنّهُم قادِرُونَ على تَعَلُّمِ العُلومِ، وأنَّهم قادِرُونَ على تَعَلُّمِ اللُّغات خاصّةً، فيستطيعُ الإنسانُ أنْ يَنْقُلَ عُلُومَهُ التي يَتَعلَّمُها وخِبراتِهِ إلى غَيْرِهِ من البَشَرِ بواسطةِ اللّغة، والملائكةُ لا يقدرونَ أنْ يَفْعَلُوا ذلك، ويَدُلُّ السّياقُ والمعنى على أنَّ أولادَ آدَمَ كانوا يَتَكَلّمُونَ اللُّغَةَ التي جَعَلَهُ اللهُ يَتَعَلّمُها، وأنَّ ذُرِّيَّتَهُ لمّا تَفَرَّقُوا في أنحاءِ الأرضِ أخَذَتْ كُلُّ جماعةٍ منهم ألفاظاً تَعَلَّمَتْها من اللغةِ الأمّ، ويُمكِنُ تَسْمِيةُ هذِهِ اللُّغَةِ بـ(اللُّغَةِ الأمِّ لآدَمَ وأولادِهِ)، وبسَبَبِ تَفَرُّقِهِم، وابْتِعادِهم عن اللَّغَةِ الأمِّ، واسْتِقْرارِ كُلِّ جماعةٍ في مكانٍ من الأرضِ احْتَفَظَتْ كُلُّ جماعةٍ بما أخَذُوهُ مَعَهُم من اللُّغَةِ الأمّ، وزادُوا ألفاظاً وَضَعُوها على ما يُحيطُ بهم ويُوجَدُ في أرْضِهم من الأشياءِ، وعلى الأفْعالِ التي يقومُونَ بها، وعلى المعاني التي تَخْطُرُ في أنفسِهِم، فنَشَأتْ لكُلِّ قومٍ يَسْتَوْطِنُونَ أرْضاً لُغَةٌ يَخْتَصُّونَ بها، ويَدُلُّ هذا المعنى على أنَّ الخَلْقَ الذي كانَ قَبْلَ آدَمَ لم يَتَعلَّمْ اللُّغَةَ، وأنَّ التَّفاهُم بينَهم كانَ بوسائِلَ أخرى غيرِ اللُّغَة)، ثمَّ أرَى ربُّكَ الملائِكةَ الأشياءَ التي خلَقَها في الأرْضِ، ووَضَعَ آدَمُ لكُلٍّ مِنْها لفظاً جَعَلَهُ اسْماً دالّاً عليه، فقالَ لهم : إنْ كُنْتُم مُخْبِرِينَ بالحَقِّ بما يَكُونُ مِنْ هذا الخَلِيفَةِ الذي أسْتَخْلِفُهُ مِمَّنْ قَبْلَهُ في الأرْضِ فأخْبِرُوني بأسماءِ هؤلاءِ الأشياء التي أُرِيكم إيَّاها

32 – قالَ الملائكةُ : تَنَزّهْتَ ربَّنا تَنْزِيهاً من كُلِّ ما لا يَلِيقُ بك، لا عِلْمَ لنا إلّا الذي علّمْتَنا إيَّاهُ فقط، لأنّك أنتَ وَحْدَكَ العَلِيمُ بكُلِّ شيءٍ في الأرْضِ والسَّماءِ، الحكيمُ الذي يُتْقِنُ كُلَّ فِعْلٍ من أفعالِهِ

33 – قال ربُّكَ : يا آدَمُ، أخْبِرْ الملائكةَ بأسماءِ هؤلاءِ الأشياءِ، فلمّا أخْبَرَهم آدمُ بأسْمائِهم قالَ رَبُّكَ للمَلائِكةِ : ألمْ أقُلْ لكم : إنّي أعْلَمُ كُلَّ شيءٍ غابَ عن إدْراكِكُم في السَّماواتِ والأرضِ، (أي : في الكونِ كُلِّهِ، وهو الذي يشتملُ على مجرّتنا (دَرْبِ التّبانة) وعلى المجرّات الأخرى التي لم يَصِلْ عِلْمُ البَشَرِ إلّا إلى عددٍ قليلٍ منها، ولم يعرف حقيقتَها وسَعَتها إلّا اللهُ سُبحانَهُ وتعالى)، وأعْلَمُ كُلَّ شيءٍ تُظْهِرونَهُ من الفِعْلِ، وأعْلَمُ كُلَّ شيءٍ تَسْتُرونَهُ وتُخفونَهُ في أنفُسِكم ؟ قالوا : بلى، ثَبَتَ ما قُلْتَهُ لنا (يَدُلُّ المعنى على أنّ الملائكةَ كانوا يُخْفُونَ شَيئاً في أنفُسِهم، واللهُ يَعْلَمُهُ، ويَدُلُّ السّياقُ على أنَّهُم كانوا يُخْفُونَ في أنْفُسِهم أنّهم أفْضَلُ خَلْقٍ خَلَقَهُ اللهُ في السَّماواتِ والأرضِ بما أعطاهم اللهُ من القُوَى والقُدراتِ على إنْجازِ أوامِرِ اللهِ في السّماواتِ والأرض، ويُخفونَ في أنفُسِهم أنّهم خيرٌ من المَخْلُوقِ الذي يُريدُ اللهُ أنْ يَسْتَخْلِفَهُ في الأرْضِ مِمَّنْ قَبْلَهُ) .

 

بَحْثٌ في خَلْقِ الكائناتِ الحَيَّةِ ابْتداءً في الكونِ، وخَلْقِ آدمَ في الأرضِ في ضوءِ آياتِ القُرآن

الآياتُ التي ذَكَرَتْ بَدْأَ خَلْقِ الكائناتِ الحَيّةِ في الكونِ : قال اللهُ تعالى في (سورة هود : 7) : “وهو الذي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ وكانَ عَرْشُهُ على الماء”، وقال تعالى (سورة الأنبياء : 30) : “أوَ لًمْ يَرَ الذينَ كَفَرُوا أنَّ السّماواتِ والأرْضَ كانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الماءِ كُلَّ شيءٍ حَيٍّ أفَلا يُؤْمِنُونَ”، وقال تعالى في (سورة الشّورى : 29) : “ومِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَثَّ فيهما مِنْ دابَّةٍ وهو على جَمْعِهِم إذا يَشاءُ قَدِيرٌ”، وقال تعالى في (سورة لُقمان : 10) : “وألْقَى في الأرْضِ رَواسِيَ أنْ تَمِدَ بِكُمْ وبَثَّ فيها مِنْ كُلِّ دابّةٍ”، وقال تعالى : (سورة البقرة : 164) : “إنَّ في خَلْقِ السّماواتِ والأرْضِ واخْتِلافِ اللّيلِ والنَّهارِ والفُلْكِ التي تَجْرِي في البَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وما أنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فأحْيا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وبَثَّ فيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وتَصْرِيفِ الرِّياحِ والسَّحابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون”، وقال تعالى في (سورة النّور : 45) : “واللهُ خَلَقَ كُلَّ دابَّةٍ من ماءٍ فمِنْهُم مَنْ يَمْشِي على بَطْنِهِ ومِنْهُم مَنْ يَمْشِي على رِجْلَيْنِ ومِنْهُم مَنْ يَمْشِي على أرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إنَّ اللهَ على كُلِّ شيءٍ قَدير” . هذه الآياتُ يَدُلُّ معناها على المرحلةِ الأولى من خَلْقِ الكائناتِ الحَيَّةِ، فمعنى الآية (7 من سورةِ هود) : وهو الذي خَلَقَ السَّماواتِ والأرضَ (أي : خَلَقَ الكونَ، وهو الذي يشتملُ على مجرّتنا (دَرْبِ التّبانة) وعلى المجرّاتِ الأخرى التي لم يَصِلْ عِلْمُ البَشَرِ إلّا إلى عددٍ قليلٍ منها، ولم يعرف حقيقتَها وسَعَتها إلّا اللهُ سُبحانه وتعالى) في سِتَّةِ أيّامٍ، وكانَ مُلْكُهُ (أي : الكونُ الذي خَلَقَهُ) على الماءِ، وهذ يعنى أنَّ الكونَ قائمٌ وجودُهُ على الماءِ، وأنَّ الماءَ عُنصرٌ رئيسٌ في وجودِ الكونِ، فمَثَلاً إذا قيلَ : فلانٌ قامَ بَدَنُهُ على الخُبزِ، فالمعنى أنَّ الخُبْزَ عُنْصُرٌ رئيسٌ في وجودِهِ، ويَدُلُّ هذا المعنى على أنَّ الماءَ موجودٌ على سُطوحِ كواكِبِ مجرّتنا (دَرْبِ التّبانة) وأقمارِها وفي باطِنها، وموجودٌ في المجرّاتِ الأخرى التي لم يَصِلْ عِلْمُ البَشَرِ إلّا إلى عددٍ قليلٍ منها، ولم يعرفْ حقيقتَها وسَعَتها إلّا اللهُ سُبحانه وتعالى، ومَعْلُومٌ أنَّ الماءَ حيثُما وُجِدَ على أرضٍ وفي باطِنِها يخْتَلِطُ بتُرابِها، ويَتَكَوِّنُ من اختلاطِهما طينٌ، والمعروفُ عِلْميّاً أنَّ البكتريا تتَوَلَّدُ في الطّين الذي يَتَكَوَّنُ من اختلاطِ تُرابِ الأرضِ بالماء، ووجودُ الماءِ على سُطوحِ كواكِبِ مجرّتنا (دَرْبِ التّبانة) وأقمارِها وفي باطِنها كائنٌ بتقديرِ اللهِ وقُدرتِهِ، وتَوَلُّدُ البكتريا في الطّينِ الذي يَتَكَوِّنُ من اختلاطِ الماءِ بتُرابِ الأرضِ كائنٌ بتقديرِ اللهِ وقُدرتِهِ، فأوّلُ كائنٍ حيٍّ خلَقَهُ اللهُ في الكونِ من اختلاطِ تُرابِ الأرضِ بالماء هو البكتريا، ومعنى الآية (30 من سورة الأنبياء) : ألَمْ يَعْلَمْ الذين جَحَدُوا وحدانيَّةَ اللهِ، وجَعَلُوا لَهُ شُركاءَ في العِبادَةِ أنّ السَّماواتِ والأرضَ (أي : الكونَ كُلَّهُ) وُجِدَ أوّلَ خَلْقِنا إيّاهُ حالةَ كونِهِ شيئاً واحِداً مُصْمَتاً لا شَقَّ فيه ولا فراغَ، فشَقَقْناهُ وفَصَّلْناهُ بعد ذلك إلى مَجَرَّاتٍ، يوجَدُ في كُلٍّ منها شُموسٌ وكواكِبُ وأقمارٌ ونُجومٌ (من تلك المَجَرّاتِ مجرَّتُنا دَرْبُ التّبانة)، وأنْشَأْنا ابْتداءً بالماءِ الموجودِ على أرضِ كواكِبِ المَجَرّاتِ وأقمارِها وفي باطِنِها كُلَّ شيءٍ ذي حَرَكةٍ ونماءٍ ؟ بلى، فَعَلْنا ذلك، فلماذا يَجْحَدُونَ وحدانيَّةَ الله، ويَجْعَلُونَ لَهُ شُركاءَ في العِبادة ؟ (ما جاءَ في القُرآنِ في أصْلِ بَدْأِ الكونِ يَلْتقي معَ ما وَصَلَ إليه العُلماءُ الباحثونَ في أصْلِ حُدوثِ الكونِ، وهو ما أسْمَوْهُ بـ(نظريةِ انْفِجارِ الكون)، ومُلَخَّصُ هذه النّظريةِ أنَّ الكونَ لم يَكُنْ موجوداً، ثُمَّ كان، أي : كانَ عَدَماً قَبْلَ أنْ يُوجَدْ، ثمّ ظَهَرتْ نُقْطَةٌ واحِدةٌ من الكثافةِ اللّانهائيَةِ الشّديدةِ الحرارةِ، ثمّ بَدَأتْ هذهِ النُّقطةِ من الكثافةِ اللّانهائيَةِ الشّديدةِ الحراةِ بالتَّضَخُّمِ والتَّمَدُّدِ بفِعلِ الحرارةِ الشديدة التي فاقتْ العشرةَ ملياراتِ درجة فهرنهايت، ثُمَّ لمّا وَصَلَ حَجْمُ النُّقطةِ من الكثافةِ اللّانهائيَةِ الشّديدةِ الحرارةِ إلى جِسْمٍ هائِلٍ مُصْمَتٍ ذي كثافةٍ عالية حَصَلَ الانفجارُ الكوني مُكَوِّناً بعدَ الانْفِجارِ المَجَرّاتِ الكثيرةَ والنُّجومَ والكواكِبَ والأقمارَ، ويَعْتَقِدُ العُلماءُ أنَّ الكونَ بَدَأ في التَّوَسُّعِ الهائِلِ بعدَ الانفجارِ مَباشرَةً وبسَبَبِ الطَّاقَةِ المُظْلِمَةِ بَدَأت القِطَعُ المَتطايرَةُ في الفضاءِ تَبْرُدُ حتى تَحَوَّلَتْ إلى أجسامٍ، منها شديدُ الحرارةِ كالنُّجومِ والشُّموسِ التي تَشُعُّ ضوءاً وحرارةً، ومنها أجسامٌ سُطوحُها مُختلفةٌ حرارتُها من جِسْمٍ إلى آخَر مثل الكواكبِ التي نَعْرِفُها من خلالِ مجموعَتِنا الشَّمسيّةِ التي تَقَعُ في مَجَرَّةِ دَرْبِ التّبّانَةِ)، والمعروفُ عِلْميّاً أنَّ البكتريا تتَوَلَّدُ في الطّين الذي يَتَكَوَّنُ من اختلاطِ تُرابِ الأرضِ بالماء، فالماءُ المُختَلِطُ بتُرابِ أرض الكواكِبِ والمَجَرّاتِ وعلى سُطُوحِها بَعْدَ الانفجارِ الكوني أصْلُ وجودِ البكتريا التي هي أصْلُ الكائناتِ الحيّةِ ذواتِ الحَرَكةِ والنَّماء، ومعنى الآية (29 من سورة الشورى) : ومِنْ حُجَجِهِ ودلالاتِهِ على أنّهُ قادرٌ على كُلِّ شيءٍ خَلْقُهُ السّماواتِ والأرضَ (أي : الكونَ كُلَّهُ)، وتفريقُهُ ونَشْرُهُ فيهما ابْتِداءً كائناتٍ حيّةً مُتَحَرِّكةً من كُلِّ نوعٍ من الكائناتِ الحيَّةِ المُتَحَرِّكةِ، وهو قديرٌ على جَمْعِهم حينَ يَشاءُ بعَدَ تَفْرِيقِهم ونَشْرِهِم في الكونِ، والمعنى يَدُلُّ بوضوحٍ على أنَّ الكائناتِ الحيَّةَ المُتَحَرِّكةَ التي فَرَّقها ونَشَرَها في السّماواتِ والأرضِ هي البكتريا التي خَلَقَها في السّماواتِ والأرضِ، ومعنى الآية (10 من سورة لقمان) : يُؤَكِّدُ أنّهُ القادِرُ على كُلِّ شيءٍ، الذي لا يَغْلِبُهُ شيءٌ، ولا يَمْتَنِعُ من قُدْرَتِهِ شيءٌ، وأنّهُ الحكيمُ الذي أتْقَنَ كُلَّ فِعْلٍ من أفعالِهِ أنّهُ خَلَقَ السَّماواتِ حالةَ كونِها بغيرِ دعائمَ وأساطينَ ترونَها بأعْيُنِكم، (أي : خَلَقَها بأسبابٍ غيرِ مَرْئِيّةٍ، فرفعَ بها السّماواتِ)، وأنّهُ وَضَعَ في الأرض جبالاً راسخاتٍ كراهةَ أنْ تضْطَرِبَ وتَتَحَرَّكَ بكم، وأنّهُ نَشَرَ وفَرَّقَ فيها ابْتِداءً كائناتٍ حيّةً مُتَحَرِّكةً من كُلِّ نوعٍ من الكائناتِ الحيَّةِ المُتَحَرِّكةِ، وألْفِتُ الانتباهَ إلى أنّا أنْزَلْنا بتقديرِنا وعنايَتِنا من السَّحابِ ماءً، فأنْبَتْنا بتقديرِنا وعنايتِنا في الأرضِ بذلك الماء صِنْفاً من كُلِّ صِنْفٍ حَسَنٍ نافِعٍ من أصنافِ النّباتِ، ويَدُلُّ المعنى بوضوحٍ على أنَّ الكائناتِ الحيَّةَ المُتَحَرِّكةَ التي فَرَّقها ونَشَرَها في الأرضِ هي البكتريا التي خَلَقَها ابتداءً من الماءِ  وتُرابِ الأرضِ، ومعنى الآية (164 من سورة البقرة) : إنَّ في خلْقِ السّمواتِ والأرضِ (أي : في خَلْقِ الكونِ كُلِّهِ، وهو الذي يشتملُ على مجرّتنا (دَرْبِ التّبانة) وعلى المجرّات الأخرى التي لم يصلْ عِلْمُ البَشَرِ إلّا على عددٍ قليلٍ منها، ولم يعرف حقيقتَها وسَعَتها إلّا اللهُ سُبحانه وتعالى)، وفي اختلافِ الليلِ والنّهارِ في الذهابِ والمجيءِ بأنْ يَذْهَبَ أحَدُهما ويأتي الآخرُ مكانَهُ في كُلِّ يومٍ وليلة، وفي اختلافِهما في الزيادةِ والنُّقصان وعَدَمِ تساويهما ليُناسِبا حياةَ الإنسانِ على الأرضِ، وفي السُّفنِ التي تَجْرِي في الماءِ الواسِعِ الكثير، سواءٌ أكان بحراً مالحاً ماؤهُ أم نهراً عَذْباً ماؤه بكُلِّ شيءٍ يُفيدُ الناسَ في معيشتِهم، وأمورِ حياتِهم، وفي الذي أنْزَلَهُ اللهُ من السّحابِ الذي يكونُ في إحدى طَبَقاتِ الغلافِ الجَوِّي التي تَعْلُو الأرضَ حالةَ كونِهِ ماءً، فأحيى بالماءِ الأرضَ بعدَ موتِها (أي : بخَلْقِهِ أسبابَ الحياةِ فيها بوجودِ الماء بَعْدَ انْعِدامِ أسبابِ الحياةِ فيها، فهي كالمَيِّتِ في انْعِدامِ الحياةِ فيه، وانْعِدامِ حركتِهِ)، وفَرَّقَ ونَشَرَ فيها ابْتِداءً بعد إيجادِ أسبابِ الحياةِ بوجود الماء فيها كائناتٍ حيّةً مُتَحَرِّكةً من كُلِّ نوعٍ من الكائناتِ الحيَّةِ المُتَحَرِّكةِ، ويَدُلُّ المعنى بوضوحٍ على أنَّ الكائناتِ الحيَّةَ المُتَحَرِّكةَ التي فَرَّقها ونَشَرَها في الأرضِ هي البكتريا التي خَلَقَها ابتداءً من الماءِ الموجودِ في الأرضِ، ومعنى الآية (45 من سورة النور) : واللهُ خَلَقَ كلَّ كائِنٍ حَيٍّ مُتَحَرِّكٍ من ماءٍ، فمِن الكائناتِ الحيّةِ المُتَحَرِّكَةِ التي خَلَقَها من الماءِ كائناتٌ حيّةٌ تَنْتَقِلُ في حَرَكَتِها من مكانٍ إلى آخرَ على بَطْنِها، (أي : تَزْحَفُ على بَطْنِها من مكانٍ إلى آخر، وهي الزَّواحف)، ومِن الكائناتِ الحيّةِ المُتَحَرِّكَةِ التي خَلَقَها من الماء كائناتٌ حيّةٌ تَنْتَقِلُ في حَرَكَتِها من مكانٍ إلى آخرَ على رِجْلَيْنِ اثنتَيْنِ (كالإنسان والطُّيُورِ)، ومِن الكائناتِ الحيّةِ المُتَحَرِّكَةِ التي خَلَقَها من الماء كائناتٌ حيّةٌ تَنْتَقِلُ في حَرَكَتِها من مكانٍ إلى آخرَ على أرْبَعِ أرْجُلٍ (وهي أكثرُ الحيواناتِ التي تَتَحَرَّكُ على الأرضِ، ويَدُلُّ جَعْلُ العَدَدِ أربعَ أرجُلٍ نهايَةَ عَدَدِ الأرجُل على أنّ الكائناتِ الحيّةَ التي تزيدُ فيها الأرجُل على أرْبَع تَعْتَمدُ في مَشيها على أربعِ أرجُل، وما زادَ على أربع فلا تعتمدُ عليها، ويَدُلُّ المعنى على عظيمِ قُدْرةِ الله)، يخلُقُ اللهُ الذي يشاءُ خَلْقَهُ، لأنَّ اللهَ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، ويَدُلُّ معنى الآية على أنَّ أصْلَ الكائناتِ الحيّةِ المُتَحَرِّكَةِ هو الماء، والمعروفُ عِلْمياً أنَّ الماء حيثُما وُجِدَ على أرضٍ وفي باطِنِها تَكوَّنتْ البكتريا، ووجودُ الماءِ وَقْتَ خَلْقِ الكونِ كائنٌ بتقديرِ اللهِ وقُدرتِهِ، وتَوَلُّدُ البكتريا في الماءِ حيثُما وُجِدَ على أرضٍ وفي باطِنِها كائنٌ بتقديرِ اللهِ وقُدرتِهِ، وهذا يعني أنَّ أوّلَ كائنٍ حيٍّ خلَقَهُ اللهُ في الأرضِ بوجودِ الماءِ على سطحها وفي باطِنِها هو البكتريا، وهي كائناتٌ حيَّةٌ مُتَحَرِّكةٌ وحيدةُ الخليَّة فَرَّقَها ونَشَرَها في الأرض، وقد أيَّدتْ الأبحاثُ العلميّةُ ما ذَكَرَهُ القرآنُ في بداية الخَلْقِ، وأثْبَتَتْ أنَّ الكائناتِ الحيَّةَ المُتَحَرِّكةَ ذواتِ الخليَّةِ الواحِدة التي فَرَّقها ونَشَرَها في الأرضِ هي البكتريا التي خَلَقَها اللهُ ابتداءً من الماءِ والتُّرابِ الموجودانِ على سطح الأرضِ وفي باطِنِها، وهي أصْلُ وجودِ الكائناتِ الحيةِ المُتَعَدِّدَةِ الخلايا .

وقد أثْبَتَتْ الأبحاثُ العِلميّةُ في هذا الشّأن أنَّهُ خلالَ النِّصْفِ الأوّلِ من تاريخِ الكُرةِ الأرْضِيّةِ لم يكن هناك أوكسجين في الغلافِ الجَوّي، وكانت الأرضُ مأهولةً في ذلك الحين، ولكنْ بكائناتٍ حَيَّةٍ أحاديةِ الخلية، ويعني ذلك أن الحياةَ كانت قائمةً  قَبْلَ نحوِ مليار سنةٍ من وجود الأوكسجين، وهذه المخلوقاتُ الدَّقيقةُ هي التي يُعْتَقَدُ بأنَّها السَّبَبُ في وجودِ الأوكسجين، وتوصَّلَتْ الأبحاثُ العلميةُ إلى أنَّ تلك الكائناتِ الحيَّةَ الأُحادِيَّةَ الخليّةِ أنواعٌ مُختلفةٌ، وليستْ نوعاً واحِداً، ومن أبرزِ هذه الكائناتِ الحَيَّةِ مجموعةٌ يُطْلَقُ عليها اسم “سيانوباكتيريا”، وهذه الكائناتُ الحَيَّةُ الميكروسكوبِيَّةُ تُشَكِّلُ أحياناً طَبَقاتٍ زرقاءَ فاتحةً فوقَ البُحيراتِ والمُحيطات، وتوصَّلَتْ الأبحاثُ العلميةُ إلى أنَّ كُلَّ نوع من أنواعِ الكائناتِ الحيَّةِ الأُحادِيَّةِ الخليّةِ اكْتَسَبَ جيناتٍ خاصَّةً به، وتُشيرُ الأبحاثُ العِلميَّةُ إلى أنَّهُ قد ظَهَر غازَ الأوكسجين الذي هو سِرُّ تَطَوُّرِ تلك الكائنات وبقائها حيَّةً قبل حوالي 2.4 مليار سنة، ويُعَدُّ ظُهورُ الأكسجين واحداً من أهمِّ ما وَقَعَ على كوكبِ الأرضِ من أحداثٍ، فلولاهُ لما كانت هناك أيُّ مخلوقاتٍ تَتَنَفَّسُ الأوكسجين؛ لا حشراتٌ، ولا أسماكٌ، ولا حيواناتٌ ولا بَشَرٌ، وهناك تفسيرٌ بسيطٌ لوجود الآوكسجين يَتَمَثَّلُ في أنَّ كائناتِ السيانوبكتيريا تُطْلِقُ غازَ الأوكسجين غير المرغوب فيه في الهواء، وهو ما غَيَّرَ من طبيعةِ الغِلافِ الجَوّي لكوكبِ الأرض، تقولُ (بيتينا شيرمايستر) من جامعةِ بريستول بالمملكة المتحدة : “السيانوبكتيريا من بينِ أوَّلِ ما عرفْناهُ من كائناتٍ حَيَّةٍ على سَطْحِ الأرض، ويُمْكِنُ القولُ بكل ثِقَةٍ إنَّهُ كان لدينا سيانوبكتيريا قبل 2.9 مليار سنة خلت”، وتُضيفُ : “هناك تَطَوُّرٌ ما حَدَثَ لكائناتِ السيانوبكتيريا مَكَّنَها من أنْ تُصْبِحَ أكثرَ نجاحاً وأهمية، فبعضُ أنواعِ السيانوبكتيريا قامتْ بشيءٍ يُعَدُّ بارزاً بمعاييرِ البكتيريا، فبينما تُعْتَبَرُ الغالبيةُ السّاحِقَةُ من البكتيريا أحادية الخَلِيَّةِ كانت هناك كائناتٌ من السيانوبكتيريا متعدِّدَةَ الخلايا، وتُضيفُ (بيتينا شيرمايستر) : “ويمكِنُ للعديدِ من أنواعِ السيانوبكتيريا الحديثة التَّحَرُّك داخل حصائرِها، وليست حَرَكتُها بالسّريعةِ جداً، ولكنَّها تستطيعُ الحَرَكةَ، هذا يعني رُبّما أنَّ البكتيريا القديمةَ كانت تستطيعُ التَّحَرُّكَ أيضاً، وكان يُمكنُ للحركةِ أنْ تُساعِدَها على البقاءِ في وقتٍ كانتْ تَتَعَرَّضُ فيه الأرضُ إلى إشعاعاتٍ ضارّةٍ وعنيفةٍ من الشَّمسِ، ولم تَكُنْ هناكَ طبقةُ أوزون تَحْمِي الأرضَ من هذهِ الإشعاعات، وتقول (شيرمايستر) : “في الحصائر الميكروبية الحديثةِ، تستديرُ السيانوبكتيريا حولَ نَفْسِها وتَظْهَرُ بشكلٍ عمودي بَدَلاً من الشَّكْلِ الأفقي لحمايةِ نفسِها من ضوءِ الشَّمسِ الزَّائدِ عن اللّزوم، ورُبَّما نَتجَتْ عن هذه الحركةِ السيانوبكتيريا المُتَعَدِّدَةُ الخَلِيَّةِ، فقد اتَّحَدَتْ بعضُ خلايا السيانوبكتيريا الأحاديةِ في صفوفٍ مُتَّصِلَةٍ تُشْبِهُ عرباتِ القِطارِ، وهذا في حدِّ ذاتهِ غيرُ مُعتادٍ بالنسبة للبكتيريا”، ثُمَّ تَحَوَّلَتْ بعضُ هذه الكائناتِ الحيّة ذوات الخلايا المُتَعَدِّدةِ إلى كائناتٍ حَيَّةٍ ذواتِ خلايا مُتَعَدِّدةٍ مُتَخَصِّصةٍ، وتُضيف (بيتينا شيرمايستر) : “هذا هو أوّلُ شَكْلٍ من أشكالِ التَّخَصُّصِ نُشاهدُهُ، إنَّها نُسْخَةٌ بسيطةٌ من الخلايا المُتَخَصِّصَةِ التي تُوجَدُ لدى الحيوانات، مِثْل الخلايا المُتَخَصِّصَةِ التي تُكَوِّنُ العَضَلاتِ، والأعصابَ، وخلايا الدَّم”، وتعتقدُ (شيرمايستر) أنَّ ظاهرةَ التَّعَدُّدِيَّةِ الخَلَوِيَّةِ رُبَّما كانت هي ما غَيَّرَتْ قواعِدَ الحياةِ للسيانوبكتيريا الموجودةِ على الأرض”

وقد أمضتْ (شيرمايستر) السنواتِ القليلةَ الماضيةَ وهي تُحاوِلُ معرفَةَ الزَّمَنِ الذي تَحَوَّلَتْ فيه البكتيريا إلى كائناتٍ مُتَعَدِّدَةِ الخلايا، والخيوطُ التي تقودُ إلى هذه المعرفةِ تكمُنُ في الجيناتِ الخاصَّةِ بهذه البكتيريا، وقد تَمَكَّنَتْ (شيرمايستر) من رَسْمِ شَجَرةِ عائلَةٍ خاصَّةٍ بالسيانوباكتيريا بعد أنْ عَرَفَتْ من اختبارِها للجيناتِ المُشتركةِ الفُروقَ البسيطةَ بينَها، وبوجودِ تلك الشَّجرةِ الجينيَّةِ، تَمَكَّنَتْ (شيرمايستر) من تقديرِ الزَّمَنِ الذي تَحَوَّلَتْ فيه السيانوبكتيريا من كائناتٍ أُحاديةِ الخَليَّةِ إلى مُتَعَدِّدَةِ الخلايا، وأوَّلُ محاولاتِها نُشِرَتْ عام 2011، وقالت فيها  : إنَّ التَّعَدُّدِيّةَ في الخلايا تَطَوَّرَتْ قبلَ ظُهورِ الأوكسجين بوقتٍ قصيرٍ في الوقت الذي كانت فيه السيانوبكتيريا تُنَوِّعُ من نفسِها بشكلٍ متسارِعٍ، وقامتْ (شيرمايستر) بمُحاولةٍ أفضل، وتقول : “هذه المَرَّة تعامَلْتُ مع 756 جيناً، وهذه الجيناتُ التي أخَذْتُها موجودةٌ في كُلِّ السيانوبكتيريا”، وقالتْ : إنَّ الزَّمَنَ الذي بَدَأ فيه انقسامُ الخلايا وتَعَدُّدُها كانَ قبلَ ظهورِ الأوكسجين، لكن على المدى البعيد سَمَحَ وجودُ الأوكسجين بتَطَوُّرِ جميعِ أنواعِ الحياة، ويُعْتَبَرُ الأوكسجين غازاً حساساً، لهذا السَّبَبِ فهو يؤدي إلى اشتعالِ النّارِ، وعندما عَرَفَتْ بعضُ الكائناتِ الحَيَّة كيف تُسَخِّرُ الأكسجين لصالِحِها صارَ لديها مصدرٌ مُهِمٌّ للطّاقّةِ، وصارتْ الكائناتُ الحَيَّةُ أكثرَ نشاطاً إذا تَنَفَّسَتْ الأكسجين، فبِفَضْلِ الأكسجين صارَ كثيرٌ من الكائناتِ الحيَّةِ أكثرَ تعقيداً من مُجَرَّدِ التَّحَوُّلِ من كائناتٍ أُحادِيَّةِ الخَليَّةِ إلى مُتَعَدِّدَةِ الخلايا، هذه الكائناتُ أصبحتْ نباتاتٍ وحيواناتٍ، وتَحَوَّلَ بعضُها من كائناتٍ اسفنجية ودودية إلى أسماكٍ، وكذلك ظَهَرَ البَشَرُ، إنَّ هذه السيانوبكتيريا المُتَعَدِّدَةَ الخلايا هي المسؤولةُ عن وجودِ الحياةِ على الأرض بما في ذلك تَطَوُّرُ الحياةِ المُعَقَّدَةِ، بما فيها نحن البَشَرُ، وذلك عن طريق انتاجِ الأكسجين بكميات ٍتكفي للكرةِ الأرضية .

إنَّ هذا البحثَ العِلمي الرَّصينَ الذي قامتْ به (شيرمايستر) لا يختلفُ عمّا جاء في القرآنِ عن بَدْأ الحياةِ على الأرضِ، ولكن غابَ عن العالمة الباحثة (شيرمايستر) أنَّ الذي حَدَثَ في الكونِ عامّة، وفي الأرضِ خاصّةً من وجود الكائنات الحيّة الأُحادية الخليّة، ومنها السيانوبكتيريا، وكونِها السَّبَبَ في وجودِ الأوكسجين في الأرض، ثُمَّ تَحَوُّلِ بعضِها إلى كائناتٍ حيَّةٍ مُتَعَدِّدةِ الخلايا، ثُمَّ تَحَوُّلِ بعضِ الكائناتِ الحيةِ المُتَعَدِّدةِ الخلايا إلى كائناتٍ حَيَّةٍ ذواتِ خلايا مُتَعَدِّدةٍ مُتَخَصِّصةٍ، مِثْلِ الخلايا التي تُكَوِّنُ العضلاتِ، والأعصابَ، والخلايا التي تُكَوِّنُ القلبَ والدَّمَ والمُخّ وغيرَها من أعضاء بَدَن الحيوان، ثُمَّ كَوْنِ بعضِ الكائناتِ الحَيَّةِ أكثرَ نشاطاً حينَ تَنَفَّسَتْ الأوكسجين، ثُمَّ تَحَوُّلِ بعضِها بِفَضْلِ الأكسجين إلى مُتَعَدِّدَةِ الخلايا، وتَحَوُّلِ بعضِها إلى حيواناتٍ مُختَلِفةٍ وأسماكٍ، ثُمَّ ظُهُورِ البَشَرِ كانَ قدْ حَدَثَ بعِلْمِ اللهِ الخالقِ وحِكْمَتِهِ وقُدْرَتِهِ، ولم يحْدُثْ كُلُّ ذلك بطريق الصُّدْفةِ .

الآياتُ التي ذَكَرَتْ خَلْقَ الإنسان الأوَّل : قال تعالى في (سورة الفُرقان : 54) : “وهو الذي خَلَقَ مِنَ الماءِ بَشَراً فجَعَلَهُ نَسَباً وصِهْراً وكانَ رَبُّكَ قَدِيراً”، وقال تعالى في (سورة الحِجْر : 26) : “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ”، وقال تعالى في (سورة الرحمن : 14) : “خَلَقَ الإنسانَ مِنْ صَلْصالٍ كالفَخَّار”، وقال تعالى في (سورة المُؤمنون : 12) : “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ”، وقال تعالى في (سورة السّجْدة : 7) : ” الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ”، وقال تعالى في (سورة ص : 71) : “إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ”، وقال تعالى في (سورة الصّافات : 11) : “فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ” و(الطّينُ اللازِبُ) هنا : هو الطّينُ الذي تَماسَكَ ولَزَقَ بعضُهُ ببعضٍ بعد تَخْميرِهِ مُدَّةً طويلةً من الزّمَنْ، وقال تعالى في (سورة العَلَق : 1 – 2) ” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ  (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)” و(العَلَقُ) هنا : الطّينُ الذي لَزَقَ بعضُهُ ببعضٍ، فإذا مُسِكَ باليَدِ عَلِقَ بها، وقال تعالى في (سورة الروم : 20) : “ومِنْ آياتِهِ أنْ خَلَقَكُم مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إذا أنْتُم بَشَرٌ تَنْتَشِرونَ”، وقال تعالى في (سورة فاطر : 11) : “وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ” .

ومعنى الآية (54 من سورة الفُرقان) : وهو الذي خَلَقَ من الماءِ بَشَراً (يشملُ البَشَرُ الرجُلَ والمرأةَ)، ويَدُلُّ المعنى على أنَّ الماءَ أصْلُ خَلْقِ الإنسان، والمعروفَ عِلْميّاً أنَّ البكتريا تتَوَلَّدُ في الطّين الذي يَتَكَوَّنُ من اختلاطِ تُرابِ الأرضِ بالماء، فالماءُ المُختَلِطُ بتُرابِ أرض الكواكِبِ والمَجَرّاتِ وعلى سُطُوحِها بَعْدَ الانفجارِ الكوني هو أصْلُ وجودِ البكتريا التي هي أصْلُ الكائناتِ الحيّةِ ذواتِ الحَرَكةِ والنَّماء، ووُجودُ الماءِ على سُطوحِ كواكِبِ المَجَرّاتِ بَعْدَ الانفجارِ الكوني كائِنٌ بتقديرِ اللهِ وقُدرتِهِ، وتَوَلُّدُ البكتريا في الماءِ المُختَلِطِ بتُرابِ أرض الكواكِبِ والمَجَرّاتِ كائِنٌ بتقديرِ اللهِ وقُدرتِهِ، وهذا يعني أنَّ أوّلَ كائنٍ حَيّ مُتَحَرِّكٍ خلَقَهُ اللهُ في الأرضِ من الماءِ والتّرابِ الموجودَيْنِ على الأرض هو البكْتِريا، وهي كائناتٌ حَيّةٌ مُتَحَرِّكةٌ وحيدةُ الخليَّة فَرَّقَها ونَشَرَها في الأرض، قال تعالى : “ومِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَثَّ فيهما مِنْ دابَّةٍ”، وجَعَلَ اللهُ لهذهِ الكائناتِ المُتَحَرِّكةِ الوحيدةِ الخليَّة جيناتٍ عامَّةً، ثُمَّ تحَوَّرتْ بعضُ الكائناتٍ الحيَّةٍ المُتَعَدِّدةِ الخلايا بتقديرِ اللهِ وقُدرتِهِ إلى كائناتٍ حيَّةٍ مُتَعَدِّدةِ الخلايا ذواتِ جيناتٍ ذكَرِيَّةٍ، وكائناتٍ حيَّةٍ مُتَعَدِّدةِ الخلايا ذواتِ جيناتٍ أُنْثَوِيّةٍ، ثمّ صارَ كُلٌّ من الكائناتِ الحَيَّةِ المُتَعَدِّدةِ الخلايا ذواتِ الجيناتِ الذّكرِيَّةِ وذواتِ الجيناتِ الأُنثويَّةِ بتقديرِ اللهِ وقُدْرَتِهِ كائناتٍ حَيَّةً ذواتِ خلايا مُتَخَصِّصةٍ، وصارَتْ الخلايا المُتَخَصِّصةُ في الكائناتِ الحَيَّةِ المُتَعَدِّدةِ الخلايا ذواتِ الجيناتِ الذّكرِيَّةِ بتقديرِ اللهِ وقُدرتِهِ تُكَوِّنُ كائناتٍ حَيَّةً ذَكَرِيَّةً، وصارَتْ الخلايا المُتَخَصِّصةُ في الكائناتِ الحَيَّةِ المُتَعَدِّدةِ الخلايا ذواتِ الجيناتِ الأُنْثَوِيَّةِ بتقديرِ اللهِ وقُدرتِهِ تُكَوِّنُ كائناتٍ حَيَّةً أُنْثَوِيَّةً، ثُمَّ اصْطَفى اللهُ تباركَ وتعالى نوعاً من الكائناتِ الحيَّةِ ذَواتِ الخلايا المُتَخَصِّصَةِ التي تُكَوِّنُ كائناتٍ حَيَّةً ذَكَرِيَّةً، وكائناتٍ حَيَّةً أُنْثَوِيَّةً، واصْطَفَى من هذا النَّوعِ كائناً حيّاً ذكرياً، وكائناً حيّاً أُنثويّاً، وجَعَلَهُما في مُحيطٍ بيئيٍّ خاص، قال تعالى في (سورة آلِ عِمران : 33) : “إنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ ..”، وتَدُلُّ الآياتُ التي ذكرتْ خَلْقَ آدم على أنّ المحيطَ البيئيَّ الذي وَضَعَ اللهُ فيه الكائنينِ اللَّذينِ اصْطفاهُما من نوعٍ من الكائناتِ الحيَّةِ ذواتِ الخلايا المُتَخَصِّصَةِ هو طِينٌ مُتَكَوِّنٌ من خليطٍ من ماءٍ وتُرابٍ مأخوذٍ من تُرابِ الأرضِ الذي يَحْتَوِي على جميعِ العناصِرِ الفِلِزيّة واللافلزيّة الموجودة في الأرض، وكان ذلك الطّينُ قد صار بَعْدَ زَمَنٍ لا يَعْلَمُهُ إلّا اللهُ طيناً أسودَ مُنْتِناً تعيشُ فيه بكتريا خاصّة، وصارَ ذلك الطّينُ الأسودُ المُنْتِنُ مُحيطاً بِيئِيّاً يَنْمُو فيه الكائِنان شَبيهاً برَحِمِ المَرْآةِ الذي يَنْمُو فيه الجَنينُ، وعَمِلتْ البكتريا الخاصّةُ الموجودَةُ في الطِّين الأسودِ المُنْتِنِ عُضواً يُشْبِهُ المَشِيمَةَ التي يَتَغَذَّى عليها الجنين في رحِمِ أُمِّهِ، وقد أثبتَتْ الأبحاثُ العِلْميّةُ أنَّ المَشِيمَةَ التي تتكوّنُ في رَحِمِ الأمّ الحامِلِ تَتَكوّنُ بفِعْلِ البكتريا، فكانَ الكائنانِ الذّكرُ والأنثى يَتَغَذَّيان من ذلك العُضْو الذي يُشْبِهُ المَشِيمَةَ، ويأتِيه الغِذاءُ من المُحِيطِ الذي تَكَوَّنَ فيه ذلك العُضْو، ونَما الكائنان كما يَنْمُو الجَنينُ في رَحِمِ الأمّ، وكَوّنتْ الخلايا المُتَخَصِّصَةُ في الكائنِ الحَيِّ الذَّكَرِ، والخلايا المُتَخَصِّصَةُ في الكائنِ الحَيِّ الأُنْثى أعْضاءَ خاصَّةً في كُلٍّ مِنْهُما، وجَعَلَ اللهُ تبارَكَ وتعالى بعِلْمِهِ وتقديرِهِ وقُدْرَتِهِ كُلَّ عُضوٍ في المكانِ الذي قَدَّرَهُ مِنْ بَدَنِ كُلٍّ مِنْهُما، فخَلَقَهُما في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وصارَ كُلُّ منهُما بَشَراً مُكْتَمِلَ الأعْضاء، ثُمَّ جَفَّ الطِّينُ الأسْوَدُ وصارَ يابِساً كالفَخّار، ثُمَّ تَفَطَّرَ فَخَرجَ منهُ الكائنانِ مُكْتَمِلَيْنِ، فكان الذّكَرُ آدمَ، وكانت الأُنثى زوجَهُ، وأمَرَ اللهُ في ذلك الوقتِ الملائكةَ أنْ يُعَظِّمُوا اللهَ في خَلْقِ آدَم بقولِ : (سُبحانَ اللهِ الذي أحْسَنَ خَلْقَكَ، وأعظَمَكَ على مخلوقاتِهِ)، ولم يَذْكُرْ القُرآنُ كيفَ عاشَ آدَمُ وزوجُهُ في البُستانِ أو الحديقة التي وَضَعَهُما اللهُ فيها، وكيفَ كَبِرا حتى صارا بالغَيْنِ مُدْرِكَين، ومتى قال اللهُ لآدمَ وزوجِهِ : “لا تأكُلا من هذه الشَجَرة”، وأقولُ في ختامِ هذا البحثِ الموجَزِ الذي كَتَبْتُهُ في ضوء معاني آياتِ القرآن في خلْقِ آدمَ وزوجِهِ : إنَّ اللهَ تبارَكَ وتعالى قادِرٌ على أنْ يَخْلُقَ الكونَ ويخلُقَ آدمَ وزوجَهُ بقولِ (كُنْ فيكون) ولكنّ اللهَ تباركَ وتعالى أرادَ أنْ يَخْلُقَ كُلَّ شيءٍ في الكونِ بأسبابٍ خَلَقَها بعِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ وتَقديرِهِ وقُدْرَتِهِ، وبهذه الأسباب أوجَدَ اللهُ الكونَ، وكُلَّ شيءٍ في الكونِ) .

ومعنى الآية (26 من سورة الحِجر) :  وأُقْسِمُ على سبيلِ التَّوكيدِ لَقَدْ خَلَقْنا الإنسانَ الأوَّل (وهو آدَمُ) من طِينٍ يابِسٍ كائنٍ من طينٍ أسْوَدَ مُنْتِنٍ (أي : مُخَمَّرٍ زَمَناً طويلاً)، ومعنى الآية (14 من سورة الرّحمن) قريبٌ من معنى الآية (26 من سورة الحِجر)، (ويُؤَيِّدُ هذا المعنى ما ذَكَرْتُهُ قبل قليلٍ من أنَّ اللهَ تَبارَكَ وتعالى اصْطَفى من نوعٍ من الكائناتِ الحيَّةِ ذواتِ الخلايا المُتَعَدِّدةِ المُتَخَصِّصَةِ كائناً حيّاً ذكرياً ذا جيناتٍ تختَصُّ بتكوينِ أعضاءٍ مُعَيَّنةٍ فيه، وكائناً حيّاً أُنثويّاً ذا جيناتٍ تختَصُّ بتكوينِ أعضاءٍ مُعَيَّنةٍ فيه، وجَعَلَهُما في مُحيطٍ بيئيٍّ خاص، وتَدُلُّ الآياتُ التي ذكرتْ خَلْقَ آدم على أنّ المحيطَ البيئيَّ الذي وَضَعَ اللهُ فيه الكائنين اللذين اصطفاهُما من نوعٍ من الكائناتِ الحيَّةِ ذوات الخلايا المُتَعَدِّدةِ المُتَخَصِّصَةِ هو طينٌ مُتَكَوِّنٌ من خليطٍ من ماءٍ وتُرابٍ مأخوذٍ من تُرابِ الأرضِ الذي يحتوي على جميعِ العناصر الفِلزيّة واللافلزيّة الموجودة في الأرض، وكان ذلك الطّينُ قد صار بعدَ زَمَنٍ لا يعلمُهُ إلّا اللهُ طيناً أسودَ مُنْتِناً تعيشُ فيه بكتريا خاصّة، وصار ذلك الطّينُ الأسودُ المُنْتِنُ مُحيطاً بيئيّاً ينمو فيه الكائنان شبيهاً برَحِمِ المرآةِ الذي ينمو فيه الجنين، وعَمِلتْ البكتريا الخاصّةُ الموجودةُ في الطين الأسودِ المُنْتِنِ عُضواً يُشْبِهُ المَشِيمَةَ التي يَتَغَذَّى عليها الجنين في رحِمِ أُمِّهِ، وقد أثبتَتْ الأبحاثُ العِلْميّةُ أنَّ المَشِيمَةَ التي تَتَكَوَّنُ في رَحِمِ الأمّ الحامِلِ تَتَكوّنُ بفِعْلِ البكتريا، فكانَ الكائنانِ الذّكرُ والأنثى يَتَغَذَّيان من ذلك العُضْو الذي يُشْبِهُ المَشِيمَةَ، ويأتيه الغذاءُ من المُحيطِ الذي تَكَوَّنتْ فيه بفِعْلِ البكتريا، وتَدُلُّ الآياتُ التي ذكرتْ خَلْقَ آدم على أنَّ ذلك الطينَ الأسودَ المُنْتِنَ الذي نَما فيه الكائنان واكتملا جَفَّ بعدَ زَمَنٍ، وصار يابساً كالفخّار، ثُمَّ تَفَطَّرَ فَخَرجَ منه الكائنانِ مُكْتَمِلَيْنِ، فكان الذّكَرُ آدمَ، وكانت الأُنثى زوجَهُ، وهما أوَّلُ إنسانٍ خَلَقَهُ اللهُ في الأرض)، ومعنى الآية (12 من سورة المُؤمنون) : وأُقْسِمُ على سبيلِ التَّوكيدِ لَقَدْ خَلَقْنا الإنسانَ الأوَّلَ (وهو آدَمُ) من كائنٍ مُسْتَلٍّ من طينٍ، ومُنْتَزَعٍ منه، ومعنى الآيات (7 من سورة السّجْدة)، و(71 من سورة ص)، و(11 من سورة الصّافّات)، و(2 من سورة العَلَق) قريبٌ من معنى الآية (12 من سورة المُؤمنون)، وكذلك معنى (الآية 20 من سورة الرّوم)، و الآية (11 من سورة فاطر) قريبٌ من معنى الآية (12 من سورة المُؤمنون)، لأنَّ التُرابَ إذا اختَلَطَ بالماءِ الذي خَلَقَهُ على سَطْحِ كوكبِ الأرض وفي باطنِها تَكَوَّنَ الطينُ الذي هو أصْلُ خَلْقِ الإنسان الأوّل (ويُؤَيِّدُ هذا المعنى ما ذَكَرْتُهُ قبل قليلٍ من أنَّ المعروفَ عِلْميّاً أنَّ البكتريا تتَوَلَّدُ في الطّين الذي يَتَكَوَّنُ من اختلاطِ تُرابِ الأرضِ بالماء، فالماءُ المُختَلِطُ بتُرابِ أرض الكواكِبِ والمَجَرّاتِ وعلى سُطُوحِها بَعْدَ الانفجارِ الكوني هو أصْلُ وجودِ البكتريا التي هي أصْلُ الكائناتِ الحيّةِ ذواتِ الحَرَكةِ والنَّماء، وأنَّ اللهَ تبارك وتعالى اصْطَفى نوعاً من الكائناتِ الحيَّةِ ذوات الخلايا المُتَعَدِّدةِ المُتَخَصِّصَةِ، واصْطَفى منه كائناً حيّاً ذكرياً ذا جيناتٍ تختَصُّ بتكوينِ أعضاءٍ مُعَيَّنةٍ فيه، وكائناً حيّاً أُنثويّاً ذا جيناتٍ تختَصُّ بتكوينِ أعضاءٍ مُعَيَّنةٍ فيه، وجَعَلَهُما في طينٍ، ثُمَّ اسْتَلَّ اللهُ من ذلك الطينِ الكائنين بعد أنْ اكْتَمَلَ نُمُوُّهما، وبعدَ أنْ جَفَّ ذلك الطّينُ، وصار يابساً، ثُمَّ تَفَطَّرَ فانْتَزَعَ اللهُ منه الكائنينِ مُكْتَمِلَيْنِ، فكان الذّكَرُ آدمَ، وكانتْ الأُنثى زوجَهُ) .

التحليل اللغوي :

30 – (وإذْ قال … خليفة) مرتبطة بما قبلها بالواو، (إذْ) ظرفٌ لما مضى من الزمان متعلّق بمُقدّر، ويُمكن تقديره : (وذَكِّرْهم قِصَّةَ خَلْقِ آدم إذْ ..)، والضمير في (ذَكِّرْهم) عائدٌ إلى بني إسرائيل الموجودين في المدينة المنوّرة زَمَن الرسول (ص) بدلالة ارْتباط هذه الآيات التي تتحدّث عن خَلْقِ آدم بالحديث عن بني إسرائيل، وأيضاً جاء في التوراة (سفر التكوين) الحديثُ عن خَلْقِ آدم بعدَ الحديث عن خَلْقِ السماوات والأرض كما في القرآن، و(إذْ) مُضاف إلى الجملة (قال ربُّك ..)، (ربُّك) فاعلُ القول، (للملائكة) مُتعلّقان بـ(قالَ)، (إنّي جاعل .. خليفة) مقول القول، (إنّي) (إنّ) واسمُها، (جاعلٌ) خبر (إنَّ)، (في الأرض) مُتعلّقان بـ(جاعل)، (خليفةً) مفعول به لـ(جاعل)، لأنّه اسم فاعل، و(خَلَفَ فلاناً، واسْتَخْلَفَهُ) : جَعَلَهُ خَليفَتَهُ، و(الخليقة) : المُسْتَخْلَفُ على شيءٍ ليقومَ فيه بما يأمُرُهُ به الذي اسْتَخْلَفَهُ وبما يَنْهاهُ عنه، (قالوا … الدماء) مستأنفة في سياق ما قبلها، (أتجعلُ ..) مقول القول، (تَجعلُ) مُضارع مرفوع، وفاعلُهُ ضميرُ المُخاطَب مُستتراً، والهمزة حرف استفهام، والاستفهامُ واقعٌ على الفعل (تجعلُ)، فهم أرادوا أنْ يَعْرِفُوا هَلْ يكونُ من هذا المَخْلوقِ ما كان من المخلوقِ الذي خَلَقَهُ اللهُ قَبْلَهُ، (فيها) مُتعلّقان بـ(تجعلُ)، والهاء ضمير عائد إلى (الأرض)، (مَنْ) نكرة موصوفة مفعول به، (يُفْسِدُ فيها) صفة لـ(مَنْ)، (يُفْسِدُ) مُضارع مرفوع، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (مَنْ)، وتقدّمَ القولُ في معنى (يُفسِدُ) في (الآية :27)، (فيها) مُتعلّقان بـ(يُفسِدُ)، و(يسفِكُ الدماءَ) عطف على (يُفْسِدُ ..)، و(يسفِكُ) مثل (يُفْسِدُ)، (الدماءَ) مفعول به، (وسَفَكَ الدّمَ) : أراقَهُ وصَبَّهُ، (ونحن نُسَبِّحُ بحمدك) حال من فاعل (قالوا)، (نحنُ) مُبتدأ، (نُسَبِّحُ) مُضارع مرفوع، وفاعلُهُ ضمير المُتكلّمين مُستتراً، و(سَبَّحَ اللهَ، وله) : نَزَّهَهُ، (بحمدك) مُتعلّقان بمُقدّر حال من فاعل (نُسبّح)، (ونُقدّس لك) عطف على ما قبلها، و(قَدَّسَ للهِ) : طَهَّرَ نَفْسَهُ لَهُ، و(قَدَّسَهُ) : عَظَّمَهُ وكَبَّرَهُ، (قال … لا تعلمون) مُستأنفة في سياق القصّة، (قال) فعل ماضٍ، وفاعل القول ضمير عائد إلى (ربّك)، (إنّي … لا تعلمون) مقول القول، (إنّي) (إنّ) واسمُها، (أعلمُ .. تعلمون) خبر (إنَّ)، (أعلمُ) مُضارع مرفوع، وفاعلُهُ ضمير المُتكلّم مُستتراً، (ما) موصول مفعول به، (لا تعلمون) صلة (ما)، (لا) نافية، (تعلمون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجمماعة) فاعلُهُ، والعائد إلى (ما) مُقدّر، والتقدير : (تعلمونهُ)

31 – (وعلّم آدم .. كلها) مرتبطة بما قبلها بالواو، (علَّمَ) فعل ماضٍ، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (ربّك)، (آدمَ) مفعول به أوّل، (الأسماءَ) مفعول به ثانٍ، (كُلَّها) توكيد لـ(الأسماء)، و(عَلَّمَ فلاناً االشيءَ) : جَعَلَهُ يتعلَّمُهُ، و(الأسماء) : جمعُ (اسْم)، و(الاسْم) : ما يُعْرَفُ به ذاتُ الشيء، ويُستَدَلُّ به عليه، قال ابن سِيده : (الاسمُ : اللفظُ الموضوعُ على الجوهر أو العَرَض لتفْصِلَ به بَعْضَهُ عن بعضٍ، كقولِك مُبْتَدِئاً : اسمُ هذا كذا)، فالأسماءُ هنا هي : أسماءُ الأشياء التي خَلَقَها اللهُ في الأرض، (ثم عرضهم على الملائكةِ) عطف على ما قبلها بـ(ثمّ) التي تدلّ على تراخي الزّمَن، (عَرَضَهم) فعل ماضٍ، وفاعلُهُ ضمير عائدٌ إلى (ربّك)، والضمير (هم) مفعول به عائد إلى الأشياء التي خَلَقَها اللهُ في الأرض، ووضَعَ آدمُ اسماً عليها، (على الملائكةِ) مُتعلّقان بـ(عَرَضهم)، و(عَرَضَ عليه الشيءَ) : أراهُ إيّاه، (فقال … صادقين) عطف على ما قبلها، (أنبئوني .. تعلمون) مقول القول، والجملة شرطية، تقدّم فيها جواب الشرط للاهتمام به، (أنْبِئوني) أمْرٌ مبني على حذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، والنون للوقاية، وياء المُتكلّم مفعول به، (بأسماءِ) مُتعلّقان بـ(أنبئوني)، و(أسماء) مُضاف إلى (هؤلاء)، والجملة (أنبئوني بأسماء هؤلاء) جواب الشرط مُقدّم للاهتمام به، و(أنْبَأَهُ بالخبر) : أخْبَرَهُ، (إنْ) حرف شرط، (كنتم صادقين) جملة الشرط، (كنتم) (كان) واسمُها، (صادقين) خبر (كان)، والمُتعلّق بـ(صادقين) محذوف بدلالة السياق، والتقدير : (بما تتوَقَّعونَهُ من البَشَرَ الذي من الخليفة الذي أسْتَخْلِفُهُ مِمَّنْ قَبْلَهُ في الأرضِ)، و(صَدَقَ فلانٌ) : أخْبَرَ بالحقِّ

32 – (قالوا … علمتنا) مُستأنفة في سياق القصّة، (قالوا) فعل ماضٍ، (واو الجماعة) فاعلُهُ، وهو عائد إلى (الملائكة)، (سبحانك) مقول القول، (سُبْحانَ) مفعول مُطلق، وفعلُهُ محذوف وجوباً، ومعناه التّنْزِيه، وهو مُضاف إلى الكاف من إضافة المصدر إلى فاعلِهِ، وتصديرُ الكلام به اعتذارٌ عن الجَهْلِ بحقيقة الحال، (لا عِلْمَ .. علّمتنا) مُستانفة في سياق قولِ الملائكة، (لا عِلْمَ لنا) (لا) نافية للجنس، (عِلْمَ) مبني على الفتح لتركيبِهِ مع (لا) تركيب (خمسةَ عَشَرَ)، والمُركَّبُ (لا عِلْمَ) في محلِّ رفعٍ مُبتدأ، (لنا) مُتعلّقان بـ(عِلْمَ)، (إلاّ) أداة حصر، (ما) موصول في محلّ رفع خبر المُبتتدأ، (علّمْتَنا) صلة (ما)، (عَلَّمْتنا) فعل ماضٍ، والتاء ضمير المُخاطب فاعلُهُ، وضمير المُتكلّمين مفعول به أوّل، والمفعول به الثاني مُقدّر، وهو العائد إلى (ما)، والتقدير : (علّمتنا إيّاه)، (إنّك أنت العليم الحكيم) تعليل لقوله (لا عِلْمَ لنا ..)، الكاف في (إنَّك) ضمير المُخاطَب اسم (إنَّ)، (أنتَ) ضمير مُنفصِل توكيد لضمير المُخاطَب المُتّصِل، (العليم) خبر (إنّ)، (الحكيم) خبر ثان لها

33 – (قال … بأسمائهم) مستأنفة في سياق ما قبلها، وفاعلُ القول ضمير عائد إلى (ربّك)، (يا آدمُ .. بأسمائهم) مقول القول، (يا) أداةُ نداء، (أدمُ) مُنادَى مُفرد مبني على الضمّ في محلّ نصب بـ(يا) التي قامت مقام (أدعو) أو (أُنادي)، (أنْبِئْهم بأسمائهم) ما نُودِيَ لأجلِهِ، (أنْبِئْهم) أمْرٌ وفاعلُهُ ضميرُ المُخاطب مُستتراً، والضمير (هم) مفعول به عائد إلى (الملائكة)، (بأسمائهم) مُتعلّقان بـ(أنْبِئْهم)، و(أسماء) مُضاف إلى الضمير (هم) العائد إلى (هؤلاء الأشياء)، (فلما أنبأهم … والأرض)، مرتبطة بما قبلها بالفاء، (لمّا) ظرفية فيها معنى الشرط، (أنبأهم بأسمائهم) جملة الشرط بـ(لمّا)، (أنبأهم) فعل ماضٍ، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (آدم)، والضمير (هم) مفعول به، (بأسمائهم) مُتعلّقان بـ(أنْبَأَهم)، (قال … والأرض) جواب (لمّا)، (ألم … والأرض) مقول القول، والهمزة في (ألم) للاستفهام التقريري، (لم) حرف نفي وقلب وجزم، (أقُلْ) مُضارع مجزوم، وفاعلُهُ ضمير المُتكلّم مُستتراً، (لكم) مُتعلّقان بـ(أقُلْ)، (إنّي … والأرض) مقول القول، (إنّي) (إنَّ) واسمها، (أعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض) خبر (إنّ)، (أعْلمُ) مُضارع مرفوع، وفاعلُهُ ضمير المُتكلّم مُستتراً، (غيبَ) مفعول به، وهو مُضاف إلى (السماوات)، (والأرض) عطف على (السماوات)، (انظُرْ المُراد بـ(السماء)، و(السَّماوات) في الآية : 133 من سورة آل عمران)، والمُرادُ بـ(السماوات والأرض) : الكونُ كُلُّهُ، وهو الذي يشتملُ على مجرّتنا (دَرْبِ التّبانة) وعلى المجرّات الأخرى التي لم يصلْ عِلْمُ البَشَرِ إلّا على عددٍ قليلٍ منها، ولم يعرف حقيقتَها وسَعَتها إلّا اللهُ سُبحانه وتعالى)،  و(الغَيْب) : كُلُّ ما غابَ عن الإدراكِ، (وأعلم ما تبدون) عطف على (أعلمُ .. والأرض)، (ما) نكرة موصوفة مفعول به، (تُبْدون) صفة لـ(ما)، (تُبدون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعله، والعائد إلى (ما) مُقدّر، والتقدير : (تُبْدونَهُ)، و(أبْدى الشيءَ) : أظهره، (وما كنتم تكتمون) (ما) نكرة موصوفة عطف على (ما)، وقام حرفُ العطف مقامَ الفِعْل (أعْلَمُ)، (كنتم تكتمون) صفة لـ(ما)، (كنتم) (كان) واسمها، (تكتمون) خبر (كان)، (تكتمون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، والعائد إلى (ما) مُقدّر، والتقدير : (تكتمونَهُ)، و(كَتَمَ الشيءَ) : سَتَرَهُ وأخفاه .

وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٣٤

المعنى في ضوء التحليل االلغوي :

34– وذَكِّرْ بني إسرائيل المَوْجُودِينَ في المَدِينَةِ حين قُلنا للملائِكَةِ : عظِّموا آدمَ بقولِ : سُبحانَ اللهِ الذي أحْسَنَ خَلْقَكَ، وأعظَمَكَ على مخلوقاتِهِ، (يَدُلُّ النّظْمُ على أنّ إبليسَ كان في جُملةِ الملائكةِ، فهو داخلٌ مَعَهُم في الأمْرِ)، فعَظَّمُوهُ بقولِهم : سُبحانَ اللهِ الذي أحْسَنَ خَلْقَكَ، وأعظَمَكَ على مخلوقاتِهِ إلّا إبليسَ حالةَ كونِهِ قد اسْتَعْصَى على أمْرِنا، وامْتَنَعَ عن إطاعَتِهِ مُعانَدَةً وتَكَبُّراً، وكان حينئذٍ من الجاحِدِينَ العاصين لأمْرِنا، (يَدُلُّ السِّياقُ على أنّ إبليسَ كان من الجنِّ ولم يَكُنْ من الملائكةِ، ولكنّهُ كان في جُمْلتِهم، فهو داخلٌ مَعَهُم في الأمْرِ بالسُّجودِ بدليل قولِهِ تعالى في (سورة الكهف، الآية : 50) : “فسَجَدُوا إلّا إبليسَ كان من الجِنِّ”، ويَدُلُّ ارتباطُ الأمْرِ بسُجودِ الملائكَةِ لأدم بقولِهِ تعالى إنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ شيءٍ يُظْهِرونَهُ من الفِعْلِ، ويعلمُ كُلَّ شيءٍ يسْتُرونَهُ ويُخفونَهُ في أنْفُسِهم على أنّ اللهَ تعالى يَعْلَمُ أنَّ الملائكةَ كانوا يُخْفُونَ في أنفُسِهم أنّهم أفْضَلُ خَلْقٍ خَلَقَهُ اللهُ في السَّماواتِ والأرضِ بما أعطاهم اللهُ من القُوى والقُدُراتِ على إنجازِ أوامِرِ اللهِ في السَّماواتِ والأرضِ، ويُخْفُونَ في أنفُسِهم أنّهم خيرٌ من المَخْلُوقِ الذي يَسْتَخْلِفُهُ مِمَّنْ قَبْلَهُ في الأرضِ، ويَعْلَمُ أنَّ إبْلِيسَ الذي كان في جُملتِهم يَسْتُرُ ذلك في نفسِهِ ويُخفيه، ويَعْلَمُ اللهُ تعالى زِيادَةً على ذلك أنَّ إبليسَ كان يُخْفِي في نَفْسِهِ الكِبْرياءَ، ويُخْفِي في نَفْسِهِ اعتقادَهُ أنَّهُ أفضلُ من الملائكةِ، وأنّهُ يُضاهِي اللهَ تعالى في القُدْرَةِ، فأرادَ اللهُ أنْ يُظْهِرَ مَنْ يُطيعُ أمْرَهُ بالسُّجُودِ لآدَمَ مُتَمَيّزاً عن الذي يَعْصِي أمْرَهُ، ويمتَنِعُ عن فِعْلِهِ مُعاندةً وتكبُّراً، فكانَ الأمْرُ بالسُّجودِ لآدمَ اختباراً للملائكةِ وإبليسَ الذي هو في جُمْلَتِهم، فظَهَرَ عِلْمُ اللهِ بما كانَ إبليسُ يكتُمُهُ في ذاتِهِ، و ظَهَرَ لهم عَلِمُهُ بكُلِّ شيءٍ يُظْهِرونَهُ من الفِعْل، وكُلِّ شيءٍ يسْتُرونَهُ ويُخفونَهُ في أنفسهم، ويَدُلُّ مجيءُ الآياتِ في سياقِ الكلام عن اليهودِ على أنَّ الله تعالى أراد من تذكيرِهم بقِصّةِ خَلْقِ آدم أنْ يُنَبِّهَهم إلى عِدّة أمور، الأوّل : أنّ اللهَ يعلمُ غَيْبَ السَّماواتِ والأرضِ، فما يفعلُهُ في السّماواتِ والأرضِ مُطابقٌ لعلمِهِ، ومن ذلك بَعْثُهُ مُحَمَّداً (ص) رسولاً في آخِرِ الرُّسُلِ، فلا يجوزُ لأحدٍ أنْ يَعْتَرِضَ على فِعْلِ الله هذا، ولا أنْ يُنْكِرَ نُبوَّتَهُ أو يُشَكِّكَ فيها، الثّاني : أنَّ اللهَ يعلمُ ما يجهرُ به المنافقون واليهودُ من قول أو فِعْلٍ، ويَعْلَمُ ما يَسْتُرُونَهُ ويُسرّونَهُ في أنْفُسِهم من قولٍ أو فِعْلٍ، الثّالثُ : أنَّ الله يُحَذّرُهم أنْ لا يَحْمِلُهُم اسْتِكبارُهم وحَسَدُهم على عَدَمِ الإيمانِ برسولِهِ مُحَمّدٍ وبالقرآن الذي أننْزَلَهُ إليه) .

التحليل اللغوي :

34 – (وإذْ قلنا … لآدم) مرتبطة بما قبلها بالواو، (إذْ) ظرف لما مضى من الزمان متعلّق بفعل مُقدّر، تقديره : (وذّكِّرْهم)، و(إذْ) مُضاف إلى الجملة (قُلْنا ..)، (للملائكة) مُتعلّقان بـ(قلنا)، (اسْجُدوا لآدم) مقول المقول، (اسْجُدوا) أمْرٌ مبني على حذف النون، (واو الجماعة) فاعله، (لآدم) مُتعلّقان بـ(اسجدوا)، و(سَجَدَ) : خضَعَ، وانحنى، وتطامَنَ، و(سَجَدَ) : وَضَعَ جبهَتَهُ على الأرض، و(سَجَدَ لله) عظَّمَهُ، والموافق للسياق من هذه المعاني : معنى التعظيم بإشارةٍ أو قولٍ كالانحناءِ، أو قولِ : (أحْسَنَ اللهُ خَلْقَكَ، وأعظَمَكَ على مخلوقاتِهِ)، (فسجدوا… إبليس) مرتبطة بما قبلها بالفاء، (إلاّ) أداة استثناء، (إبليسَ) مُستثنى من الملائكة الذين وَجَّهَ إليهم الأمْرَ بالسجود، لأنّه كان في جُملتهم، فهو داخلٌ معهم في الأمْرِ، فلمّا امْتَنَعَ عن إطاعةِ الأمْرِ أخْرَجَهُ بالاستثناء منهم، (أبى) حال من (إبليس) على تقدير (قد)، و(أبى عليه) : استَعْصى وامْتَنَعَ، (واسْتكبرَ) عطف على (أبى)، و(استكبرَ) : امْتَنَعَ مُعاندةً وتكبّراً، (وكان من الكافرين) عطف على (أبى)، و(كان) فعل تام، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (إبليس)، (من الكافرين) مُتعلّقان بمُقدّر حال من فاعل (كان) .

وَقُلۡنَا يَٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٣٥ فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ ٣٦ فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ٣٧ قُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ مِنۡهَا جَمِيعٗاۖ فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٣٨ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٣٩

المعنى في ضوء التحليل االلغوي :

35 – وذَكِّرْ بَنِي إسْرائِيلَ المَوْجُودِينَ في المَدِينَةِ حينَ قُلْنا لآدَمَ : يا آدَمُ، اسْتَوْطِنْ أنتَ وزوجُكَ هذِهِ الجَنَّةَ (أي : الحَدِيقَةَ ذاتَ النَّخْلِ والأشجارِ المُثْمِرَةِ)، وأقِيما فيها، وكُلا من ثَمَرِها أكْلاً واسِعاً غيرَ مَحْدُودٍ بمِقْدارٍ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ ولا مَشَقَّةٍ في أيِّ مكانٍ تُرِيدانِ، وأنْهاكُما عن أنْ تًدْنُوَا من هذِهِ الشَّجَرَةِ، وتُباشِرا الأكْلَ من ثَمَرِها، فتَصِيرا بسَبَبِ الأكْلِ مِنْها من الحائِدِينَ عن طاعَةِ الله بعِصْيانِ أمْرِهِ، (يَدُلُّ قوله : (وزوجك) على أنَّ اللهَ تعالى خلقَ آدَمَ وزوجَهُ في وقتٍ واحِدٍ، ويَدُلُّ خلْقُ آدمَ وزوجِهِ في الأرْضِ، والأمْرُ بأنْ يَسْكُنَ الجَنَّةَ التي عَرَّفَها لَهُ على أنَّ تلكَ الجَنَّةَ (أي : الحَدِيقَةَ) كائِنَةٌ في مكانٍ في الأرْضِ، وليس جَنَّةً في السّماءِ، ويَدُلُّ السّياقُ على أنَّ الأوامِرَ والنَّواهِي مُوَجَّهَةٌ إليهما معاً، فكلاهُما مُكَلَّفانِ)

36 – فسَكَنا فيها، وأكَلَا منها رَغَداً، ثُمَّ زَيَّنَ لهما الشيطانُ الأكْلَ من الشَّجَرَةِ التي نَهاهُما رَبُّهُما عن الأكْلِ منها، وأغْراهما بالأكْلِ منها (المُرادُ بـ(الشيطان) هنا : إبليسُ، وسَمّاهُ ربُّهُ شيطاناً، لأنّه خالفَ أمْرَ ربِّهِ وتمرّدَ عليه، وبَعُدَ عن الحَقِّ)، فأكَلَا منها، فتَسَبَّبَ الشَّيْطانُ في تَنْحِيَتِهِما عن الجنَّةِ (أي : عن الحَدِيقَةِ ذاتِ النَّخْلِ والأشْجارِ المُثْمِرَةِ، ويَدُلُّ المعنى على أنَّهُما أُزِلّا عنها بإغواءِ الشَّيطانِ إيّاهُما، كما تقولُ للذي يَعْمَلُ ما يَكونُ وُصْلَةً إلى أنْ يَحْمِلَكَ على أنْ يَزِلَّكَ من حالٍ جميلةٍ إلى غيرِها : أنْتَ أزْلَلْتَني عن هذا، أي : قبولي منك أزَلَّني، وهذا يعني : أنَّ الشَّيطانَ فَعَلَ وُصْلَةً لحَمْلِهِما على الزَّلَل بقبولِهِما ما فَعَلَهُ أمامَهما، وأعتقدُ أنَّ الشَّيطانَ فَعَلَ أمامَهُما وُصْلَةً إعلاميَّةً لإقناعِهِما بالأكْلِ من الشّجرةِ ليُنَحِّيهما عن الجنّة، كأنْ فَعَلَ مَشْهَداً إعلاميّاً بعَرْضِ مَنافِعِ الأكْلِ من الشَّجَرة، والأضرارِ المُتَرَتِّبةِ على عَدَمَ الأكْلِ مِنها، وهذا المَشْهَدُ الإعلامي أثارَ في نَفْسِ آدمَ وزوجِهِ حديثاً بناءً على ما عَرَضَهُ الشّيطانُ أمامَهُما، وهو ما يُسَمَّى بـ(حديثِ النَّفْسِ)، أو وَسْوَسَة النَّفْسِ لآدمَ وزوجِهِ بتَزْيينِ القَبُولِ بالأكْلِ من الشَّجَرةِ)، وجَعَلَهما يَخْرُجان من المكانِ الذي كانا فيه، ويَنْفَصِلانِ عَنْهُ، وقُلْنا لآدَمَ وزَوْجِهِ وإبْليسَ : اذْهَبُوا مِنْها إلى مَكانٍ في الأرضِ حالةَ كونِ بَعْضِكُم عَدُوَّاً لبَعْضٍ (الخِطابُ لآدمَ وزوجِهِ وإبليس، و(واو الجماعة) في (اهْبِطُوا) كِناية عن آدَمَ وزوجِهِ وإبليس، فجَمَعَهُم اللهُ في الهُبُوطِ، وهذا لا يُعارِضُ كونَ وَقْتِ هُبُوطِ إبليس مُخْتَلِفاً عن وَقْتِ هُبُوطِ آدَمَ وزَوجِهِ)، ولَكُمْ في الأرض مَسْكَناً ومقاماً، ولَكُمْ فيها ما تَنْتَفِعُونَ بِهِ في عَيْشِكُم إلى وَقْتٍ في عِلْمِ اللهِ (يَدُلُّ السِّياقُ أنَّهُ وَقْتُ القِيامَةِ)

37 – فنَدِمَ آدمُ وزَوْجُهُ، فاسْتَقْبَلَ آدمُ من رَبِّهِ جُمَلاً من الكلامِ يَدْعُو بِهِنَّ اللهَ ليَتُوبَ عليه، فوَفَّقَهُ اللهُ للتَّوْبَةِ، فأخَذَها بالقَبُولِ، ودَعَا بها اللهَ، فقَبِلَ اللهُ توبَتَهُ وعَفَا عنه، لأنّه كثيرُ قبولِ التَّوبة، كثيرُ الرَّحمةِ بعبادِهِ (يَدُلُّ معنى الآية على أنَّ اللهَ تعالى أرادَ أنْ يُعَرِّفَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ َأنَّ فِعْلَ الذّنْبِ، ثُمَّ الاعترافَ بِهِ للرَّبِّ تباركَ وتعالى، والنَّدَمَ على فِعْلِهِ، وطَلَبَ المَغْفِرَةِ منه يكونَ وَسِيلَةً إلى أنْ يتوبَ الرَّبُّ على فاعِلِهِ، ويَدُلُّ المعنى على أنَّ الإنسانَ يُمكنُ أنْ يَفْعَلَ الذَّنبَ بتَزْيِينِ الشّيطانِ لَهُ، ولكن عليه أنْ يَنْدَمَ، ويَتُوبَ إلى رَبّهِ مِمّا فعَلَهُ، ويَدُلّ على أنَّ اللهَ يُوَفِّقُ الإنسانَ الذي يَنْدَمُ على فِعلِ الذّنْبِ إلى التّوبَةِ بإيجادِهِ سُبُلَ التَّوبَةِ له، وعلى أنَّ الإنسانَ الذي لا يعترفُ بالذّنْبِ لربِّهِ، ولا يَنْدَمُ على فِعْلِهِ لا يُوَفِّقُهُ ربُّهُ إلى التَّوْبَةِ)

38 – قلنا : اذْهَبُوا مِنْ الجَّنَّةِ وائْتُوا أيَّ مكانٍ في الأرض حالةَ كونِكم مُجْتَمِعِينَ، (يُؤَكِّدُ لفظُ (جميعاً) أنَّ الخِطابَ مُوَجَّهُ لآدمَ وزَوْجِهِ وما جَعَلَ اللهُ فيهما من الذُّرِّيَّةِ في الأرضِ)، فإمّا يأتِيَنَّكم مني بيانٌ يُعَرِّفُهُم وُجُوبَ تَوْحِيدِي وسَبِيلَ عِبادَتِي، وما آمُرُهُم بِهِ وما أنْهاهُم عَنْهُ – وأُؤَكِّدُ أنَّهُ سيأتيكم بَيانِي وحُجَّتي – فالذين عَمِلُوا بما جاءَهُم من الهُدَى، وأطاعُوا أمْرِي ونَهْيِي، ولَمْ يَعْصونِي فلا خوفٌ كائنٌ عليهم من شقاءٍ في الحياةِ الدُّنيا، ولا خوفٌ كائنٌ عليهم من عذابِي في الحياةِ الآخرةِ، ولا هُمْ يُصيبُهم كَرْبٌ ولا حُزْنٌ في الحياة الدُّنيا والآخرة (يَدُلُّ المعنى على أنَّ المُرادَ بـ(الهدى) ما يُوحِيِهِ اللهُ إلى رُسُلِهِ من ذُرِّيَّةِ آدَمَ من الدِّينِ أو الشَّرِيعَةِ التي تُبَيِّنُ الحُجَجَ على وَحْدانِيّةِ اللهِ، ونَفْيِ وُجودِ شَريكٍ مَعَهُ، وتَبَيِّنُ الأحكامَ والوصايا والإرشاداتِ والمعارفَ الإلهيَّةَ التي يأتي بها رُسُلُهُ إلى بني آدمَ في الأرض، فأعْلَمَ اللهُ آدَمَ وزَوْجَهُ بهذا القولِ أنَّ اللهَ سَيَبْتَلِي ذُرِّيَّتَهُما بالطّاعَةِ والمَعْصِيَةِ، ويَدُلُّ السِّياقُ على أنَّ هذا الأمْرَ وَقَعَ عِنْدَ خُرُوجِهِما من الجنَّةِ، وذهابِهِما مِنْها إلى مكانٍ آخَرَ في الأرضِ)

39 – والذين لم يُؤمِنُوا بآياتِنا التي نُرْسِلُ بها رُسُلَنا، وأنكروها وجَحَدوها أولئك مُلازِمُونَ النّارَ حالةَ كونِهم مُقيمِين فيها إقامَةً دائِمَةً (يَدُلُّ المعنى على الذين يَعْصُونَ اللهَ فيما يأمُرُهُم بِهِ وفيما يَنْهاهُم عنه من الأمْرِ بتوحِيدِهِ والنَّهْي عن اتِّخاذِ شُركاءَ مَعَهُ، ويَعْصُون اللهَ في تكْذِيبِ رُسُلِهِ، والإعراضِ عن الدِّينِ أو الشَّرِيعَةِ التي يُرْسِلُ بها إليهم رُسُلَهُ) .

التحليل اللغوي:

35 – (وقلنا … الجنة) عطف على (قُلنا للملائكةِ ..)، (يا آدمُ .. الجنّةَ) مقول القول، وتقدّم القول في النداء، (اسْكُنْ .. الجنّةَ) ما نُودِيَ لأجله، (اسكن) أمْرٌ، وفاعلُهُ ضمير المُخاطب مُستتراً، (أنتَ) توكيد لضمير المُخاطب المُستتر، (وزوجُك) عطف على الضمير المُستتر، (الجنّةً) مفعول، و(سكنَ المكانَ) : أقامَ فيه واسْتَوطَنَهُ، و(الجنّة) : الحديقة ذات النخل والأشجار المُثمرة، أو البُستان، والألف واللام فيها للتعريف الحضوري، فهي بمعنى : (هذه الجنّة)، (وكُلا … شئتما) عطف على ما قبلها، (كُلا) أمْرٌ مبني على حذف النون، وألف الاثنين فاعلُهُ، (منها) مُتعلّقان بـ(كُلا)، والهاء في (منها) في الأصل مُضاف إليه قامَ مقام مُضاف مُقدّر، والتقدير : (من ثَمَرِها)، (رغداً) صفة لمفعول مطلق مُقدّر قامتْ مقامَه، والتقدير : (أكلاً رَغَداً)، و(الرَّغَدُ من العيش) : الكثيرُ الواسع الذي لا يُتْعَبُ فيه، (حيث) ظرف مكان متعلّق بـ(كُلا)، وهو مُضاف إلى الجملة (شِئْتُما)، (شِئْتُما) فعلٌ ماضٍ، وضمير الاثنين (تُما) فاعلُهُ، (ولا تقربا … الظالمين) عطف على (كُلا ..)، (لا) ناهية جازمة، (تقربا) مُضارع مجزوم بحذف النون، وألف الاثنين فاعله، و(قَرِبَ الشيءَ) : دنا منه، وباشَرَهُ، والمُراد هنا : الدُّنُوُّ منها ومُباشرَتُها بالأكْلِ من ثَمَرِها، (هذه) اسم إشارة مفعول به، (الشجرةَ) بدل من (هذه)، (فتكونا من الظالمين) مرتبطة بما قبلها بالفاء السببيّة التي ينتصب بعدها المضارع، (تكونا) مُضارع ناقص منصوب بحذف النون، وألف الاثنين اسْمُ (تكون)، (من الظالمين) مُتعلّقان بمُقدّر خبر (تكون)، و(تكون) بمعنى : تصير

36 – (فأزلّهما .. عنها) يدلُّ السياقُ وآيات القرآن التي ذكرتْ قصَة خَلْقِ آدم على أنَّها مرتبطة بالفاء التي بمعنى السَّبَبِ بكلام مُقدّر حُذِف اختصاراً، ويُمكن تقديره : (فسَكَنا فيها، وأكلا منها رَغَداً، ثُمَّ زَيَّنَ لهما الشيطانُ الأكْلَ من الشجرةِ التي نهاهما ربُّهما عن الأكْلِ منها، فأكلا منها، فأزَلَّهما ..)، (أزَلَّهما) فعل ماضٍ، والضمير (هما) مفعول به، وهو عائد إلى (آدم وزوجِهِ)، (الشيطانُ) فاعلُهُ، و(الشيطانُ) هو : إبليس، وسُمّيَ (شيطاناً) لأنّه خالفَ أمْرَ ربِّهِ وتمرّدَ عليه، وبَعُدَ عن الحقّ، و(الشيطان) : (فَيْعال) من (شَطَنَ)، يُقال : (شَطَنَتْ الدارُ) : بَعُدَت، و(بئر شَطُون) : بعيدةُ القَعْرِ في جرابها عِوَج، و(الشّاطِنُ) : البعيدُ عن الحقّ، و(شطَنَ صاحبَه) : خالفَهُ، ويُطلَقُ (الشّيطان) على كُلِّ مُتَمَرِّدٍ مُغْوٍ فاسِدٍ مُضِلٍّ، (عنها) مُتعلّقان بـ(أزَلَّهما)، والضمير عائد إلى (الجنّة)، و(أزلّهُما الشّيطانُ عنها) : نَحّاهُما الشّيطانُ عن الجنّة، قال الزّجّاجُ في (معاني القرآنِ وإعرابِهِ :ج1 ص115، ط 1) : (معناهُ : أنَّهُما إزِلّا بإغواءِ الشَّيطانِ إيّاهُما، فصارَ كأنَّهُ أزَلَّهُما، كما تقولُ للذي يَعْمَلُ ما يكونُ وُصْلَةً إلى أنْ يَزِلّك من حالٍ جميلة إلى غيرِها : أنْتَ أزْلَلْتَني عن هذا، أي : قبولي منك أزَلَّني)، (فأخرجهما .. فيه) عطف على ما قبلها، (أخْرَجهما) فعل ماضٍ وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (الشيطان)، والضمير (هما) مفعول به، (ممّا) هي (من) و (ما)، وهما مُتعلّقان بـ(أخْرجهما)، و(ما) موصول، (كانا فيه) صلة (ما)، (كانا) (كان) فعلٌ ماضٍ ناقص، (ألف الاثنين) اسم (كان)، (فيه) مُتعلّقان بمُقدّر خبر (كان)، و(أخْرَجَهُ من المكان) : جَعَلَهُ يَبْرزُ منه، ويَنْفَصِلُ عنه، (وقلنا …عدو) مرتبطة بما قبلها بالواو، (اهْبطوا .. عدوٌّ) مقول القول، (اهبطوا) أمْرٌ مبني على حذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، وهو كِناية عن آدَمَ وزوجِهِ وإبليس، فجَمَعَهُم اللهُ في الهُبُوطِ، وهذا لا يُعارِضُ كونَ وَقْتِ هُبُوطِ إبليس مُخْتَلِفاً عن وَقْتِ هُبُوطِ آدَمَ وزَوجِهِ، و(هَبَطَ) : نَزَلَ أو انْحَدَرَ، و(هَبَطَ المكانَ) : ذَهَبَ إليه أو دَخَلَهُ، قال تعالى : “اهبطوا مِصْراً”، و(هَبَطَ السوقَ) : أتاها، (بعضُكم لبعض عدو) حال من فاعل (اهبطوا)، (بعضُكم) مبتدأ، (لبعضٍ) مُتعلّقان بـ(عدوّ)، (عدوٌّ) خبر المُبتدأ، (ولكم .. مستقرّ) مُرتَبِطُة بما قبلها بالواو في سياق القول، (لكم) مُتعلّقان بمُقدّر خبر مُقدّم، (في الأرض) مُتعلّقان بـ(مُستقرٌّ)، (مُسْتَقَرٌّ) مبتدأ مُؤخّر، و(المُسْتَقَرُّ) : المَسْكَنُ، ومحَلّ الإقامة (ومتاع) مبتدأ، والخبر مُقدّر، والتقدير : (ولكم متاعٌ)، و(المَتاعُ) : ما يُنْتَفَعُ به من طعامٍ وشرابٍ وغيرِ ذلك، (إلى حين) مُتعلّقان بـ(متاع) والجملة عطف على ما قبلها

37 – (فتلقّى… كلماتٍ) يدلُّ السياقُ على أنّها مرتبطة بالفاء بكلام مُقدّر حُذِف اختصاراً، والتقدير : (فنَدِمَ آدمُ وزوجُهُ، فتلقى آدمُ)، (تَلَقّى) فعلٌ ماضٍ، (آدمُ) فاعلُهُ، (من ربِّهِ) مُتعلّقان بـ(تلقّى) (كلماتٍ) مفعول به، و(تَلَقّى الشَيءَ) : اسْتَقْبَلَهُ، وأخَذَهُ، و(كلمات) جمع (كلمة)، وجاءت هنا بمعناها اللغوي لا بمعناها الاصطلاحي، (فتاب عليه) عطف على ما قبلها، (إنّه .. الرحيم ) تعليل لما قبلها، (إنّهُ) (إنّ) واسمها، (هو) ضمير الفصل لا محلّ له (التّوابُ) خبر (إنّ)، (الرحيم) خبر ثانٍ

38 – (قلنا .. جميعاً) مستأنفة في سياق ما قبلها، (اهبطوا .. جميعاً) مقول القول، (اهبطوا) أمْرٌ مبني على حذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (منها) مُتعلّقان بـ(اهبطوا)، (جميعاً) حال من (واو الجماعة)، و(هَبَطَ من المكان) : انْحَدَرَ منه، و(هَبَطَ السوقَ) : أتاها، (فإمَّا … عليهم) مُرتبطة بما قبلها بالفاء في سياق القول، (إمّا) مركّبة من (إنْ) الشرطية و(ما) الزائدة لتوكيد معنى الشرط، ولهذا أكّدَ الفِعْلَ بعدها بنون التوكيد الثقيلة، (يأتينَّكم .. هُدىً) جملة الشرط، (يأتِيَنَّكم) مُضارع مبني على الفتح لاتّصاله بنون التوكيد الثقيلة، وهو في محلّ جزم بالشرط، والضمير (كم) مفعول به، (منّي) مُتعلّقان بـ(يأتينّكم)، (هُدىً) فاعلُهُ، (فمَن … يحزنون) جواب الشرط، (مَنْ) موصول مبتدأ، (تَبِعَ هُدايَ) صلة (مَنْ)، (تَبِعَ) فعل ماضٍ، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (مَن)، ورُوعِيَ فيه لفظ (مَنْ)، فإنّ لفظَهُ مُفرَدٌ، ومعناه الجمع، (هُدايَ) مفعول به مُضاف إلى (ياء المُتكلّم)، و(تَبِعَ القُرآنَ) : عَمِلَ بما فيه، (فلا خوفٌ عليهم) خبر المُبتدأ، واقترنَ بالفاء لما في الموصول من العموم المُشْبِه للشرط، (لا) نافية، (خوفٌ) مبتدأ، (عليهم) مُتعلّقان بمُقدّر خبر المُبتدأ، (ولا هم يحزنون) عطف على ما قبلها، (لا) نافية، (هم) مبتدأ، (يحزنون) خبر، (يحزنون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، و(حَزِنَ فلانٌ) : أصابَهُ كَرْبٌ وحُزْنٌ

39 – (والذين … خالدون) عطف على (مَنْ تبع ..)، (الذين) مبتدأ، (كفروا) صلة (الذين)، (كفروا) فعلٌ ماضٍ، (واو الجماعة) فاعلُهُ، و(كَفَرَ الرّجُلُ) : لم يُؤمن بالوحدانيّة، أو النُّبُوّة أو الشريعة، أو بثلاثتها، (وكذّبوا بآياتنا) عطف على صلة (الذين)، (كذّبوا) فعلٌ ماضٍ، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (بآياتنا) مُتعلّقان بـ(كذّبوا)، و(كذّبَ بالشيء) : أنكَرَهُ وجَحَدَهُ، (أولئك .. النار) خبر المبتدأ الذي في صدر الآية، (أولئك) مُبتدأ، (أصحابُ) خبر مُضاف إلى (النار)، واستعار معنى (الصُّحبة) لمعنى المُلازمة، (هم فيها خالدون) حال من (أصحاب النار)، (هم) مُبتدأ، (فيها) مُتعلّقان بـ(خالدون)، (خالدون) خبر .

يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِيٓ أُوفِ بِعَهۡدِكُمۡ وَإِيَّٰيَ فَٱرۡهَبُونِ ٤٠ وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلۡتُ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُمۡ وَلَا تَكُونُوٓاْ أَوَّلَ كَافِرِۢ بِهِۦۖ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِ‍َٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗا وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ ٤١ وَلَا تَلۡبِسُواْ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُواْ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٤٢ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱرۡكَعُواْ مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ ٤٣ ۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ٤٤ وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ ٤٥ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ ٤٦

المعنى في ضوء التحليل االلغوي :

40 – يا بني إسْرائيلَ المَوْجُودِينَ في المدينةِ زَمَنَ رسولي مُحَمَّدٍ (المُرادُ بهم أحبارُ بني إسرائيلَ وعُلماؤهم)، اذْكُرُوا صنائِعي الحَسَنَةَ بأسلافِكم الذين أنْتُمْ منهم، وفَضْلي ومِنَّتِي عليهم التي أعطيتُهُم إيّاها (من صنائعِهِ تعالى الحَسَنةِ عليهم إنجاؤهم من فِرعونَ ومَلَئِهِ الذين كانوا يسومونَهم سوءَ العذابِ، ويُذَبِّحونَ أبناءَهم ويَسْتحيُون نساءَهم، ومن فَضْلِهِ ومِنَتِهِ عليهم اختيارُهُ منهم أنبياءَ، وإنزالُهُ إليهم الشريعةَ المُشتملةَ على أحكام القضاءِ في الخصوماتِ، والأحكامِ التي تُنَظِّمُ حياتَهم الاجتماعيةَ والدِّينِيَّةَ، وعلى الوصايا التي تَهديهم إلى عبادتِهِ وتوحيدِهِ، ومن نِعَمِهِ عليهم إتيانُهم المُلْكَ زمنَ داودَ وسُليمانَ، وإعطاؤُهم نِعَمَاً كثيرةً غيرَها)، وأُوفوا بعهدي الذي أخذتُهُ عليكم بواسطةِ أنبيائِكم، وأكَّدْتُمُوهُ على أنفُسِكم (عهدُهُ الذي أخَذَهُ عليهم، وأكَّدوهُ على أنْفُسِهم بالقَسَمِ عليه أنْ يُصَدِّقوا بخاتَمِ الرُّسُلِ مُحَمّدٍ (ص) حينَ يَبْعَثُهُ اللهُ، وبالكتابِ الذي يُنْزِلُهُ إليه)، وإنْ تُوفوا بعَهْدِي بالعَمَلِ به أُوفِ بعهدِي لكم بأنْ لا يَقَعَ عليكم خوفٌ ولا غَضَبٌ منّي في الدُّنيا، وأنْ أُدْخِلَكم الجنّةَ في الآخرةِ، وإيّايَ احذروا، فخافوا غضبي (يَدُلّ الاتيانُ بالآية في سياقِ قصّةِ آدم على تذكيرِ بني إسرائيل بأنّهم وجميعَ النَّاسِ من أصلٍ واحدٍ هو (آدم)، فلا يَحِقُّ لهم أنْ يُفَضِّلوا أنْفُسَهم على جميعِ النّاسِ، وإذا كانُوا يعتقدونَ أنَّ اللهَ تعالى قد خَصَّهم بأنّهُ اختارَ منهم الأنبياءَ لأنَّهم أبناءُ يعقوب (إسرائيل) الذي هو حفيدُ رسولِ اللهِ إبراهيم فإنَّ اللهَ قادِرٌ على أنْ يختارَ من ذُرّيّةِ إسماعيلَ الذي هو حفيدُ رسولِ اللهِ إبراهيم رسولاً إلى الناسِ، ويدلُّ الاتيان بالآيةِ في سياقِ قصّةِ آدم على تحذيرِ عُلماءِ بني إسرائيل وأحبارِهم الموجودين في المدينةِ زَمَنَ بِعْثَةِ الرَّسولِ مُحَمّدٍ (ص) من أنْ يستزِلَّهم الشَّيطانُ فيُضلَّهم عن الإيمانِ بخاتمِ الرُّسُلِ مُحَمّدٍ (ص)، كما استَزَلَّ الشيطانُ آدمَ وزوجَه، فأخْرَجهما من نِعْمَةِ الله، ويَدُلُّ المعنى على أنّ الإيمانَ بخاتمِ الرُّسُلِ مُحَمّدٍ (ص) وبالقرآنِ الذي أُنْزِلَ إليه عهدٌ أخَذَهُ الله منهم بواسطةِ أنبيائِهم، وأنَّ أسلافَهم أكّدوهُ على أنفُسِهم بالقَسَمِ عليه)

41 – وآمنوا بالقرآنِ الذي أنْزَلْتُهُ على رسولي مُحَمّدٍ حالةَ كونِهِ مُثْبِتاً للكتابِ الذي وُجِدَ معكم، ومُعترِفاً به، ولا تكونوا أوَّلَ فريقٍ من النّاسِ جاحدٍ بالقرآن، مُنْكرٍ لَهُ، ولا تأخذوا ثمَناً قليلاً بَدَلَ حُجَجي الدّالةِ على أنَّ مُحَمَّداً رَسُولِي الذي أخَذْتُ العَهْدَ من أسلافِكم بالتَّصْديقِ بهِ حينَ أبْعَثُهُ، وبالكتابِ الذي أُنْزِلُهُ إليه (الثّمنُ القليلُ الذي أخَذوهُ مُقابلَ كتمانِ حُجَجِ اللهِ الدّالّةِ على نُبُوَّةِ مُحَمّدٍ (ص)، وعلى إنزالِ اللهِ القرآنَ إليه، وعَدَمِ بيانِها لعامّةِ اليهود هو الحِفاظُ على مصالحِهم ومنافعِهم الدُّنيويّة التي هي ثَمَنٌ قليلٌ بالقياسِ إلى نَعيم الآخرة)، وإيايَ احذروا، فخافوا عذابي، واحفظوا أنفُسَكم منه (يدلُّ المعنى على أنَّ المُخاطَبين بالأمْرِ والنَهْيَ في الآية هم عُلماءُ بني إسرائيل وأحبارُهم المَوْجُودُون في المدينة زَمَنَ رَسُولِ اللهِ مُحمّدٍ)

42 – ولا تَخْلِطُوا على عامّةِ اليهودِ الحقَّ الذي لا شَكَّ فيه بالباطِل الذي لا حقيقةَ لهُ حتى لا يَعْرِفُوا الحقَّ، (المُرادُ بـ(الحقّ) بِعْثَةُ الرّسولِ مُحمَّدٍ، وإنزالُ اللهِ القرآن إليهَ، والمُرادُ بـ(الباطل) قولُهم لعامّة اليهود : إنّ مُحَمّداً ليس هو الرّسولَ الذي بَشَّرَ به أنبياءُ بني إسرائيل، وأخَذَ االلهَ عليهم العَهْدَ بوجوبِ التَّصديقِ به حين يَبْعثُهُ، وإنَّ القرآنَ الذي يَدَّعي مُحَمّدٌ أنّهُ مُنْزَلٌ إليه من اللهِ يُخالفُ ما جاءَ من الإحكام الموجودةِ معنا في الشريعة التي بعثَ اللهُ بها أنبياءَ بني إسرائيل، ولو كانَ مُحمَّدٌ رسولَ اللهِ، وكان القرآنُ نازلاً إليه من اللهَ لما خالفَ القرآنُ أحكامَ اللهِ في الشريعةَ التي بَعَثَ بها أنبياءَ بني إسرائيل)، ولا تَسْتُروا الحَقَّ حالةَ كونِكم تَعْلَمونَ أنّهُ حقٌّ نازلٌ من الله إلى رسولِهِ مُحمّدٍ، (يدلُّ النهُيُ عن إلباس الحقِّ بالباطلِ، وعن سَتْرِ الحَقِّ على أنَّ هذا الفِعْلَ حرامٌ يُعاقِبُ اللهُ عليه)

43 – وأدّوا الصَّلاةَ التي شَرَعها اللهُ لَكُم مُوَفَّىً حَقُّها (يَدُلُّ المعنى على أنّ الصلاةَ مفروضةٌ على بني إسرائيل، وكانوا يُؤدّونها بالطريقةِ التي وَرِثُوها عن أسلافهم)، وأعْطُوا الزَّكاةَ التي شَرَعها اللهُ لكم ((الزَّكاةُ) في شريعة بني إسرائيل حِصّةٌ من المالِ واجبٌ عليهم بذلُها للفقراءِ كما هي في شريعةِ الإسلام تطهيراً لأنْفُسِهم من خِصْلَةِ البُخْلِ)، واخْضَعوا لله، وانقادوا لَهُ مَعَ المُصَلِّينَ الخاضِعين المُنقادين لَهُ فيما أمَرَهم بِهِ

44 – أتأمرون عامّةَ اليهودِ بالتَّوَسُّعِ في طاعةِ اللهِ، وتَتْرُكونَ أنفسَكم على عَمْدٍ حالةَ كونِكم تَقْرَؤُونَ التَّورَاةَ المُشتملةَ على الفرائِضِ والأحكامِ والوصايا، ولا تَعْمَلُون بها طاعةً لله ؟ (يَدُلُّ المعنى على أنّ علماءَ اليهود وأحبارَهم يأمرونَ عامّةَ اليهود بالتَّوَسُّعِ في طاعةِ الله، ويَتْرُكونَ أنفسَهم على عَمْدٍ، فلا يَعْمَلُونَ بما جاء في التّوراةِ من وجوب أداءِ الصلاة مُوَفَّىً حقّها، ووجوبِ إعطاء حِصّة من المال للفقراء، ووجوب الخضوعِ والانقيادِ لله فيما أمَرَ به ونهى عنه، ويدلّ معنى الاستفهام على معنى : بِئْسَ الفِعلُ فِعْلُكم)، فلماذا لا تُدْرِكُونَ أنّ الذي تفعلونَهُ قبيحٌ مُخالفٌ لما جاءَ في التوراة ؟

45 – واسْتَعِينُوا على شهواتِ أنْفُسِكُم وأهوائِها، وعن حُبِّ الرِّئاسَةِ على عامَّةِ اليَهُودِ بَحَبْسِ أنْفُسِكُم على طاعَةِ اللهِ فيما أمَرَكُم بِهِ وفيما نهاكُم عَنْهُ، وبأداءِ الصَّلاةِ طاعةً للهِ، وأُؤَكِّدُ أنَّ أداءَ الصَّلاةِ طاعَةً للهِ لَفِعْلَةٌ عَظِيمَةٌ تَعْظُمُ على الذين يَطِيعُونَ شَهَواتِ أنْفُسِهِم ويُحِبُّونَ الرِّئاسَةَ، لكنْ على المُتواضِعِينَ الخاضِعِينَ المُطِيعِينَ لرَبِّهِم

46 – الذين يُوقِنون أنّهُم مُلاقو جزاءِ رَبِّهِم، وأنّهم راجعونَ إليه وَحْدَهُ يومَ القيامةِ للجزاءِ والحِسابِ يَسِيرَةٌ خَفِيفَةٌ (يَدُلُّ المعنى على أنَّ المُؤمِنَ بنُبُوَّةِ رَسُولِ اللهِ مُحَمَّدٍ وبالقُرآنِ الذي أنْزَلَهُ اللهُ إليه حينَ يُؤَدِّي الصَّلاةَ طاعَةً للهِ، ويَسْتَشْعِرُ فيها وَقوفَهُ أمامَ جَبَّارِ السَّماواتِ والأرضِ، ويَقْرَأُ فيها ما يُقَرِّبُهُ إلى اللهِ، ويُرَغِّبُهُ في ثَوابِهِ ويُزَهِّدُهُ في مَنافِعِ الدّنيا غيرِ الدّائِمَةِ يَكُونُ مُوقِناً بأنَّهُ سيُلاقِي جزاءَ رَبِّهِ يومَ القِيامَةِ، ويَكونُ في حياتِهِ الدُّنيا مُتَواضِعاً خاضِعاً مُطِيعاً لرَبِّهِ، فيَزْهَدُ في مَنافِعِ الدُّنيا وحُبِّ الرِّئاسَةِ، فلا يَسْتُرُ الحَقَّ، أو يَخْلطُهُ على عامَّةِ النّاسِ بالباطِلِ لأجْلِ مَنافِعِ الدُّنيا وحُبِّ الرِّئاسَةِ) .

التحليل اللغوي :

40 – (يا بني … عليكم) مستأنفة في سياق ما تقدّم، والنداء واقع على بني إسرائيل الموجودين وقت نزول الآية، لأنّهم امتدادٌ لأسلافهم الماضين، والمُرادُ أحبارُهم وعُلماؤُهم، لأنَّ عامَةَ اليهود يأتمرون بامْرِهم، وينتهون بنهيهم، (اذكروا .. عليكم) ما نُودي لأجله، (اذْكروا) أمْرٌ مبني على حذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (نعمتي) مفعول به، و(النِّعْمَةُ) : الصّنيعةُ، والمِنَّةُ والفَضْلُ، (التي) موصول صفة لـ(نعمتي)، (أنْعَمْتُ عليكم) صلة (التي)، (أنْعَمْتُ) فعل ماضٍ والتاء ضمير المُتكلّم فاعلُهُ، والعائد إلى (التي) مُقدّر، والتقدير : (أنعمتها)، (عليكم) مُتعلّقان بـ(أنعمتُ)، و(أنعَمَ عليه) : أعطاه نِعْمَةً، (وأوفوا .. بعهدكم) عطف على (اذكروا ..)، (أوْفوا) أمْرٌ مبني على حذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (بعهدي) مُتعلّقان بـ(أوفوا)، و(أوفى بالعهدِ أو الوعْد) : عَمِلَ به، و(عهدُ اللهِ) هنا : هو العَهْدُ الذي أخَذَهُ اللهُ على بني إسرائيل بواسطةِ أنبيائهم وأكّدوهُ على أنفُسِهم بأنْ يُؤمنوا بخاتم الرُّسُلِ مُحَمّدٍ (ص) حينَ يَبْعثُهُ اللهُ، وبالكتاب الذي يُنْزَلُ إليه، (أُوفِ) مُضارع مجزوم بحذف حرف العِلّة لوقوعه في جواب الأمر، وفاعلُهُ ضمير المُتكلّم مُستتراً، (بعهدكم) مُتعلّقان بـ(أوفِ)، و(عهدُ اللهِ لهم) أنْ لا يَقَعَ عليهم خوفٌ ولا غَضَبٌ منّهُ في الدنيا، وأنْ يُدْخِلَهم الجنّةَ في الآخرة، (وإيايَ) ضمير نصب مُنفَصِل مفعول به لفعل مُقدّر يدلّ عليه السياق لاستيفاء (ارهبوني) مفعوله، والتقدير : (وإيايَ احْذروا)، والجملة عطف على (اذكروا)، (فارهبون) عطف على ما قبلها، و(ارهبوني) أمْرٌ مبني على حذف النون، لأنّ مضارعه من الأفعال الخمسة، (واو الجماعة) فاعلُهُ، والنون للوقاية، والكسرة دليل على ياء المتكلّم المحذوفة للتخفيف، و(ياء المتكلّم) مفعول به، وهي في الأصل مضاف إليه قام مقام مُضاف مُقدّر، والتقدير : (فارهبوا غَضَبي)، و(رَهِبَهُ) : خافَهُ

41 – (وآمنوا .. لما معكم) عطف على (اذْكروا ..)، (آمِنوا) أمْرٌ مبني على حذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (بما) متعلّقان بـ(آمِنوا)، و(ما) موصول كناية عن القرآن الكريم، (أنْزَلْتُ) صلة (ما)، والعائد مُقدّر، والتقدير : (أنْزَلْتُهُ)، ويدلُّ السياق على مُتعلّق بـ(أنزلْتُ) مُقدّر، والتقدير : (إلى خاتم رُسُلي مُحَمَّد)، (مُصَدّقاً) حال من الضمير العائد المحذوف في (أنزلتُ)، و(صدَّقَهُ) : اعترف بصدقِ قولِهِ، و(صَدَّقَ الشيءَ وله) : أثْبَتَهُ، (لما) مُتعلّقان بـ(مُصَدّقاً)، و(ما) موصول، (مَعَكم) ظرف مكان مُتعلّقان بمُقدّر صلة (ما)، (ولا .. كافر به) عطف على ما قبلها، (لا) ناهية جازمة، (تكونوا) مُضارع ناقص مجزوم بحذف النون، (واو الجماعة) اسم (تكونوا)، (أوّلَ) خبر (تكونوا)، وهو مُضاف إلى (كافِرٍ)، و(كافر) في الأصل صفة قامت مقام موصوف مُقدّر، والتقدير : (ولا تكونوا أول فريقٍ كافرٍ به)، (به) مُتعلّقان بـ(كافر)، (ولا … قليلاً) عطف على ما قبلها، (لا) ناهية جازمة، (تشتروا) مُضارع مجزوم بحذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (بآياتي) مُتعلّقان بـ(تشتروا)، والباء في (بآياتي) بمعنى : بَدَل، (ثمناً) مفعول به، (قليلاً) صفة لـ(ثمناً)، واسْتعارَ (الاشْتراء) لمعنى أخْذِ شيءٍ بدلَ شيءٍ بثمن، (وإياي فاتقون) تقدّم القول في مثلها، والتقدير هنا : (وإيّاي احْذَروا فاتّقونِ)

42 – (ولا تلبسوا ..) عطف على (ولا تشتروا)، (لا) ناهية جازمة، (تَلْبِسوا) مُضارع مجزوم بحذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (الحقَّ) مفعول به، (بالباطل) مُتعلّقان بـ(تَلْبسوا)، و(لَبَسَ عليه الأمْرَ) : خَلَطَهُ عليه حتى لا يعرفَ حقيقتَهُ، (وتكتموا) عطف على (تلبسوا) فهو مجزوم بالنّهي، و(كَتَمَ الشيءَ) : سَتَرَهُ وأخفاه، (الحقَّ) مفعول به، (وأنتم تعلمون) حال من فاعل (تكتموا)، (أنتم) مُبتدأ، (تعلمون) خبر، (تعلمون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، ومفعولا (تعلمون) مُقدّران بدلالة السياق، والتقدير : (أنَّهُ حقٌّ)

43 – (وأقيمواالصلاةَ) عطف على (لا تلبسوا ..)، (أقيموا) أمْرٌ مبني على حذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (الصلاةَ) مفعول به، وتقدّم القولُ في (إقامةِ الصلاة)، وفي (الصلاة) في أوّل السورة في قوله : (ويُقيمون الصلاةَ)، (وآتوا الزكاةَ) عطف على ما قبلها، (آتوا) امْرٌ مبني على حذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (الزكاةَ) مفعول به، وهي من ألفاظ اللغة الأُمّ لآدمَ وبنيه، وكانت تُلْفَظُ (زاكوت)، بدليل أنّها تُلْفَظُ كذلك في اللغة الآرامية التي هي أحدى اللّغات المُتفرّعة عن اللغة الأم، وهي في اللغة العِبْريّة التي هي إحدى اللغات المُتفرّعة عن اللغة الآرامية (زاكوتا)، ومعناها في اللغة الأم : التطهير، ولمّا نَزَلَ القرآنُ على الرسول مُحَمّدٍ (ص) نزلَ بها بلفظ (زكاة)، وكُتِبَتْ (زكوة) تنبيها إلى أصلها القديم في اللغة الأم، واستعملها القرآن بمعنى (التطهير)، وبمعنى (ما يُعْطَى للفقراء على وَجْهِ القُربى لله، وبمعنى حِصّة من المال واجبٌ على المُسلمين بذلُها للفقراء) (وارْكعوا مع الراكعين) عطف على ما قبلها، (اركعوا) مثل (آتوا) في القول، (معَ) ظرف مكان مُتعلّق بـ(اركعوا)، وهو مُضاف إلى (الركعين)، و(رَكَعَ للهِ) : خَضَعَ وانقادَ لَهُ

44 – (أتأمرون … تعقلون) معترضة للإنكار عليهم، وتوبيخهم، والهمزة استفهام بمعنى الإنكار والتوبيخ، (تأمُرونَ) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، والخِطابُ مُوَجَّهٌ لعلماء اليهود وأحبارِهم، (الناسَ) مفعول به، والمراد بهم : (عامّةُ اليهود)، (بالبِرِّ) مُتعلّقان بـ(تأمرون)، و(البِرّ) : التّوَسُّعُ في الطاعة، (وتنسَوْنَ أنفسَكم) عطف على ما قبلها، (تنسون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (أنفُسَكم) مفعول به، و(نَسِيَ الشيءَ) : تَرَكَهُ على عَمْدٍ، (وأنتم … الكتاب) حال من فاعل (تنسون)، (أنتم) مُبتدأ، (تتلون الكتابَ) خبر المبتدأ، (تتلون) مثل (تنسون) في القول، (الكتابَ) مفعول به، و(تلا الكتابَ) : قَرَأهُ، و(الكتاب) : الشريعةُ المُشتملةُ على الفرائض والأحكام والوصايا التي أنَزَلها اللهُ على موسى، واسمُها (التوراة) في لغةِ بني إسرائيل، (أفلا تعقلون) مرتبطة بما قبلها بالفاء، لتوكيد الإنكار والتوبيخ، والهمزة استفهام بمعنى الإنكار والتوبيخ أيضا، (لا) نافية، (تعقلون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (عَقَلَ) : أدْرَكَ ومَيَّزَ

45 – (واستعينوا .. والصلاة) عطف على (وأقيموا ..) (استعينوا) أمْرٌ مبني على حذف النون، (واو الجماعة) فاعله، ويَدُلُّ السِّياقُ ومعنى (استعان) على مُتَعَلّق مُقدّر بـ(اسْتَعِينُوا)، والتّقدير : (على شهواتِ أنْفُسِكُم وأهوائِها، وعلى حُبِّ الرِّئاسَةِ على عامَّةِ اليَهُودِ) (بالصّبْرِ) مُتعلّقان بـ(استعينوا) أيضاً، و(صَبَرَ على الشيء، وعنه) : حَبَسَ نفسَهُ عليه أو عنه، (والصلاةِ) عطف على (الصّبْرِ)، (وإنّها .. الخاشعين) مرتبطة بما قبلها بالواو لتوكِيد مَضْمُونها، (إنّها) (إنَّ) والهاء اسمها، وهو ضمير عائد إلى (الصلاة)، (لكبيرةٌ) خبر (إنَّ) مُقترن بلام الابتداء المُزَحلقة، و(كبيرة) في الأصل صفة قامَتْ مقامَ موصوف مُقدّر، والتقدير : (لَفِعْلَةٌ كبيرةٌ)، و(الكبير) : الثقيل الشّاق، (إلا) بمعنى (لكنْ)، (على الخاشعين) متعلّقان بمُقدّر خبر لمبتدأ محذوف تقديره : (يسيرةٌ) أو (خفيفةٌ)، و(الخاشِع) : المُتواضِع الخاضع المُطيع

46 – (الذين) موصول صفة لـ(الخاشعين)، (يظنّون .. ربّهم) صلة (الذين)، (يظنون) مُضارع من أفعال القلوب مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، و(الظنّ) هنا بمعنى : اليقين، (أنّهم) (أنّ) واسمُها، (مُلاقو) خبر (أنّ) مرفوع بالواو، لأنّه جمع مُذكّر سالم، وحُذِفتْ نونُهُ للإضافة، (ربِّهم) مُضاف إليه، والمصدر المُؤوّل (أنّهم مُلاقو ربّهم) في محلِّ نصب سدَّ مَسدّ مفعولي (يظنون)، (وأنّهم إليه راجعون) في تأويل مصدر عطف على المصدر المُؤوّل الذي قبله .

يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَنِّي فَضَّلۡتُكُمۡ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ٤٧ وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا يُؤۡخَذُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ ٤٨

المعنى في ضوء التحليل االلغوي :

– 47 – يا بني إسرائيلَ الموجودينَ في المدينة (المُرادُ بهم أحبارُ بني إسرائيل وعُلماؤهم)، اذكروا صنائِعي الحَسَنَةَ بأسلافِكم الذين أنْتُمْ منهم، وفَضْلي ومِنَّتي عليهم التي أعطيتُهُم إيّاها، واذْكُرُوا أنّي جَعَلْتُ أسلافَكم أفْضَلَ من النّاسِ الذين كانوا في زَمَنِهم (يَدُلُّ معنى التَّفْضِيل هنا على أنَّ تفضيلَ اللهِ إيّاهم على النّاسِ في زمانِهم كان بسَبَبِ كونِهم مُوَحّدين على دينِ إبراهيم في ذلك الزّمان، وكونِهم من ذُرّيةِ إبراهيم، وباختيارِ الأنبياءِ منهم)

48 – وخافوا يوماً صفتُهُ أنَّهُ لا يجزي أيُّ إنسانٍ عن إنسانٍ آخَرَ شيئاً من الجَزاءِ، ولا يَقْبَلُ اللهُ فيه الطَّلَبَ من مخلوقٍ إلى مخلوقٍ أنْ يُكلِّمَ اللهَ له ليتجاوَزَ عن ذُنُوبِهِ، ولا يأخُذُ اْللهُ فيه فِدْيةً ولا بَدَلاً من أحدٍ، ولا يُنَجّيهم فيه أحَدٌ ويُخَلِّصُهم من عذابِ الله، واحْفَظُوا أنْفُسَكُم من عِقابِ اللهِ فيه للمُكَذِّبين بنُبُوَّةِ رسولِهِ مُحَمَّدٍ، وبالكِتابِ الذي أنْزَلَهُ إليه (يَدُلُّ المعنى على أنَّ اللهَ تعالى أرادَ أنْ يُخَوِّفَ عُلماءَ اليهودِ الموجودين في المدينةِ وأحبارَهم، وعامّةَ اليهودِ من عذابِ اللهِ يومَ القيامةِ بسببِ عَدَمِ التصديقِ بنُبوّةِ رسولِهِ مُحَمّدٍ، وبالقُرآن الذي أُنْزِلَ إليه، ويُحَذِّرَهم من أنَّ أسلافَهم لا يشفعون لهم يومَ القيامة، ولا يدفعون عنهم شيئاً من العذاب، ويَدُلُّ المعنى على أنّ ما يَعْتَقِدُهُ اليهودُ بأنّهم أحِبّاءُ الله، ومُقَرَّبون إليه، وأنّ آباءَهم يشفعون لهم باطِلٌ لا صِحّةَ له) .

التحليل اللغوي:

47 – (يا بني … عليكم) مستأنفة في ساقِ ما قبلها، وتكرار النداء للتوكيد، وتقدّم القولُ في (اذكروا … عليكم)، (أنّي) (أنّ) واسمها، (فضَّلْتُكم) خبر (أنّ)، (فضَّلْتُكم) فعل ماضٍ، و(التاء) ضمير المُتكلّم فاعلُهُ، والضمير (كم) مفعول به، (على العالمين) مُتعلّقان بـ(فضّلْتُكم)، و(فَضَّلَهُ على غيره) : جَعَلَهُ أفضَلَ منه، والمصدر المُؤوّل (أنّي فضلتكم ..) عطف على (نعمتي)

48 – (واتقوا … شيئاً) عطف على (اذكروا)، (اتّقوا) أمْرٌ مبني على حذف النون، (واو الجماعة) فاعله، (يوماً) مفعول به، و(اتَّقى الشيءَ) : خافَهُ وحَذِرَهُ، (لا تَجْزِي .. شيئاً) صفة لـ(يوماً)، (لا) نافية، (تجزي) مُضارع مرفوع بضمّة مُقدّرة، (نفسٌ) فاعلُهُ، (عن نفسٍ) مُتعلّقان بـ(تجزي)، (شيئاً) مفعول به، (ولا يُقبل منها شفاعة) عطف على (لا تجزي ..) فهي داخلة في حيّز صفة (يوماً)، (لا) نافية، (يُقبَلُ) مُضارع مبني للمجهول مرفوع، (منها) مُتعلّقان بـ(يُقْبَلُ)، (شفاعةٌ) نائب فاعل، و(الشفاعةُ) : الطَّلَبُ إلى مخلوق أنْ يُكلِّمَ اللهَ له في التجاوُزِ عن ذنوبِهِ، (ولا يُؤْخَذُ منها عَدْلٌ) عطف على (لا تجزي ..) أيضاً، (يُؤْخَذُ) مُضارع مبني للمجهول مرفوع، (منها) مُتعلّقان بـ(يُؤخَذُ)، (عَدْلٌ) نائب الفاعل، و(العَدْل) : الفِدْيَة أو البَدَل، (ولا هُم يُنْصَرون) عطف

وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ ٤٩ وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ ٥٠

المعنى في ضوء التحليل االلغوي :

49 – واذكروا صَنيعَتَنا الحَسَنَةَ بكم، ومِنَّتَنا وفَضْلَنا عليكم حين خلّصْنا أسلافَكم من آلِ فرعونَ حالةَ كونِهم يُلْزِمونَهم العذابَ السَّيِّئَ، ويُجْبِرونَهم عليه إذْلالاً لهم، أي : يُكْثِرونَ القَتْلَ في أبنائِكم الذُّكورِ، ويَتركونَ نساءَكم أحياءً للخدمةِ والاسْتِرْقاقِ، وفي ذلكم العذابِ والخلاصِ مِنْهُ امتحانٌ عظيمٌ من ربّكم لكم، (يَدُلُّ النَّظْمُ على معنى : فاشكروا اللهَ بطاعتِهِ فيما أمَرَكم بهِ من الإيمانِ برسولِهِ مُحَمّدٍ، وبالقرآن الذي أنْزَلَهُ إليه)

50 – واذكروا صَنيعَتَنا الحَسَنَةَ بكم، ومِنَّتَنا وفَضْلَنا عليكم حين قَسَمْنا البحرَ حالَةَ كونِهِ مُلْتَبِساً بأسلافِكم إلى قسْمَيْنِ، فخلّصناهم من فرعونَ وجنودِهِ، وأغْرَقْنا فرعونَ وخاصَّتَهُ وقُوّادَهُ ووزراءَهُ حالةَ كونِ أسلافِكم يُبْصِرونَهم ويتأمَّلونَهم بأعْيُنهم، (يَدُلُّ النَّظْمُ على معنى : فاشكروا اللهَ بطاعتِهِ فيما أمَرَكم به من الإيمانِ برسولِهِ مُحَمّدٍ، وبالقرآن الذي أنْزَلَهُ إليه، وهناك اختلافٌ كبير بين المُفسّرين والباحثين وأصحاب الدّيانات حول اسم البحر الذي انْشَقَّ لموسى بإذن الله، فعبَرَهُ مع بني إسرائيل، وحولَ مكان العبور، وسببُ هذا الاختلافِ أنَّ أيَّاً من الكُتُبِ المُقدّسة للدّيانات السّماوية الثلاث لم يُشِرْ بنصٍّ صريحٍ إلى ذلك) .

التحليل اللغوي :

49 – (وإذْ … فرعون) (إذْ) ظرف لما مضى من الزمان متعلّق بفعل مُقدّر، تقديره : (اذكروا)، والجملة عطف على (اذكروا نعمتي)، لتذكيرهم بمزيد من نِعَمِهِ عليهم، و(إذْ) مُضاف إلى الجملة (نَجَّيْناكم … العذاب)، (نَجَّيْناكم) فعل ماضٍ، وضمير المُتكلّمين فاعلُهُ، والضمير (كم) مفعول به، (من آلِ) مُتعلّقان بـ(نَجَّيناكم)، و(آلِ) مُضاف إلى (فِرْعونَ)، و(نَجّاهُ) : خَلَّصَهُ، (يسومونكم .. العذاب) حال من (آل فرعون)، (يسومونكم) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، والضمير (كم) مفعول به أوَّل، (سوءَ) مفعول به ثانٍ، وهو مُضاف إلى (العذاب) من إضافة الصفة إلى الموصوف، و(سامَهُ ذُلاً أو هوَاناً) : ألزَمَهُ إيّاه، وأجبره عليه، (يُذبّحون أبناءكم ) تفسير لمضمون الجملة التي قبلها، (يُذَبِّحون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (أبناءكم) مفعول به، و(ذَبَحَه) : قَطَعَ حُلْقومَهُ، و(الذّبْحُ) هنا : كناية عن القَتْل، و(ذَبّح) : أكْثَرَ من الذّبْح، (ويستحيون نساءكم) عطف على ما قبلها، ومثلها في القول، و(اسْتَحْيا الأسيرَ) : تركه حيّاً ولم يَقْتُلْهُ، (وفي ذلكم … عظيم) مرتبطة بما قبلها بالواو (في ذلكم) مُتعلّقان بمُقدّر خبر مُقدّم، (بلاءٌ) مُبتدأ مُؤخَّر، (من ربِّكم) مُتعلّقان بمُقدّر صفة لـ(بلاء)، (عظيمٌ) صفة ثانية، و(البلاء) : الامتحان

50 – (وإذْ … البحر) عطف على (إذْ نجّيناكم)، ومثلها في القول، (فَرَقْنا) فعل ماضٍ، وضمير المُتكلّمين فاعلُهُ، (بكم) متعلّقان بمُقدّر حال مُقدّم من (البحر)، أي : مُلتبساً بكم، (البحرَ) مفعول به، و(فَرَقَ الشيءَ) : قَسَمَهُ، (فأنجيناكم) عطف على ما قبلها، وتقدّم القول في (أنجيناكم)، ومتعلّق (أنجيناكم) مُقدّر، والتقدير : (أنجيناكم من فرعونَ وجنودِهِ)، (وأغرقنا آلَ فرعون) عطف على ما قبلها واستغنى بذكر (آل فرعون) عن (فرعون)، لأن فرعون كان معهم، (وأنتم تنظرون) حال من الضمير (كم) في (أنجيناكم)، (أنتم) مُبتدأ، (تنظرون) خبر، (تنظرون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو االجماعة) فاعله، والمُتعلّق مُقدّر، والتقدير : (إليهم)، و(نظَرَ إليه) : أبْصَرَهُ وتأمَّلَهُ بعينه .

وَإِذۡ وَٰعَدۡنَا مُوسَىٰٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗ ثُمَّ ٱتَّخَذۡتُمُ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَنتُمۡ ظَٰلِمُونَ٥١ ثُمَّ عَفَوۡنَا عَنكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٥٢ وَإِذۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡفُرۡقَانَ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ ٥٣

المعنى في ضوء التحليل االلغوي :

51 – واذكروا حينَ واعَدْنا موسى على أنْ نُوافِيَهُ في جَبَلِ البطُّورِ في أربعينَ ليلةً (تدلُّ الآيات 142 – 145 من سورة الأعراف على أنّ اللهَ تعالى واعدَ موسى أنْ يُوافِيَهَ في جَبَلِ الطّورِ في أربعين ليلةً لإنزالِ ألواحِ التوراة عليه)، ثمَّ اتَّخَذَ أسلافُكُم العِجْلَ إلهاً من بعد غيابِهِ لأجْلِ أنْ يعبدُوهُ حالةَ كونِهم عادِلين عن توحيدِ اللهِ وإخلاصِ العبادةِ لَهُ

52 – ثمَّ عَفَوْنا عن أسلافِكم بعَدَمِ مُعاقَبَتِهم من بعد ذلك الفِعْلِ الذي فعلوه، (وهو اتّخاذُهم العِجْلَ إلهاً)، لكي تَشْكُرُوا اللهَ على عَفْوِهِ عن أسلافِكم، وهذا هو المطلوبُ منكم (يَدُلُّ (لعلّكم تشكرون) على أنَّ شُكْرَكُم اللهَ على ذلك يُرْجَى بِهِ الهَداية إلى الإيمانِ برسولِهِ مُحَمَّدٍ وبالكِتابِ الذي أنْزَلَهُ إليه)

53 – واذكروا مِنَّتَنا وفَضْلَنا عليكم حين آتينا موسى كِتابَ التَّوراةِ المُشْتَمِلَ على الفَرائِضِ والأحكامِ، وآتيناهُ ما يُفَرِّقُ بِهِ بينَ الحَقِّ والباطِلِ، لكي تَهْتَدُوا إلى الحَقِّ وتَعْمَلُوا به، وهذا هو المطلوبُ منكم، وهو ما تَرْجُونَهُ (يَجُوزُ أنْ يكونَ المُرادُ بـ(الفُرقانِ) الوصايا العَشْر التي تُفَرِّقُ بين العَمَل الحَقِّ في الحياةِ، وبينَ العَمَلِ الباطلِ في الحياةِ، ويَدُلُّ (لعلَّكُم تَهْتَدُونَ) على أنَّ تَذَكُّرَكُم مِنَّتَنا وفَضْلَنا عليكم بذلك يُرْجى بِهِ الهِدايَة إلى الإيمانِ برسولِهِ مُحَمَّدٍ وبالكِتابِ الذي أنْزَلَهُ إليه) .

التحليل اللغوي :

51 – (وإذْ … ليلة) عطف على (إذْ فرقنا ..)، ومثلها في القول، (واعدنا) فعل ماضٍ وضمير المُتكلمين فاعلُهُ، (موسى) مفعول به أوّل، (أربعين) مفعول به ثانٍ، (ليلةً) تمييز، و(واعد فلاناً الوقتَ والموضِعَ) : عاهده أنْ يُوافِيَهُ في وقتٍ مُعيَّنٍ وفي موضِعٍ مُعَيِّنٍ، (ثمّ اتخذتم .. بعده) مرتبطة بما قبلها بـ(ثمّ)، (اتّخَذْتُم) فعل ماضٍ والضمير (تُم) فاعلُهُ، (العِجْلَ) مفعول به أوّل، والمفعول به الثاني لـ(اتّخذ) مُقدّر بمعرفة القوم له، والتقدير : (اتَّخذتم العِجْلَ إلهاً من بعده)، (وأنتم ظالمون) حال من فاعل (اتخذتم)، (أنتم) مُبتدأ، (ظالمون) خبر

52 – (ثمّ عفونا .. ذلك) عطف على (ثمَّ اتَّخَذْتُم العِجْلَ ..)، (عفَوْنا) فعل ماضٍ، وضمير المُتكلّمين فاعلُهُ، (عنكم) مُتعلّقان بـ(عفونا)، و(عفا عنه) : لم يُعاقِبْهُ، (من بعْدِ) مُتعلّقان بـ(عفونا) أيضاً، و(بعد) مُضاف إلى (ذلك)، (لعلّكم تشكرون) تعليل لما قبلها، وتقدّمَ القولُ في مثلها في (الآية : 21)، وهذا التركيب يتكرّرُ في القرآن، وهو بمعنى التعليل للأمْرِ المطلوبِ حصولُهُ مع رجاء حصول المُخاطبين به عليه

53 – (وإذْ … الفرقان) عطف على (إذْ واعدنا ..)، (آتينا) فعل ماض، وضمير المُتكلّمين فاعله، (الكتابَ) مفعول به، والمُراد بـ(الكتاب) : التّوراةُ المُشتملُ على الفرائض والأحكام، و(الفُرقانَ) عطف على (الكتاب)، والمُراد بـ(الفُرقان) : ما يُفَرَّقُ به بين الحقِّ والباطِلِ، (لعلكم تهتدون) تعليل لما قبلها، وتقدّمَ القولُ في مثلها في (الآية : 21) .

وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ٥٤ وَإِذۡ قُلۡتُمۡ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهۡرَةٗ فَأَخَذَتۡكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ ٥٥ ثُمَّ بَعَثۡنَٰكُم مِّنۢ بَعۡدِ مَوۡتِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٥٦ وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡغَمَامَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ ٥٧

المعنى في ضوء التحليل االلغوي :

54 – واذكروا صَنيعَتَنا الحَسَنَةَ بكم، ومِنَّتَنا وفَضْلَنا عليكم حين قال موسى لقومِهِ الذين هم أسلافُكم : يا قومي، إنّكم تجاوزْتُم حقَّ أنفُسِكم عليكم بتوحيدِ اللهِ وإخلاصِ العبادةِ له، فأسَأتُمْ إليها، وعَرَّضْتُموها إلى عقابِ اللهِ بسبب اتخاذِ بعضِكم العجلَ إلهاً، ولم تَنْهَوْهم عن عبادةِ العِجْلِ بمَنْعِهِم عن ذلك، ولم تأمُرُوهم بتَرْكِهِ (يَدُلُّ النَّظْمُ على أنَّ الذين عبدوا العِجْلَ والذين لم يَعْبُدُوهُ مُشْتَرِكُونَ جميعاً في ظُلْمِ أنْفُسِهم بسَبَبِ عَدَمِ نهْي الذين لم يَعْبُدُوهُ الذين عَبَدُوهُ، وعَدَمِ أمْرِهم بتَرْكِهِ)، فإذا كان ذلك حاصِلاً منكم فارْجِعُوا إلى خالقِكُم بالتَّوبَةِ عن مَعْصِيَتِكم التي فَعَلْتُمُوها بإعْلانِ نَدَمِكُم على ذلك، وبالبَراءَةِ من الذين عَبَدُوا العِجْلَ، فأذِلّوا الذينَ عَبَدوا العِجْلَ من الذين يَنْتَسِبُونَ إليكم بتَنْحِيَتِهم عَنْكُمْ، وإزالَتِهم عن مَجالِسِكم ذلكم، لأنّ ذلكم (أي : فِعْلَكم فيهم ذلك الفِعْلَ) هو خيرٌ لكم عند خالِقِكُم (يَدُلُّ المعنى على وجوبِ مُقاطَعَتِهِم وإشْعارِهِم بالذِّلَّة بسَبَبِ عِبادَتِهم العِجْلَ، ويَدُلُّ المعنى على أنَّ قَبُولَهم بما أمَرَهم اللهُ به، وقيامَهم بتنفيذِ أمْرِ اللهِ، وإعلانَ تَوْبَتِهم عمّا فَعَلُوهُ هو كفّارَةٌ لَهُم عن فِعْلِهم، وذَهَبَ المُفسِّرون إلى اعتماد (قَتَلَ) بمعنى الإماتة باستعمال السّلاح، فقالوا : أمَرَهُم اللهُ أنْ يَقْتُلَ بعضُهُم بعضاً، ليكونَ القَتْلُ كفَارةً لعِبادَتِهم العِجْلَ، وهذا مُخالفٌ لرَحْمَةِ اللهِ وعَفْوِهِ ونَهْيِهِ عن قَتْلِ النَّفْسِ الإنسانِيَّةِ)، فرجَعَ اللهُ على أسلافِكم التّائبينَ جميعاً بالعفْوِ والمَغْفِرة، لأنّهُ هو الكثيرُ قَبُولِ التَّوْبَةِ من عبادِهِ التّائِبِينَ، الكثيرُ الرَّحْمَةِ بِهِم

55 – واذْكُرُوا صَنيعَتَنا الحَسَنَةَ بكم، ومِنَّتَنا وفَضْلَنا عليكم حين قال أسلافُكم : يا مُوسى، لَنْ نُؤمِنَ لك بأنّ الذي أخبرْتَنا به عن اللهِ حَقِيقَةٌ إلى أنْ نرَى اللهَ رُؤْيةً جَهْرَةً عياناً، فبسَبَبِ تَجَرُّئِهم على اللهِ بسُؤالِهِم مُوسى ذلك أهْلَكَتْهم نارٌ مُشْتَعِلةٌ سَقَطَتْ عليهم من السّماءِ في رَعْدٍ شديد زَلْزَلَ الأرضَ من تَحْتِهم حالةَ كونِهِم يُبْصِرونها بأعْيُنِهم وهي تَسْقُطُ عليهم (يَدُلُّ سياقُ ما قَبْلَها، وسياقُ آيات سورة (الأعراف : 142 – 155) على أنَّ قَوْلَ أسْلافِهِم هذا كانَ حينَ اخْتارَ مُوسى من قَوْمِهِ الذين هُمْ أسلافُهُم سَبْعِينَ رَجُلاً لأجْلِ الذَّهابِ بِهِم إلى مَوْعِدِ ربِّهِ الذي جعَلَ لَهُ وَقْتاً وموضِعاً يُظْهِرونَ فيه تَوْبَتَهم ونَدَمَهم على اتّخاذِهم العِجْلَ إلهاً، فأظْهَرُوا تَوبَتَهم ونَدَمَهم للهِ، فتابَ اللهُ عليهم، فأخْبَرَهُم مُوسى أنّ اللهَ قَدْ تابَ عليهم، فقالوا لموسى ذلك القول)

56 – فلمّا أهلَكَتْهم الصّاعِقَةُ قالَ مُوسى : يا رَبِّ، لو أرَدْتَ أنْ تُهْلِكَهم لأهْلَكْتَهم من قَبْلِ أنْ نأتِيَ لمَيقاتِك، ولأهلَكْتني مَعَهُم، أسألُكَ برَحْمَتِكَ وعَظَمَتِكَ : هل تُهْلِكُنا بما فَعَل الجُهَلاءُ مِنّا ؟ ليسَ من رُبوبيّتكَ أنْ تُهْلِكَ قوماً بفِعْلِ جُهَلائِهم، أسْتَعْطِفُك يا رَبِّ أنْ تَعْفوَ عَنْهُم، لأنَّ ما فَعَلُوهُ ما هُوَ إلّا امْتِحانٌ واختبارٌ مِنْكَ لَهُم، حالةَ كونِكَ تُظْهِرُ به ضَلالَ الذي تُرِيدُ إضْلالَهُ جزاءً له على أفعالِهِ، وتُظْهِرُ به هِدايَةَ الذي تُرِيدُ هِدايَتَهُ جَزاءً لَهُ على أفْعالِهِ، يا رَبِّ، أنْتَ مُتَوَلِّي أمُورِنا، ولَكَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ بنا، ونحنُ خاضِعُونَ لوِلايَتِكَ، فإذا كان هذا حالُنا فاغْفِرْ لنا وارْحَمْنا، ويُؤكِّدُ طَلَبَنا المَغْفِرَةَ مِنْكَ أنَّك أنتَ أفْضَلُ الغافِرِين، فعَفَوْنا عن أسْلافِكم، وغفَرْنا لَهُم، ثُمَّ أحْيَيْناهُم من بَعْدِ موتِهم، لكي تَشْكُرُوا اللهَ على عَفْوِهِ عن أسْلافِكُم، وهذا هو المَطْلوبُ مِنْكُم (يَدُلُّ (لعلّكم تشكرون) على أنَّ شُكْرَكُم اللهَ على ذلك يُرْجَى بِهِ الهَداية إلى الإيمانِ برسولِهِ مُحَمَّدٍ وبالكِتابِ الذي أنْزَلَهُ إليه)

57 – واذْكروا صَنيعَتَنا الحَسَنَةَ بِكُمْ، ومِنَّتَنا وفَضْلَنا عليكُمْ حينَ صَيَّرْنا السَّحابَ الرَّقِيقَ ظِلّاً على أسْلافِكُم، لنَحْمِيَهم من حَرِّ الشّمْسِ، وأنْزَلْنا على أسْلافِكُم المَنَّ والسَّلْوى (المَنُّ : هو كُلُّ شيءٍ أنْعَمَ اللهُ بِهِ عليهم بَعْدَ خُروجِهِم من مِصْرَ ونُزُولِهِم صَحْراءَ سيناء مِمَّا لا تَعَبَ فيه ولا نَصَبَ مِثْل الكَمأةِ التي تَخْرُجُ بما يَنْزِلُ من السّماءِ من المَطَرٍ، ومِثل ما يَجِدُونَهُ على الأحْجارِ أو الأشْجارِ كالخُبْزِ حُلْوَ المَذاقِ، وقَدْ سَمَّوهُ خُبْزَ الرَّبِّ، و(السلوى) : طائرٌ صغيرٌ من رُتْبَةِ الدَّجاجيّات، يُسَمّونَهُ السّمّاني، واحدتُه: سَلْواة)، وقُلْنا لأسْلافِكم : كُلُوا من طيّباتِ الذي رَزَقْناكُمُوهُ (أي : من المَنِّ والسَّلْوى)، وواقِعُ الحالِ أنَّ أسْلافَكم ما نقَصُونا شَيئاً بتَجاوُزِهم حقَّنا عليهم بوُجُوبِ عِبادَتِنا وطاعَتِنا، وطاعَةِ رَسُولِنا، ولكن كانوا يُنْقِصُون حَقَّ أنْفُسِهم عليهم بعَدَمِ تَعْرِيضِها إلى عِقابِ اللهِ بسَبَبِ تَجاوُزِهِم طاعَةَ اللهِ وطاعَةَ رَسُولِهِ .

التحليل اللغوي :

54 – (وإذْ … العجل) عطف على (وإذْ آتينا موسى الكتاب) ومثلها في القول، (يا قومِ إنَّكم ..) مقول القول، (يا قوم) نداء، (قومِ) مُنادى مُضاف إلى (ياء المُتكلّم)، وحُذِفت (ياء المُتكلّم) للتخفيف، وبقيت الكسرة دليلاً عليها، (إنَّكم … العِجْلَ) ما نُودِيَ لأجْلِهِ، (إنّكم) (إنّ) واسمُها، (ظلمتُم ..) خبر (إنّ)، (ظلمتُم) فعل ماضٍ، والضمير (تُم) فاعلُهُ، (أنفسَكم) مفعول به (باتّخاذكم) متعلّقان بـ(ظلمتم)، والباء بمعنى السببيّة، و(اتّخاذ) مصدر مجرور بالباء ومُضاف إلى الضمير (كم) من إضافة المصدر إلى فاعلِهِ، و(العِجْلَ) مفعولُهُ الأول، ومفعولُهُ الثاني مُقدّر، أي (إلهاً)، ومعنى (ظَلَمْتُم أنفسهم) : تجاوزْتُم حقَّ أنفُسِكم عليكم بتوحيدِ اللهِ وإخلاصِ العبادة له، فعرّضتموها إلى عقاب الله بسبب اتخاذِ بعضِكم العجل إلهاً، ولم تَنْهَوْهم عن عبادة ِالعِجْلِ بمَنْعِهِم عن ذلك، ولم تأمروهم بترْكِه، (فتوبوا .. بارئكم) مرتبطة بما قبلها بالفاء الفصيحة في سياق قول موسى، ولم يُبيّنْ كيفيّةَ توبتِهم، لأنّ السياق يُبيّن أنّها تكون بالنَّدَم والبراءة، (فاقتلوا ..) عطف على ما قبلها بالفاء في سياق قول موسى، (اقتلوا) أمْرٌ مبني على حذف النون (واو الجمااعة) فاعلُهُ، (أنفسَكم) مفعول به، ويُقالُ : (قتَلَ فلانٌ فلاناً) : أذَلّهُ، و(قتلَ اللهُ فلاناً) : دَفَعَ شَرَّهُ، و(قَتَلَ جوعَهُ) : أزالَهُ بالطعام، والمراد بـ(أنفسكم) : الذين ينتمون إليكم في النَّسَبِ من الذين عبدوا العِجْلَ، والدليل على ذلك قوله تعالى (البقرة : 84، 85) : “وإذْ أَخَذْنا ميثاقَكُمْ لا تَسْفِكونَ دِماءَكُم ولا تُخْرِجُونَ أنْفُسَكُم مِنْ دِيارِكُمْ … ثُمَّ أنْتُمْ هؤلاءِ تَقْتُلونَ أنْفُسَكُمْ وتُخْرِجُونَ فَرِيقاً منكم مِنْ دِيارِهِم ..”، (ذلكم … بارئكم) مُستأنفة في سياق قول موسى، (ذلكم) مبتدأ، وهو إشارة إلى ما سبق، (خيرٌ) خبر، (لكم) مُتعلّقان بـ(خير) لأنّهُ (أفعل تفضيل)، و(عندَ) ظرف مكان مُتعلّق بـ(خير) أيضاً، وهو مُضاف إلى (بارئكم)، و(بارئكم) : خالقكم، (فتاب عليكم) مرتبطة بما قبلها بالفاء، (تابَ) فعلٌ ماضٍ، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (بارئكم)، (إنّهُ .. الرحيم) تعليل لما قبلها، (إنّهُ) (إنّ) واسمُها، (هو) ضمير الفصل لا محلَّ له، (التوابُ) خبر (إنّ)، و(التوّابُ) : الراجِعُ إلى عباده التائبين بالمغفرة، (الرحيم) خبر ثانٍ لـ(إنّ)

55 – (وإذْ … جهرة) عطف على ما قبلها، والخطاب لبني إسرائيل الموجودين وقت نزول الآية، والمراد به أسلافهم، (إذْ) ظرف لما مضى من الزمان، مُتعلّق بفعل مُقدّر، تقديره : (اذكروا)، و(إذْ) مُضاف إلى الجملة (قلتم ..)، (يا موسى لنْ نُؤْمِنَ ..) مقول القول، (يا موسى) نداء، (لنْ نُؤمِنَ لك .. جهرةً) ما نُودِيَ لأجلِهِ، (لن) حرف نفي ونصب واستقبال، (نُؤْمِنَ) مُضارع منصوب بـ(لن)، وفاعلُهُ ضميرُ المُتكلّمين مُستتراً، (لك) مُتعلّقان بـ(نُؤْمِن)، (حتى) حرف جرّ وغاية ينتصب بعدها المُضارع، (نرى) مُضارع منصوب بعد (حتى) بفتحة مُقدّرة على الألف، وفاعلُهُ ضميرُ المُتكلّمين مُستتراً، (جهرةً) صفة قامت مقام مفعول مطلق مُقدّر، (فأخذتكم ..) مرتبطة بما قبلها بالفاء التي بمعنى السبب، (أخَذتكم) فعل ماض، والتاء الساكنة علامة التأنيث، والضمير (كم) مفعول به، (الصاعقةُ) فاعلُهُ، و(أخَذَ اللهُ فلانا) : أهْلَكَهُ، و(الصاعقةُ) : جِسْمٌ ناري مُشتعل يسقُطُ من السماء في رَعْدٍ شديد، (وأنتم تنظرون) حال من الكاف في (أخذتكم)، وتقدّم القولُ في مثلها

56 – (ثمّ … موتكم) عطف على (فأخذتكم الصاعقة)، ويدلّ السياق على كلام مُقدّر قبلها حُذِف للاختصار بدلالة الآية : (155 من سورة الأعراف)، وسيتبيّن في المعنى، (بعثناكم) فعل ماضٍ، وضمير المُتكلّمين فاعله، والضمير (كم) مفعول به، و(بَعَثَهُ اللهُ بعد الموت) : أحياهُ، (من بعد) مُتعلّقان بـ(بعثناكم)، و(بعد) مُضاف إلى (موتكم)، (لعلكم تشكرون) تعليل لما قبلها

57 – (وظلّلنا .. الغَمام) عطف على (قُلتم ياموسى ..)، (ظَلَّلْنا) فعل ماضٍ، وضمير المُتكلمين فاعلُهُ (عليكم) مُتعلّقان بـ(ظَلَّلْنا)، (الغَمامَ) مفعول به، و(ظَلَّلَ عليه الخِباء) : جَعَلَه فوقه ظِلاً عليه، (الغمامَ) مفعول به، وهو بمعنى : السّحاب الرقيق، (وأنزلنا عليكم المنّ) عطف على ما قبلها، (عليكم) مُتَعلّقان بـ(أنْزَلْنا)، (المنّ) مفعول به، وهو كُلُّ ما يَمُنُّ اللهُ بِهِ عليهم من غيرِ تَعَبٍ ولا نَصَبٍ، (والسلوى) عطف على (المَنّ)، وهو : طائرٌ صغير من رُتْبَةِ الدَّجاجيّات، يسمونه السّمّاني، واحدتُه (سَلْواة)، (كلوا .. رزقناكم) مقول قولٍ مُقدَّر، (كلوا) أمْرٌ مبني على حذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (من طيّباتِ) مُتعلّقان بـ(كلوا)، و(طيّبات) مُضاف إلى (ما)، (ما) موصول، (رزَقْناكم) فعل ماضٍ، وضمير المُتكلّمين فاعلُهُ، والضمير (كم) مفعول به، والعائد مُقدَّر، والجملة صلة (ما)، (وما ظلمونا) مرتبطة بما قبلها بالواو لبيان واقع الحال، (ما) نافية، (ظلمونا) فعل ماضٍ، (واو الجماعة) فاعلُهُ، وضمير المُتكلمين مفعول به، و(ظلمونا) هنا بمعنى : نَقَصونا، يُقال : (ظَلَمَ فلاناً حقَّهُ) : نَقَصَهُ إيّاهُ، (ولكن .. يظلمون) عطف على ما قبلها للاستدراك عليها بـ(لكن)، (كانوا) فعل ماض ناقص، (واو الجماعة) اسم (كان)، (أنفسَهم) مفعول به لـ(يظلمون) وقُدِّم للحصر، (يظلمون أنفسَهم) خبر (كان)، (يظلمون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجمااعة) فاعلُهُ .

وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٥٨ فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوۡلًا غَيۡرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمۡ فَأَنزَلۡنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجۡزٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ ٥٩ ۞وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۖ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ ٦٠ وَإِذۡ قُلۡتُمۡ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصۡبِرَ عَلَىٰ طَعَامٖ وَٰحِدٖ فَٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُخۡرِجۡ لَنَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۢ بَقۡلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَاۖ قَالَ أَتَسۡتَبۡدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدۡنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيۡرٌۚ ٱهۡبِطُواْ مِصۡرٗا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلۡتُمۡۗ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلۡمَسۡكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ ٦١

المعنى في ضوء التحليل االلغوي :

58 – واذْكُرُوا صَنيعَتَنا الحَسَنَةَ بكم، ومِنَّتَنا وفَضْلَنا عليكُمْ حينَ قُلْنا لأسْلافِكم : ادْخُلُوا هذهِ القريةَ (أي : مَدِينَةَ بَيْتِ المَقْدس)، فكُلوا من طَعامِها في أيِّ مكانٍ أرَدْتم أكْلاً كثيراً واسِعاً لا تَعَبَ فيه، وادْخُلُوا بابَها المَعْرُوفَ حالةَ كونِكم خاضِعِينَ للهِ فيما أمَرَكم به، وقُولُوا : طَلِبَتُنا – يا رَبَّنا – غُفْرانُ ذُنُوبِنا وخَطَايانا، إنْ تَدْخُلوا البابَ حالَةَ كَوْنِكُم خاضِعِينَ للهِ فيما أمَرَكم به، وتقولوا طَلِبَتُنا – يا ربَّنا – غُفْرانُ ذُنوبِنا وخَطايانا نَغْفِرْ لَكُمْ خطاياكُمْ، وسَنَزِيدُ الذين يَفْعَلُونَ الأفْعالَ الحَسَنةَ بإتْقانٍ وإخْلاصٍ للهِ ثواباً (يَدُلُّ المعنى على أنَّ الذي يَعْمَلُ عَمَلاً حَسَناً بإتْقانٍ وإخْلاصٍ لأجْلِ اللهِ سَيَزِيدُهُ اللهُ ثَوَاباً على الثَّوابِ الذي يَسْتَحِقُّهُ على عَمَلِهِ الحَسَن)

59 – فبَدَّلَ الذين عَدَلُوا عن أمْرِ اللهِ بالقول الذي أمَرَهُم اللهُ أنْ يَقولُوهُ قَوْلاً غَيرَ القولِ الذي أُمِرُوا به (يَدُلُ السّياقُ والنّظْمُ على أنَّهم اسْتَهْزَؤُوا بقولِ اللهِ، فقالوا قولاً آخَرَ اسْتَحَقُّوا بِهِ أنْ يَصِفَهُم اللهُ بأنَّهُم فاسِقُون)، فأنْزَلْنا على الذين عَدَلُوا عن أمْرِ اللهِ عذاباً نازِلاً من السّماءِ (أي : من الفَضاءِ الذي يَعْلُوهُم وهم في الصَّحْراءِ) بسَبَبِ كونِهم خارجين عن أمْرِ اللهِ وطاعتِهِ، (يَدُلُّ المعنى والسِّياقُ على توصيلِ رسالةٍ إلى بني إسرائيل الموجودين في المدينةِ زَمَنَ رسول اللهِ، ومَضْمُون الرّسالةِ : فلا تَكُونُوا مِثْلَ أسلافِكم، فتَعْصُوا رَبَّكم بتَبْدِيلِ أمْرِهِ بالتَّصْدِيقِ بنُبُوَّةِ خاتَمِ رُسُلِهِ مُحَمَّدٍ، وبالكتابِ الذي أنْزَلَهُ إليه، فنُعاقِبَكم كما عاقًبْنا أسلافَكم)

60 – واذْكُرُوا صَنيعَتَنا الحَسَنَةَ بكم، ومِنَّتَنا وفَضْلَنا عليكم حين طَلَبَ موسى منّا السُّقيا لقومِهِ الذين هم أسْلافُكم، فقُلْنا لَهُ : اضْرِبْ بعصاكَ الحَجَرَ الذي عَرَّفْناهُ وعيّنّاهُ لك (وهو الصّخْرَةُ المَعْرُوفَةُ في بَرِّيَّةِ (حُورِيب)، جاء في (سفر الخروج 17: 6) : “هَا أَنَا أَقِفُ أَمَامَكَ هُنَاكَ عَلَى الصَّخْرَةِ فِي حُورِيبَ، فَتَضْرِبُ الصَّخْرَةَ فَيَخْرُجُ مِنْهَا مَاءٌ لِيَشْرَبَ الشَّعْبُ”) فلمّا ضَرَبَ موسى الحَجَرَ انْبَعَثَ الماءُ وتَدَفّقَ من الحَجَرِ في اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَيْناً بعدَدِ قبائلِ بَنِي إسْرائِيلَ، قَدْ عَرَفتْ كُلُّ جَماعةٍ من قَوْمِهِ (أي : كُلُّ قَبِيلَةٍ) مكانَ عَيْنِهم التي يَشْرَبُونَ مِنْها، لا يُشارِكُهُم فيها غيرُهم، وقُلنا لهم : كُلُوا واشْرَبُوا مِمّا رَزَقَكُم اللهُ بِهِ من الطّعامِ والشَّرابِ، ولا تُفْسِدُوا في الأرضِ أشَدَّ الفَسادِ بالعَمَلِ بالمَعاصِي، وظُلْمِ النّاسِ حالةَ كَوْنِكُم مُتَسَبِّبينَ في الاضْطِرابِ وعَدَمِ الاسْتِقْرارِ بَيْنَ النّاسِ بإثارَةِ الفِتَنِ والحُروبِ بَيْنَهُم، وبالإخلالِ بنِظامِ المُجْتَمَعِ (يَدُلُّ المعنى والسِّياقُ على توصيلِ رسالةٍ إلى بني إسرائيل الموجودين في المدينةِ زَمَنَ رسول اللهِ، ومَضْمُون الرّسالةِ : فلا تَكُونُوا مِثْلَ أسْلافِكُم، فتُفْسِدُوا في الأرضِ بصَدِّ النّاسِ عن الإيمانِ بالرَّسُولِ مُحَمّدٍ، وبالقُرآنِ الذي أنْزَلْناهُ إليهِ)

61 – واذْكُرُوا صَنيعَتَنا الحَسَنَةَ بِكُمْ، ومِنَّتَنا وفَضْلَنا عليكُمْ حينَ قالَ أسْلافُكم لنَبِيِّكُم مُوسى : يا موسى لن نَحْتَمِلَ حَبْسَ أنْفُسِنا على طَعامٍ واحِدٍ، فإذا كُنّا كذلك فادْعُ رَبَّكَ لأجْلِنا، واسْأَلْهُ أنْ يُبْدِلَنا بِهِ طَعاماً غيرَهُ، إنْ تدْعُهُ يُخْرِجْ لنا من الذي تُخْرِجُهُ الأرضُ، أي : من بَقْلِها من النَّباتاتِ العُشْبيّةِ التي نتغَذَّى عليها، (كالخُضَر التي لا ساق لها)، وقِثّائِها من النباتات القَرْعِيّة التي تُشْبِهُ الخِيارَ، وفُومِها من الحِنْطَةِ وأمْثالِها من الحُبُوبِ التي تُخْبَزُ، وعَدَسِها وبَصَلِها، قال مُوسَى : أتْطْلُبُونَ الطَّعامَ الذي هو أقْرَبُ لشَهَواتِ أنْفُسِكم التي تُدْنِيكم إلى ضَعْفِ النّفْسٍ ومهانَتِها بدلاً من الطَّعامِ الذي هو خيرٌ لكم، أُنْكِرُ عليكم قولَكم هذا، ادْخُلوا مدينةً أو قريةً من المُدُنِ والقُرى التي تُقامُ فيها الأسْواقُ والدُّورُ، فإنَّ الذي طَلَبْتُموهُ كائنٌ لكم فيها (قالَ لَهُمْ مُوسى ذلك، لأنّ المُدُنَ والقُرى التي تُقامُ فيها الأسواقُ والدُّورُ تكثُرُ فيها الزِّراعَةُ، أمّا الصّحراءُ التي كانوا فيها فلا تَصْلُحُ للزّراعَةِ)، وألزمْناهم ضَعْفَ النَّفْسِ ومهانَتَها، و خُضُوعَ النّفسِ وذُلَّها بسَبَبِ انْسِياقِهم وراءَ شَهَواتِ أنفسهم، واحْتَمَلُوا غَضَباً كائناً من الله عليهم في الدُّنيا، ذلك (أي : الذي ألْزَمْناهُمْ بِه، وغَضَبُ اللهِ الذي احْتَمَلُوهُ) كائنٌ بسَبَبِ أنَّهم كانوا يجْحَدون حُجَجَ اللهِ بوُجُوبِ طاعتِهِ وطاعَةِ رُسُلِهِ، ويُبْطِلونَ دَعْوَةَ النَّبِيِّين بغيرِ الحَقٍّ، ولا يَعْتَدُّونَ بمَشْهَدِهِم، ولا يَقْبَلُونَ لهُم قَوْلاً، ولا يُقيمُونَ لهُم دَعْوَةً، ويَجْعَلُونَهُم كَمَنْ قد ماتَ، وصارَ ذلك عادَةً لهم (إنّما ذَهَبْتُ إلى هذا المعنى من معاني (قَتَلَ) لأنّهُ يُوافقَ ما ذَكَرَهُ القُرآنُ عن الأنْبياء الذين أرسَلَهُم اللهُ إلى النّاس، أمّا ما ذُكِرَ من قَتْلِ بني إسرائيلَ أنبياءَهُم فهو مأخوذٌ من الرّواياتِ الإسرائِيلية، والقُرآنُ لا يُؤَيِّدُهُ، لأنَّ القُرآنَ وَعَدَ رُسُلَ اللهِ بالحِمايةِ والنَّصْرِ على المُكَذِّبين بهم، قال تعالى (الصّافات : 171 – 173) : “ولقد سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعبادِنا المُرْسَلين *إنَّهُم لَهُم المَنْصُورون * وإنَّ جُنْدَنا لَهُم الغالِبُونَ”، وقال تعالى (الأنعام : 34) : “ولَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ من قَبْلِكَ فَصَبَرُوا على ما كُذِّبُوا وأُوذُوا حتّى أتاهُم نَصْرُنا ولا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ الله ولَقَدْ جاءَكَ من نَبَأِ المُرْسَلِين”، وقال تعالى (الأنبياء : 9) : “ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الوَعْدَ فأنْجَيْناهُم ومَنْ نَشاءُ وأهْلَكْنا المُسْرِفِينَ”، وقال تعالى (غافر : 51) : “إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا والذين آمَنوا في الحياةِ الدُّنيا ويومَ يَقُومُ الأشْهادُ”، وقال تعالى (الروم : 47) : “ولقد أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قومِهِم فجاؤُوهم بالبَيِّناتِ فانْتَقَمْنا من الذين أجْرَموا وكان حَقَّاً علينا نَصْرُ المُؤمِنين”، وقال تعالى (المُجادِلة : 21) : “كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أنا ورُسُلِي إنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ”، وقال تعالى (طه : 45 و46) عن لسان موسى وهارون : “قالا رَبَّنا إنَّنا نَخافُ أنْ يَفْرُطُ عَلَيْنا أو يَطْغى” فكان جوابُ اللهِ لهما : “قالَ لا تخافا إنَّني مَعَكُما أسْمَعُ وأرى”، ولم يذكُرْ القرآنُ أنَّ نَبِيّاً من الأنبياءِ قد قُتِلَ، بل ذَكَرَ القُرآنُ أنَّ اللهَ تعالى نَصَر نوحاً وإبراهيمَ وهُوداً وصالحاً ولوطاً وشُعَيْباً وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ ويوسُفَ وموسى وهارونَ وداودَ وسُلَيْمانَ وإلياسَ واليَسَعَ وأيُّوبَ وذا النّونِ وعيسى بن مريم ومُحَمَّداً (ص)، وغيرَهم من الأنبياءِ الذين ذَكَرَهُم القُرآنُ، وذَكَرَ أنَّ اللهَ نَجّاهم ونَصَرَهم على أقْوامِهم الذين كَذَّبوا بهم)، ذلك (أي : الذي ألْزَمْناهُمْ بِهِ، وغَضَبُ اللهِ الذي احْتَمَلُوهُ) كائنٌ بسَبَبِ عِصْيانِهم وكَوْنِهم مُعْتَدِينَ مُتجاوِزِينَ حُدُودَ الله، (يَدُلُّ المَعْنَى والسِّياقُ على توصيلِ رسالةٍ إلى بني إسرائيل الموجودين في المدينةِ زَمَنَ رسول اللهِ، ومَضْمُون الرّسالةِ : فلا تَكُونُوا مِثْلَ أسْلافِكُم فيُعاقِبَكُم اللهُ بالحُكْم عَلَيْكُم بما حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِم) .

التحليل اللغوي :

58 – (وإذْ .. القرية) عطف على (وإذْ قلتم ..)، ومثلها في القول، (ادخلوا .. القريةَ) مقول القول، (ادخلوا) أمْرٌ مبني على حذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (هذه) اسم إشارة في محلّ نصب على التوسّع في إسقاط الخافض مثل قولهم : (دخلتُ الشامَ)، (القرية) بدل من (هذه)، والإشارة إلى (بيت المقدس)، (فكُلوا … رغداً) عطفٌ على (ادْخلوا ..)، (كلوا) مثل (ادخلوا) في القول، (منها) مُتعلّقان بـ(كُلوا)، والضمير (ها) في الأصل مُضاف إليه قام مقام مُضاف مُقدّر، والتقدير : (من طعامها)، (حيث) ظرف مكان متعلّق بـ(كُلوا)، وهو مُضاف إلى الجملة (شِئْتُم)، (شِئْتُم) فعل ماضٍ، والضمير (تُم) فاعلُهُ، (رغداً) صفة قامت مقام مفعول مطلق مُقدّر، و(الرَّغَدُ من العيش) : الكثير الواسع الذي لا يُتْعَبُ فيه، (وادخلوا .. سُجَّداً) عطف على (ادخلوا ..)، (البابَ) مفعول به، و(ال) في (الباب) للتعريف، (سُجَّداً) حال من واو الجماعة، و(سَجَدَ الرّجُلُ) : خَضَعَ وانقادَ، و(أسْجَدَ) : طأْطأَ رأسَهُ وانحنى خضوعاً، (وقولوا حِطّةٌ) عطف على (ادخلوا البابَ)، لأنّ السياق يدلّ على أنّ الأمْرَين شرط في (نغْفِرْ) الآتي، (قولوا) امْرٌ مبني على حذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (حِطّة) خبر لمبتدأ مُقدّر تقديره : (طلِبتُنا حِطّةٌ)، والجملة مقول القول، و(حِطّة) اسم لحَطّ الذنوب وغفرانِها، يُقال : (حطَّ وِزْرَهُ) : وَضَعَهُ عنه، وغَفَرَهُ له، (نغفرْ) مضارع مجزوم لوقوعه جواباً للأمْرَيْن (ادْخلوا وقولوا)، وفاعلُهُ ضمير المُتكلّمين مُستتراً، (لكم) مُتعلّقان بـ(نغفر)، (خطاياكم) مفعول به، والضمير (كم) مُضاف إليه، (وسنزيد المُحسنين) مُرتبطة بما قبلها بالواو في سياقِ قول الله، (سنزيدُ) السين حرف استقبال (نزيدُ) مُضارع مرفوع، وفاعله ضمير المُتكلّمين مُستتراً، (المُحسنين) مفعول به أوّل، والمفعول به الثاني مُقدّر، تقديره : (ثواباً)، و(أحْسَنَ) : فَعَلَ ما هو حَسَنٌ، وأجادَ صُنْعَهُ وأتْقَنَهُ

59 – (فبدّل … لهم) مرتبطة بما قبلها بالفاء، (بَدَّلَ) فعل ماضٍ، (الذين) موصول فاعلُهُ، (ظلموا) صلة (الذين)، ويدلُّ معنى (بدّلَ) على مُتعلّق به مُقدّر، وتقديره : (بالقول الذي قيل لهم)، كما قالوا : (بدّلَ بالثوبِ القديم الثوبَ الجديدَ)، (قولاً) مفعول به، (غيرَ) صفة لـ(قولاً)، وهو مُضاف إلى (الذي)، (قيلَ لهم) صلة (الذي)، (قيلَ) فعل ماضٍ مبني للمجهول، (لهم) مُتعلّقان بـ(قيل) في موضع نائب الفاعل، (فأنزلنا … يفسقون) مرتبطة بما قبلها بالفاء، (أنْزَلنا) فعل ماضٍ، وضمير المُتكلّمين فاعلُهُ، (على الذين) مُتعلّقان بـ(أنْزَلنا)، (ظلموا) صلة (الذين)، (رجزاً) مفعول به، و(الرِّجْز) : العذاب، (من السماء) مُتعلّقان بمُقدّر صفة لـ(رِجْزاً)، (انظُرْ المُراد بـ(السماء) في الآية 133 من سورة آل عمران، والمُرادُ بـ(السماء) هنا : الفضاء الذي يعلو الأرضَ ضمن المجوعة الشّمسيّة)، (بما) الباء حرف جرّ بمعنى السببية، (ما) مصدرية، (كانوا) فعل ماضٍ ناقص، (واو الجماعة) اسم (كان)، (يفسقون) خبر (كان)، (يفسقون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، و(فَسَقَ عن أمْرِ ربِّه) : خَرَجَ عن طاعتِهِ، والمصدر المُؤوّل (ما كانوا يفسقون) مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلّقان بـ(أنزلنا)

60 – (وإذْ … لقومه) عطف على (وإذ قلنا ..)، (اسْتَسْقى) فعل ماضٍ، (موسى) فاعلُهُ، (لقومِهِ) مُتعلّقان بـ(استسقى)، و(اسْتَسْقى) : طَلَبَ السُّقْيا، (فقلنا …الحجر) عطف على (اسْتسقى ..)، (اضْرِبْ .. الحَجَر) مقول القول، (اضْرِب) أمْرٌ، وفاعلُهُ ضمير المُخاطب مُستتراً، (بعصاك) مُتعلّقان بـ(اضْرب)، (الحَجَرَ) مفعول به، والألف واللام في (الحجر) للتعريف، (فانفجرت … عيناً) مُرتبطة بما قبلها بالفاء الفصيحة، أي : (فلمّا ضَرَبَ انفجرت)، (انفَجَرَتْ) فعل ماضٍ، والتاء الساكنة للتأنيث، و(انْفَجَرَ الماء) : انْبَعَثَ وتَدَفَّقَ، (منه) مُتعلّقان بـ(انفجَرَتْ)، (اثنتا عشْرَةَ) فاعلُهُ، وهو عَدَدٌ مُركّب من جُزئين، مرفوع بألف التثنية في جُزئِهِ الأوَل لأنَّ (اثْنتا) مُلحق بالمُثنّى، و(عشرةَ) جزؤهُ االثاني مبني على الفتح، (عيناً) تمييز، (قد علم .. مشربهم) مُستأنفة في سياق ما قبلها، (قد) حرف تحقيق يُقَرِّب الماضي من الحال، (عَلِمَ) فعل ماضٍ، (كُلُّ) فاعلُهُ وهو مُضاف إلى (أُناس)، و(الأُناس) : الجماعة من الناس، (مَشْرَبَهم) مفعول به، وهو اسم مكان، (كُلوا .. الله) مقول قول مُقدّر، والتقدير : (وقلنا كُلوا ..)، (كلوا) أمْرٌ مبني على حذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، ومُتعلّقُهُ مُقدّر بدلالة مُتعلّق (اشربوا)، والتقدير : (من رزق الله)، والجملة عطف على (فقلْنا اضربْ ..)، (واشْرَبوا) عطف على (كلوا) ومثلها في القول، (من رِزْقِ) مُتعلقان بـ(اشربوا)، و(الرِّزْق) : الشيء المَرزوق، وهو : كُلُّ شيءٍ يَتَغَذّى به الكائنُ الحي، ولم يذكر المفعول به لـ(كلوا واشربوا) لأجل التركيز على إحداث الفعل دون ذِكْر مفعولٍ به، (ولا تعثوا … مُفسدين) عطف على (كلوا ..)، (لا) ناهية جازمة، و(تَعْثَوا) مُضارع مجزوم بحذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، و(عثا يعْثُو عُثُوَّاً) : أفْسَدَ أشَدَّ الفساد،، (مُفسدين) حال مُؤكِّدة للفعل قبلها

61 – (وإذْ … واحد) عطف على (وإذ استسقى ..)، (يا موسى … واحِد) مقول القول، (موسى) مُنادى مُفرد مبني على الضم المُقدّر على آخره، (لن … واحد) ما نُودِيَ لأجْلِهِ، (لن) حرف نفي ونصب واستقبال، (نصْبِرَ) مُضارع منصوب، وفاعله ضمير المُتكلّمين مُستتراً، (على طعام) متعلّقان بـ(نصبر)، (واحد) صفة لـ(طعام)، و(صَبَرَ على الشيء) : احتملَهُ، و(صَبَرَ نفسَهُ) : حَبَسَها، (فادعُ … وبصلها) مرتبطة بما قبلها بالفاء الفصيحة، أي : (فإذا كُنّا كذلك فادعُ ..)، (ادْعُ) أمْرٌ مبني على حذف حرف العِلّة، وفاعلُهُ ضمير المُخاطب مُستتراً، (لنا) مُتعلّقان بـ(ادْعُ)، (ربَّكَ) مفعول به، (يُخرجْ) مضارع مجزوم لوقوعه جواباً للأمر، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (ربّك)، (لنا) مُتعلّقان بـ(يُخْرِجْ)، (ممّا) هي (من) حرف جر، و(ما) موصول في محلّ جَرّ بها، والجار والمجرور مُتعلّقان بـ(تُخْرِجْ)، (تُنْبِتُ الأرض) صلة (ما)، والعائد مُقدَر، (تُنْبِتُ) مُضارع مرفوع، (الأرضُ) فاعلُهُ، و(أنْبَتَت الأرضُ) : أخْرَجَتْ النبات، (من بقْلِها) بدل من (ممَا)، و(البقْلُ) : نباتٌ عُشْبي يغتذي الإنسانُ به، أو بجزءٍ منه، و(قثّائها) عطف على (بقلها)، و(القِثّاء) : نباتٌ من الفصيلة القَرْعِيّة شبيه بالخيار، (وفومِها) عطف على (بقلها)، و(الفومَة) : الحبّة التي تُخْبَز، (وعدَسِها) عطف على (بقلها)، و(بَصَلِها) عطف على (بقلها)، (قال … خير) مستأنفة في سياق ما قبلها، وفاعل القول ضمير عائد إلى (موسى)، (أتستبدلون … خير) مقول القول، الهمزة استفهام بمعنى الإنكار، (تستبدلون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، ومعناه : (تطلبون إبداله)، و(السين والتاء) للطلَب، (الذي) موصول مفعول به، (هو أدنى) صلة (الذي)، (هو) مُبتدأ، (ادْنى) خبر، و(أدْنى) : أفْعَل بمعنى (أقْرَب)، أي : (هو أقربُ لشهواتِ أنفُسِكم)، ولذلك قال (أدنى) بدلاً من (أقرب) لمناسبة شهواتِ أنفُسِهم التي تُدني بهم إلى ضعف النفس ومهانتها، و(بالذي) مُتعلّقان بـ(تستبدلون)، وتدخل الباء في مُتعلّق الفعل (بدَّلَ) على المتروك، (هو خيرٌ) صلة (الذي)، (اهبطوا مِصْراً) مُستأنفة في سياق قول موسى، (اهبطوا) أمرٌ مبني على حذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (مصراً) مفعول به، والتنوينُ فيه علامةُ الصَّرْفِ، لأنّ المُراد به مِصْرٌ من الأمْصار، و(المِصْرُ) : مدينةً أو قريةً من المُدُنِ والقُرى التي تُقامُ فيها الأسواق والدور، وليس المرادُ به علماً على دولة، و(هَبَطَ االمكان) : دَخَلَهُ، (فإنَّ .. سألتم) مُرتبطة بما قبلها بالفاء التي بمعنى التعليل، (لكم) مُتعلّقان بمُقدّر خبر (إنَّ) مُقدّم، (ما) موصول اسمها مُؤخَّر، (سألتم) صلة (ما)، (سألتم) فعل ماضٍ، والضمير (تُم) فاعلُهُ، والعائد مُقدّر، والتقدير : (سألتموه)، والجملة تعليل للأمْرِ (اهبطوا)، (وضُرِبت .. والمسكنة) مرتبطة بما قبلها بالواو، وهي من قول الله، (ضُرِبت) فعل ماضٍ مبني للمجهول، والتاء الساكنة علامة التأنيث، (عليهم) مُتعلّقان بـ( ضُرِبت)، (الذِّلّةُ) نائب الفاعل، وكانت مفعولاً به قبل بناء الفعل للمجهول، و(الذّلّة) : ضعفُ النفسِ ومهانتُها، (والمَسْكَنةُ) عطف على (الذّلّة)، ومعناها : خضوع النفس وذُلُّها، (وباؤا .. الله) عطف على ما قبلها، (باؤوا) فعل ماض (واو الجماعة) فاعلُهُ، (بغَضَبٍ) مُتعلّقان بـ(باؤوا)، و(باء به) : احتمله واعترف به، (من الله) مُتعلّقان بمُقدّر صفة لـ(غضب)، (ذلك … الحق) تعليل لما قبلها، (ذلك) مبتدأ، والإشارة به إلى الحُكم الذي حَكَمَ به عليهم، (بأنّهم) الباء حرف جر بمعنى السّبَب، (أنَّهم) (أنّ) واسمها، (كانوا يكفرون بآيات الله) خبر (أنَّ)، (كانوا) (كان) واسمها، (يكفرون بآيات الله) خبر (كان)، (يكفرون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (بآياتِ) مُتعلّقان بـ(يكفرون)، و(آيات) مُضاف إلى (الله)، والمصدر المُؤوّل (أنّهم كانوا .. الله) مجرور بالباء التي بمعنى السّبَب، والجار والمجرور متعلّقان بمُقدّر خبر المُبتدأ (ذلك)، (ويقتلون .. الحقّ) عطف على (يكفرون ..)، (يقتلون) مثل (يكفرون) في القول، (النّبيين) مفعول به لـ(يقتلون)، (بغير) مُتعلّقان بـ(يقتلون)، وهو مُضاف إلى (الحقِّ)، و(قَتَلَ) لَهُ معانٍ كثيرةٌ في كلام العَرَب، (قَتَلَهُ) : أماتَهُ بسَيْفٍ أو حَجَرٍ أو سُمٍّ أو بغيرِ ذلك، و(قَتَلَهُ) : صَرَفَهُ عَنْهُ، قال الفَرَزْدقُ حينَ بَلَغَهُ موتُ زِياد، وكان زِيادُ هذا قد نفاهُ وآذاه، فلمَا بَلَغَهُ موتُهُ قال :

كيفَ تراني قالِباً مِجَنِّي
أقْلِبُ أمْرِي ظَهْرَهُ للبَطْنِ
قدْ قَتَلَ اللهُ زِياداً عنّي

أي : صَرَفَ اللهُ زياداً عنِّي، و(قَتَلَهُ اللهُ) لَعَنَهُ، قال القرّاءُ في (قُتِلَ الإنسانُ ما أكْفَرَهُ) : معناهُ : لُعِنَ، و(قاتلَ فلاناً) : عاداهُ أو لَعَنَهُ، وفي الحديث : (قاتَلَ اللهُ اليهودَ) معناه : لَعَنَهُم، وقيلَ : عاداهُم، و(قاتَلَهُ) : دافَعَهُ، وفي حديثِ السّقيفة : (قاتَلَ اللهُ سَعْداً فإنَّهُ صاحِبُ فِتْنَةٍ وشَرٍّ)، أي : دَفَعَ اللهُ شَرَّهُ، وقالوا : (اقْتُلُوا فلاناً)، أي : اجعَلُوهُ كَمَنْ قُتِلَ، واحْسَبُوهُ في عِدادِ مَنْ ماتَ، ولا تَعْتَدُّوا بمَشْهَدِهِ، ولا تُعَرِّجوا على قولِهِ، أي : لا تقْبَلوا لهُ قولاً، ولا تُقيموا لهُ دَعْوَةً، وكذلك ما جاء في الحديث : (إذا بُويِعَ لخَلِيفَتَينِ فاقْتُلوا الأخيرَ مِنْهما)، أي : أبْطِلوا دَعْوتَهُ واجْعَلُوهُ كَمَنْ قد ماتَ، وقالوا : (قَتَلَهُ عِلْماً)، أي : عَلِمَهُ عِلماً يقيناً، و(قَتَلَ الشَّيءَ) : أزالّ حِدَّتَهُ، قالوا : (قَتَلَ الخَمْرَ قَتْلاً) : أزالَ حِدَّتَها بمَزْجِها بالماء، وقالوا : (قَتَلَهُ العِشْقُ) : أذلَّهُ وأخْضَعَهُ، و(قَتَلَتْهُ المَرأةُ) : أخْضَعَتْهُ وأذَلَّتْهُ، فهو مُقَتَّل، وقالوا : (ناقَةٌ مُقَتَّلَةٌ) : مُذَلَّلة لعَمَلٍ من الأعمال، وما يُوافِقُ قولَهُ تعالى (يَقْتُلونَ) في هذه الآية من تلك المعاني معنى (يُبْطِلونَ دَعْوتَهُم، ولا يَعْتَدُّون بمَشْهَدِهِم، ولا يَقْبَلونَ لهُم قَوْلاً، ولا يُقيمونَ لهُم دَعْوَةً، ويَجْعَلُونَهُم كَمَنْ قد ماتَ، (ذلك بما عَصَوا) تعليل آخر، وهي مثل (ذلك بأنَّهم) في القول، (وكانوا يعتدون) عطف على (عَصَوا)، وتقدّم القولُ في مثلها .

إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِ‍ِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٦٢

المعنى في ضوء التحليل االلغوي :

62 – انْتَبِهُوا، إنَّ الذين صَدَّقوا باللهِ إلهاً واحِداً، وبمُحَمَّدٍ رسولاً من اللهِ، وبالقرآنِ نازِلاً من اللهِ إليه، والذين هادُوا، والنّصارَى، والصّابئينَ، أي : الذين صَدّقوا منهم باللهِ إلهاً واحِداً، وصَدَّقوا برُسُلِهِ وبالرَّسولِ مُحَمَّد مَعَ تَحْقِيقِ تَصْدِيقِهِم في القَلْبِ بالاعتقادِ بِهِ من غيرِ شَكٍّ ولا ارْتِيابٍ، وصَدّقُوا باليومِ الآخِرِ الذي يَكُونُ فيه الحِسابُ والجَزاءُ مَعَ تَحْقِيقِ تَصْدِيقِهِم في القَلْبِ بالاعْتِقادِ بِهِ من غَيْرِ شَكٍّ ولا ارْتِيابٍ، وعَمِلوا عَمَلاً نافعاً مُناسباً للنّاسِ لا فسادَ فيه فلَهُم ثَوَابُهم عِنْدَ رَبِّهم يومَ الحِسابِ والجزاءِ، ولا خَوْفٌ كائنٌ عليهم من عذابِ رَبِّهم في الحياةِ الآخِرَةِ، ولا هم يُصِيبُهم كَرْبٌ ولا حُزْنٌ في الحَياةِ الدُّنيا والآخِرَةِ (يَدُلُّ تَنْكِيرُ (صالحاً) على كُلِّ عَمَلٍ نافعٍ للنّاسِ، وهذا المعنى يَشْمَلُ جميعَ الذين قَدَّمُوا للبَشَرِيَّةِ أعْمالاً نافِعَةً، سواءٌ أكانوا مُسلمين أم يَهُوداً أم نَصارَى أم صابِئِين، إذا صَدّقوا باللهِ إلهاً واحِداً بلا شَكٍّ وارتياب، وصَدَّقوا برُسُلِهِ وبالرَّسولِ مُحَمَّدٍ (ص) مَعَ تحقيقِ تصديقِهِم في القَلْبِ بالاعتقادِ به من غيرِ شَكٍّ ولا ارْتيابٍ، وصَدَّقوا باليومِ الآخر الذي يَكُونُ فيه الحِسابُ والجزاءُ مَعَ تَحْقِيقِ تَصْدِيقِهِم في القَلْبِ بالاعتقادِ بِهِ من غيرِ شَكٍّ ولا ارْتيابٍ، فلهم ثوابُهُم عندَ ربِّهم يومَ الحساب والجزاء، ولا خوفٌ كائنٌ عليهم من عذابِ اللهِ في الحياةِ الآخرةِ، ولا هم يُصيبُهُم كَرْبٌ ولا حُزْنٌ في الحياة الدُّنيا والآخرة) .

بحثٌ في المُراد بـ(الذين آمنوا والذين هادوا والنَّصارى والصّابئين)

جاءَ في القرآنِ الكريمِ ألفاظ (بني إسرائيل)، و(الذين هادوا)، و(اليهود)، و(هُود)، و(بنو إسرائيل) اسمٌ جامعٌ لجميع قبائل أسباط (يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) الذي سُمِّيَ بـ(إسرائيل)، وكان عدَدُهم اثني عَشَرَ قبيلة بعَدَدِ أبناء يعقوب الاثني عَشَر، وتَجَلَّى وجودُ قبائل بني إسرائيل واضحاً زَمَنَ رسولِ اللهِ موسى، وقد أشار القرآنُ إلى ذلك في قولِهِ تعالى (الأعراف : 160) : “وقَطَّعْناهُم اثْنَتَي عَشْرَةَ أسباطاً أُمَمَاً وأوْحَيْنا إلى موسى إذْ اسْتَسْقاهُ قومُهُ أنِ اضْرِبْ بعَصاكَ الحَجَرَ فانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُم”، واستطاعَ أنبياءُ بني إسرائيل من بعْدِ موسى أنْ يجمعوا القبائلَ الاثْنَي عَشَرَ، ويجعلوا منها كِياناً مُوَحَّداً، وحينَ صارَ شاؤول الذي أشار إليه القرآن باسْمِ (طالوت) مَلِكاً على بني إسرائيل، وَحّدَ قبائل بني إسرائيل الاثْني عَشَر في مَمْلَكَةٍ واحدة، هي مَمْلكة (إسرائيل القديمة)، ولمّا جاءَ من بعْدِهِ النّبيّ داود حافظَ على وحْدَةِ قبائلِ بني إسرائيل، وصَنَعَ منهم كياناً قويّاً تَغَلَّبَ به على ملوكِ الأُمَمِ المُجاورة لهم، وسارَ سُلَيْمانُ بنُ داود على نَهْجِ أبيه في الحِفاظِ على وَحْدةِ قبائل بني إسرائيل، وفي عَهْدِ سُلَيمان استوْطَنَ جماعاتٌ من قبائل بني إسرائيل اليَمَن بعدَ أنْ دَخَلَتْ مَلِكَتُهم (بلقيس) في ديانةِ سُلَيمان، وفي ذلك الزّمَنِ انْتَشَرَتْ الديانةُ اليهوديةُ في اليَمَن، ودانَ قِسْمٌ كبيرٌ من أهلِ اليمن بها، واعْتَنَقَها بعضُ ملوكِهم، وبعدَ وفاةِ النبيّ سُلَيمان افْتَرَقَتْ قبائلُ بني إسرائيل إلى فِرْقَتَين، فِرْقَةٌ ذَهَبتْ إلى شمال دولة إسرائيل القديمة، وتَضُمُّ عَشْرَ قبائلَ من قبائل أسْباطِ بني إسرائيل، وأسَّسَتْ دولة (إسرائيل الشّمالية)، وجَعَلَتْ عاصِمَتَها (السّامرة)، وفِرقَةٌ ذهَبَتْ إلى جنوب دولة إسرائيل القديمة، وتَضُمُّ (قبيلةَ يهوذا) أحَد أسباط يعقوب، وهي القبيلة الكبرى، وقبيلةَ لاوي، وأسَّسَتْ قبيلة يهوذا (دولة إسرائيل الجنوبية)، وجَعَلَتْ عاصمتها أورشليم (القُدْسَ)، وفي عام 722 قبل الميلاد غزا الآشُورِيُّون دولةَ (إسرائيل الشمالية)، ودَمّروها تدميراً كاملاً، وفرَّقوا أغلبيّةَ سُكّانِها على جميع مناطق دولة آشور، ومَنْ بَقِيَ منهم تَفَرَّقَ في البُلدان، ولم يعُدْ لقبائلها العشر وجود، وفي عام 587 قبل الميلاد غزا نبوخُذ نُصّر ملك البابليين دولة إسرائيل الجنوبية، ودَمّرها تدميراً كاملاً، ودَمَّر الهَيكل في أورشليم، وقَتَلَ خلْقاً كثيراً منهم، وأسَرَ آلافاً منهم أخَذَهم معه إلى بابل، (قيل : إنّهم كانوا ما يُقارب أربعين ألفاً)، وفي عام 537 قبل الميلاد استطاع قورش الأخميني مَلِكُ الفُرْسِ أنْ يُسْقِط الدّولةَ البابليَّةَ، وسَمَحَ لليهود بالعودة إلى أورشليم بعد 70 سنة من المنفى في الدولة البابلية، والبدء في بناء المدينة والهيكل، وقام العائدون اليهود بإعادة بناء الهيكل، واستَمَرّ اليهود العائدون من السّبي والأجيال التي جاءت بعدهم في بناء دولة يهوذا الجنوبية بعاصمتها أورشليم، وبنوا الأسوار الحصينة المحيطة بها، وبقوا يُمارسون طقوسَ ديانتِهم عِدةَ قرون، وفي عام 70 ميلادية استطاع (تيتوس) ملك الرُّومان أنْ يفتح أورشليم، وأنْ يُدَمِّرَ معبد سليمان، وأحرقَهُ لمنع اليهود من الاحتماءِ بداخِلِهِ، وفي 28 اغسطس /آب من العام نفسِهِ كان المعبدُ قد احْتَرَقَ، ودُمِّرَتْ اسوارُ القُدْس ودُكَّتْ المدينةُ بالارض وبهذا العَمَلِ أنهى الرومان قوّةَ اليهود ووجودَهم في (دولة يهوذا الجنوبية)، وبعد احتلالِ بيت المقدس عاد تيتوس إلى روما سنة71 م ليحتفلَ بنصرِهِ وهو يحملُ معه كنوزَ هيكل سليمان والالاف من اليهود العبيد الذين عَرَضَهُم على شعب روما .

إنّ هذه الأحداث التي مَرّتْ على قبائل أسباط إسرائيل (يعقوب) الاثني عَشر بعد حُكْم النّبي سُلَيمان أدْتْ إلى هِجْرةِ جماعات كبيرة منهم إلى مناطق مُختلفة من العالم، وكان لأرضِ الحجاز نصيبٌ كبير من هِجرةِ تلك القبائل، وقد استوطَنَتْ تلك الجماعات المُنحدرة من قبائل أسباط إسرائيل (يعقوب) الاثني عَشر أرض يثرب، وما حولها من أرض الحجاز، مثل خيبر وتيماء ووادي القرى، واستوطَنَتْ بعضُ القبائل منهم دوس واليمامة و نجران وفي دومة الجندل و مناطق أخرى متفرقة، ومن القبائل التي عاصرت نُبُوّةَ الرسولِ مُحَمّدٍ (ص) ونُزولَ القرآن بنو النّضير، وبنو قينُقاع، وبنو قُريظة، وقبائلُ يهودية في خيبر، وترجع أصول قبائل أسباط إسرائيل (يعقوب) الاثني عَشر التي استوطنتْ يثرب وما حولها إلى مصادر مُختلفة، بعضُ تلك القبائل جاءتْ من اليَمَن، وبعضها هاجرتْ من (دولة إسرائيل الشمالية) بعد أنْ دَمَّرها الآشوريون، وفرَّقوا أغلبيّةَ سُكّانِها من قبائل أسباط إسرائيل (يعقوب) العشرة، ويُطْلَقُ على هؤلاء (بنو إسرائيل)، وقد ناداهم القرآنُ في كثير من الآيات بـ(يا بني إسرائيل)، وبعضُ تلك القبائل قَصَدَتْ أرضَ الحِجاز بعد رجوعِها من السّبي البابلي، وهؤلاء اليهود العائدون من السَّبْيِ البابلي، وقصدوا أرضَ الحجاز هم من قبيلة يهوذا ولاوي، وهؤلاء قد عَمِلُوا على العَوْدَة الى الدين الذى كان عليه أنبياؤهم (أي دين الاسلام) وإعادة العمل بالشريعة، وأخذوا على أنفُسِهم المواثيق أنْ يتبعوا الشريعةَ وما أمَرَهُم به الله عَزَّ وجل على لسان أنبيائه، وهؤلاء قد ناداهم القرآن بـ(يا أيّها الذين هادوا)، أمّا القبائل التي رجعتْ من السَّبْي البابلي، واسْتَقَرُّوا في أورشليم فكانت بقيادة (عزرا) الذي سمّاه القرآنُ الكريم بـ(العُزَيْر)، وهم قد قاموا ببناء المدينة وإعادة بناء الهيكل، وهؤلاء أطلَقَ عليهم القرآن اسم (اليهود)، وبعدَ أنْ دَمّرَ الرومان بقيادة (تيتوس) أورشليم تدميراً كاملاً عام 70 ميلادية، وقتلوا عدداً كبيراً منهم هاجرتْ جماعةٌ من قبائل يهوذا ولاوي من أورشليم إلى أرض الحجاز، واستوطنوا يثرب وما جاورها، وهؤلاء أطلَقَ عليهم القرآن اسم (اليهود) أيضاً، وأطْلَقَ عليهم في بعض الآيات (الذين هادوا)، واستعمل القرآنُ الكريم لفظ (هُود) في بعض الآيات، وأرادَ بهم اليهود أيضاً، وأطْلَقَ القرآنُ اسمَ (النّصارى) على أتباع المسيح عيسى بن مريم، ولم يُطْلِقْ عليهم اسم (المسيحيين) نِسْبةً إلى المسيح عيسى بن مريم، وبعد الفترة الزّمنيّة التي رَفَعَ اللهُ فيها المسيح عيسى بن مريم إليه حين أرادوا قَتْلَهُ، وبعد عصْر بولص سَمَّى أتباعُ المسيح عيسى بن مريم أنفُسَهم (مسيحيين)، ولم يُسَمّوا أنفُسَهم (نصارى)، والذي أميلُ إليه أنّ القرآنَ استعملَ لفظ (المسيح)، وأتْبَعَهُ بـ(عيسى بن مريم) كاستعمال اللّقب مع اسم الشّخْص، فـ(المسيح) لفظٌ استعمله القرآن من اللغة الأم لشعوب الجزيرة العربية، وهو يعني في اللغة الأمَ : الصِّدّيق الطّاهر، قال أبو بكر (لسان العرب : مَسَح) : (واللغويون لا يعرفون هذا المعنى، قال : ولعلَّ هذا كان في بعض الأزمان فدَرَسَ فيما دَرَسَ من الكلام)، وأميلُ إلى أنَّ لفظ (النصارى) أرادَ بهم القرآنُ الذين اتّبعوا المسيح عيسى بن مريم من اليهود، ونَصَرُوهُ على الذين ظلموهُ وكفروا به من اليهود، وهو اسم مُشتقٌّ من مادة (ن ص ر) التي تعود إلى (اللغة الأم لشعوب الجزيرة العربية)، ومن معانيها : إغاثةُ المظلوم، وإعانتُهُ، وانتصَرَ الرجلُ : امْتَنَعَ من ظالمِهِ، والنّاصِرُ والنّاصِرة : ما جاء من مكان بعيد إلى الوادي فنَصَرَ سَيْلَ الوادي، وكُلُّ مَسيلٍ يضيعُ ماؤهُ فلا يَقعُ في مُجتمع الماء فهو ظالمٌ لمائِهِ، واشتقوا منه (نَصْران) و(نصرانة)، بمعنى : التّابع والمطيع والنّاصر، ويُجمعُ على (نصارى) كما قالوا : نَدْمان ونَدامَى، والأنثى : نَدْمانة، (قال أبو إسحاق (لسان العرب : نصر) : واحِدُ النّصارى نَصْران، مِثل نَدْمان ونَدامى، والأنثى نَصْرانة مثل نَدْمانة، وأنْشَدَ لأبي الأخْزَر الحماني يصفُ ناقتَيْنِ طَأطَأتا رؤوسَهما من الإعياءِ، فَشَبَّهَ رأسَ النّاقة من تَطَأطِئها برأس النّصرانية في صلاتِها :

فكِلْتاهُما خَرَّتْ وأسْجَدَ رَأسُها ***** كما أسْجَدَتْ نَصْرانةٌ لم تَحَنَّفِ

وسجودُها بمعنى الطاعة والانقياد، ويَتَبَيَّنُ لي أنّ القرآن أطْلَقَ اسم (نصارى) على الذين اتّبعوا المسيح عيسى بن مريم، وآمنوا بما جاء به من العقائد والأحكام التي صَحَّحَ بها العقائد والأحكام المُحَرَّفة التي كان عليها اليهود، فهؤلاء سَمّاهم القرآنُ (نصارى)، وصار اسْمُ الدّين الذي أدانوا به النَّصْرانيَّة، وهو ما جاء به المسيح عيسى بن مريم من العقائد والأحكام التي صَحَّحَ بها العقائد والأحكام المُحَرَّفة التي كان عليها اليهود، ولمّا جاء بولص بعد المسيح حرّفَ ما جاءَ به المسيحُ عيسى بنُ مريم من العقائد والأحكام، وسَمّى الذين اتَبعوا بولص أنفسَهم بـ(المسيحيين) تمييزاً لأنفُسِهم عن النصارى، والنّصارى الذين اتّبعوا المسيح عيسى بن مريم، وأمنوا بما جاء به من العقائد والأحكام التي صَحَّحَ بها العقائد والأحكام المُحَرَّفة التي كان عليها اليهود آمنوا بأنّ عيسى بن مريم رسولُ اللهِ وعبدُهُ، وأنَّهُ يُوحَى إليه كسائر الرُّسُل، وليس إلهاً أو ابنَ إلهٍ، ويرفُضُونَ لاهوت المسيح، فالمسيحُ عندَهم رَجُلٌ صالِحٌ ذو مبادئ وتعاليم اي : ( نبي ورسول) ويؤمنون بالمُعجزاتِ التي تَمَّتْ علي يَدَيْهِ (باذن من الله فهو بَشَرٌ لايملِكُ من نفسِهِ شيئا الا باذنِ الله)، ويرفضون تَعَرُّضَ المسيحِ للموت، ويرفضون الصّلْبَ، ويعتقدون بأنّهُ رُفِعَ، بل ويرفضون قضيّةَ الفِداءِ بمُجَمَلِها ، كما أنّهم يُؤمنون أنّ المسيح عيسى بن مريم سيعود آخر الايام ليحكم العالم، ويعتقدون بإنجيلٍ واحدٍ، ويرون الاناجيل المسيحية مُحَرَّفَة، ومن فُروضِهم : الإغتسالُ الدائِمُ بالماء للوضوء والتطهير، ويُشَدِّدونَ على أعمال البِرِّ والإهتمام باليتامى والعناية بالفقراء والمساكين وأبناء السبيل، ويُوصُونَ بإعالةِ المُحتاجين وإطعام الجِياع وإضافةِ الغُرَباء، ويُؤمنون بالخِتان، وإنّهُ شريعةُ إبراهيم، وهم يعتبرون بولص الرّسول مُحَرِّفاً لما جاء به المسيح، واتّهموهُ بأنّهُ مُتَمَرِّدٌ ومارِقٌ عن النّاموس، وأنكروا سلطانه ورفضوا رسائلَهُ، ومن الجدير بالذِّكْرِ أنَّ القرآنَ استعملَ في آيةٍ أو أكثر لفظ (النصارى) لفِرْقَةٍ خَرَجُوا عنهم واعتقدوا أنَّ المسيحَ ابنُ اللهِ، قال تعالى في (سورة التوبة، الآية : 30) : “وقالت النَّصارى المسيحُ ابنُ اللهِ”، ويُسَمّي علماءُ المسلمين اليهودَ والنّصارى أهل الكتاب، وهذا صحيح، أمّا اليهودُ فكتابهم الذي تَضَمّن الشريعة هو التوراةُ، وأمّا النّصارى فكتابُهم الإنجيل والتوراة، وتَضَمَّنَ الإنجيل البشارة والوصايا والمواعظ، وتَضَمَّنَتْ التوراةُ الشريعةَ والوصايا معاً، لأنّ اللهَ تعالى بعثَ المسيح عيسى بن مريم رسولاً إلى بني إسرائيل، وأصل التسمية بـ(الصّابئين) جاء من جذرالكلمة الارامي المندائي (صبا) أي بمعنى (تَعَمَّدَ، اصْطَبَغَ، غَطَّ ،غَطَسَ)، وهي تُطابِقُ أهمَّ شعيرةٍ دينيّةٍ لديهم وهو طَقْسُ (المصبتا – الصباغة – التعميد)، فكلمة (صابِئِيّ) تعني : (المُصْطَبِغ أو المُتَعَمِّدُ)، وهي كلمة من (اللغةِ الأمّ لشعوب الجزيرة العربية)، ولا يُمكن اعتبارها أعجميّة وَقَعَتْ في القرآنِ الكريم، وبذلك يكون معنى (الصابئة) : المصطبغين بنور الحق والتوحيد والإيمان، أمّا ما ذَهَبَ إليه اللغويون بأنّ التّسمية بـ(الصّابئة) جاءتْ من كلمة (صَبَا) بمعنى : تَرَكَ دينَهُ ودانَ بآخر فليس صحيحاً، والصّباغة (مصبتا) تعتبر من أهم أركان الديانة الصابئيّة، واسْمُهُم مُرتَبِطٌ بهذا الطقس، وهو فَرْضٌ عين واجب على الصابئي ويَرْمِزُ للارتباطِ الروحي بين العالم المادّي والرّوحي والتّقَرُّبِ من الله، و(المصبتا) : الصباغـَة في دينِهم، هي طَقْسُ الدُّخولِ من العالم السُّفْلِي إلى العالم العُلْوِي (عالم النور) حيث إن نبيَّ اللهِ يوهانا موصبانا قـَـد صـُبِـِغَ أو اصطبغ وقد انقضى من عُمْرِهِ (ثلاثون يوماً)، وجاء في كتابهم (جنزا ربا) : الكنز العظيم : (باسْمِ الحَيّ العظيم، اصبغوا نفوسَكُم بالصِّبغةِ الحَيّةِ التي أنزلها عليكم ربُّكم من أكوانِ النّور، والتي اصْطَبَغَ بها كُلُّ الكاملينَ المؤمنين، مَنْ وُسِمَ بوَسْمِ الحَيّ، وذَكَرَ اسْمَ مَلِكِ النُّورِ عليه، ثم ثَبَتَ وتَمَسّـكَ بصِبْغَتِهِ وعَمِلَ صالحاً، فلَنْ يُؤخّرَهُ يومَ الحِسابِ مُؤَخـِّـرٌ)، ويَجِبُ أنْ يتمَّ في المياهِ الجاريةِ والحَيّةِ، لأنّهُ يَرْمِزُ للحياةِ والنًّورِ الرَّبّاني، وللإنسانِ حُرّيةُ تكرارِ الصِّباغةِ متى يشاء . وقد اسْتَمَدّ النصارى طَقْسَ الصباغةِ، ويُسَمّونَةُ (التعميد) من الصِّباغةِ الصابئية، و قد حافظ طَقْسُ الصِّباغةِ على أصولِهِ القديمة حيث يعتقد النصارى بأنَّهُ هو نَفْسُهُ الذي نالَهُ عيسى بن مريم (المسيح) عندَ صِباغَتِةِ من قبل يُوهانا الصّابِغ بالدين الصابئي، (يحيى بن زكريا باللغة العربية، ويوحنا المعمدان عند المسيحيين)، ويُؤمن الصابئة بعددٍ من الرّسُل والأنبياء، وهم : آدم، شيت بن آدم (شيتل)، نوح، سام بن نوح، إبراهيم زكريا، يحيى بن زكريا (يهيا يهانا)، وكتابهم الدّيني المُقدس يُسَمّى الكنزا ربا “الكنز العظيم”، ويسمى أيضاً سدرا ربا، ويزعمون أنّهُ أنُزِلَ على أنبيائهم آدم، وشيت بن آدم (شيتل)، ونوح، وسام بن نوح، وإبراهيم، وزكريا، ويحيى بن زكريا، وهم في الحقيقة لا تشملُهم التسمية بـ(أهل الكتاب)، لأنّهُ لا يُعْرَفُ لهم كتابٌ بعينِهِ أُنْزِلَ على رسولٍ بعينِهِ كما هو حالُ المُسلمين واليهود والنّصارى، ويَدُلُّ على ذلك قولُهُ تعالى (المائدة : 69) : “إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا والصّبئون والنّصارى ..” فشارك (الذين آمنوا) و(الذين) هادوا) و(النصارى) في الإعراب بكونِها منصوبة عطفاً على اسم (إنَّ)، وخالف في إعراب (الصّابئين) بقَطْعِها إلى الرَّفْعِ .

التحليل اللغوي :

62 – (إنّ الذين … يحزنون) مُعترضة في سياق ما قبلها وما بعدها للتنبيه، (الذين) موصول اسم (إنّ)، (آمنوا) صلته، والمُراد بـ(الذين آمنوا) بدليل سياق الآية : الذين صَدَّقوا باللهِ إلهاً واحِداً وبمُحَمَّدٍ (ص) رسولاً من اللهِ، وبالقرآنِ نازلاً من اللهِ إليه، (والذين هادوا) عطف على اسم (إنّ) وصلتِهِ، (والنصارى) عطف عطف على اسم (إنّ) وصلتِهِ، (والصابئون) عطفٌ على اسم (إنّ) مقطوع إلى الرفع لإرادة معنى المُغايرة، فتكون المُغايرة في الإعراب للتنبيه إلى أنّهم ليسوا يهوداً ولا نصارى، ولم يُنْزَلْ عليهم كتابٌ بعينِهِ أُنْزِلَ على رسولٍ بعينِهِ، (مَنْ) موصول بَدَل من اسم (إنَّ) وما عُطِف عليه، (آمن بالله) صلة (مَنْ)، (آمَنَ) فعل ماضٍ، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (مَنْ)، (بالله) مُتعلّقان بـ(آمَنَ)، و(آمَنَ باللهِ) هنا بمعنى : صَدَّقَ باللهِ إلهاً واحِداً، وصَدَّقَ برسولِهِ والقُرآنِ الذي أنْزَلَهُ إليه، لأنَّهُ لا يجوزُ أنْ يكونَ لأحدٍ منهم إيمانٌ باللهِ إلّا مع إيمانِهِ برسولِهِ والقرآنِ الذي أنْزَلَهُ إليه، بدليل قولِهِ تعالى في (سورة مُحَمَّد، الآية : 1 – 2) : “الذين كَفَرُوا وصَدُّوا عن سَبِيلِ اللهِ أضَلَّ أعمالَهُم . والذين آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالحاتِ وآمَنُوا بما نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ وهو الحَقُّ مِنْ رَبِّهِم كَفَّرَ عنهم سَيِّئاتِهِم وأصْلَحَ بالَهُم”، (واليوم) عطف على (الله)، (الآخرِ) صفة لـ(اليوم)، (وعَمِلَ صالحاً) عطف على (آمَنَ بالله ..)، (عَمِلَ) فعلٌ ماضٍ، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (مَن)، (صالحاً) مفعول به، وهو في الأصل صفة قامتْ مقامَ مفعول به مُقدّر، والتقدير : (عملاً صالحاً)، و(العملُ الصالِحُ) : النّافِعُ الخالي من الفَسادِ، (فلهم أجرهم ..) خبر (إنّ) واقترنَ بالفاء لما في الموصول من العموم المُشْبِهِ للشرط، (لهم) مُتعلّقان بمُقدّر خبر مُقدّم، (أجرُهم) مُبتدأ مُؤخَّر، و(الأجْرُ) عِوَض العمل، (عندَ) ظرف مكان متعلّق بـ(أجْر)، و(عندَ) مُضاف إلى (ربّهم)، (ولا خوف عليهم) عطف على (فلهم أجرُهم)، وتقدّم القولُ فيها في (الآية : 38)، (ولا هم يحزنون) عطف على ما قبلها، (لا) نافية، (هم) مُبتدأ، (يحزنون) خبر، (يحزنون) مُضارع مرفوع بثبوت النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، و(حَزَنَ) : اغْتَمَّ .