بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ
الٓمٓ ١ ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ ٢ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ٣ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ ٤ أُوْلَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥
المعنى في ضوء التحليل االلغوي :
1 – أقْرَأُ السُّورَةَ بالاسْتِعانَةِ باللهِ المَوْصُوفِ بأنّهُ الرَّحمنُ الذي أتْقَنَ برَحْمَتِهِ خَلْقَ كُلِّ شيءٍ لأداءِ وَظيفَتِهِ التي خَلَقَهُ لأدائِها، المَوْصُوفِ بأنَّهُ الرَّحِيمُ الذي جَعَلَ وَظيفةَ كُلِّ شيءٍ خَلَقَهُ في حُدُودِ قُدْرَتِهِ واسْتِطاعَتِهِ، ألف لام ميم رَمْزٌ لهذِهِ السُّورَةِ باخْتِصاصِها بعُلومٍ ومعارِفَ إلهِيَّةٍ نَزَلَ بها القُرآنُ
2 – ذلك، أي : القرآنُ المُشتمِلُ على العُلومِ والمعارِفِ الإلهِيَّةِ، المُشارُ إليه بالتعظيم لا شَكَّ ولا ظَنَّ واقِعٌ فيه (أي : مَنْفِيٌّ عنهُ جِنْسُ الشَّكِّ والظَّنِّ، ويَدُلُّ نفْيُ وجودِ الشكِّ والظّنِّ على كَوْنِهِ نازِلاً من اللهِ إلى رَسٍولِهِ مُحَمَّدٍ (ص)، لأنَّ الأسْبابَ الباعِثةَ على الشَّكِّ والظَّنِّ مِثْلَ الْتِباسِ عِباراتِهِ، ورَكاكةِ نَظْمِهِ، وهُبُوطِ لُغتِهِ، وتناقُضِ معانِيهِ، وعَدَمِ صلاحِ أحكامِهِ للنّاسِ، وافْتِقارِهِ إلى الحُجَجِ والبراهينِ التي تُؤيّدُ دَعْواه، وافْتِقارِهِ إلى المَعارِفِ والمَفاهيمِ التي تَهْدِي النّاسَ إلى سبيلِ الهُدَى والرَّشادِ مَنْفِيَّةٌ عَنْهُ)، ذلك، أي : القرآنُ المُشتمِلُ على العُلومِ والمعارِفِ الإلهِيَّةِ، المُشارُ إليه بالتعظيم إرشادٌ للمُتَّقِينَ الذين يَخافُونَ رَبَّهم، ويَحْفَظُونَ أنْفُسَهم من عِقابِهِ إلى تَوْحِيدِ اللهِ، وإخْلاصِ العِبادَةِ لَهُ، وتَعْرِيفٌ وبَيانٌ لهم بأحْكامِ دينِهم ووصاياهُ ومعارِفِهِ الإلهِيَّةِ (يستطيعُ المُتَدَبِّرُ آياتِ السُّورَةِ أنْ يسْتَنْتِجَ أنَّ (ألم) تَدُلُّ على أنَّ اللهَ تعالى خَصَّ هذه السُّورَةَ بتعظيمِ القُرآنِ بالإشارةِ إليه بالتَّعْظيمِ، لأنّهُ المَصْدَرُ الرَّئيسُ للأحكامِ والتّشْريعِ والهدايةِ، وخَصَّها ببيانِ الأُسسِ التي يقومُ عليها دينُ اللهِ، وبيانِ حقيقةِ بني إسرائيل الذينَ وَقَفُوا من الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ (ص)، ومن القُرآنِ الذي أنْزَلَهُ اللهُ إليه موقِفَ الجاحِدِ المُشَكّكِ الصّادِّ عن سَبِيلِ اللهِ، وتَذْكِيرِ بني إسرائيل المُعاصرين للرّسولِ مُحَمّدٍ (ص) بما كان عليه أسْلافُهم من أنبيائهم)
3 – الذين يُصَدِّقون بما غابَ عنهم، ولم يُدْرِكُوهُ بحَواسِّهم مِمّا أخْبَرَهُم بِهِ القُرآنُ (مِثل وجودِ الله وملائكتِهِ واليومِ الآخِر، والبعثِ يومَ القيامة للحساب والجزاء، والجَنَّةِ والنّارِ)، ويُؤَدّونَ الصَّلاةَ مُوَفَّىً حقّها، ويُديمونَها في حياتِهم، ويَبْذُلونُ في وُجُوهِ الخَيْرِ، وعلى الفُقراءِ والمَساكِينِ من كُلِّ شيءٍ أعْطَيْناهُم إيَّاهُ لِيَنْتَفِعُوا بِهِ ((الصَّلاةُ) عند العرب : الدُّعاءُ والرّحمَةُ والاستغفار، وكانت العَرَبُ قَبْلَ الإسْلامِ تَعْرِفُ الصّلاةَ بهذا المعنى، وظَلَّتْ العَرَبُ تَعْرِفُ الصَّلاةَ بمعنى الدُّعاءِ والرَّحمةِ والاستغفارِ بَعْدَ الإسْلامِ، وكانَ المُسْلِمُونَ الأوائِلُ في مكّةَ يَعْرِفُونَ الصَّلاةَ بهذا المعنى، ويُؤَدُّونَها بهذا المعنى في أوقاتٍ مُعَيَّنةٍ حتى فَرَضَ اللهُ الصَّلاةَ في زَمَنٍ مُتأخّرٍ بعدَ بعثةِ الرَّسُولِ (ص)، فأدّاها الرسولُ أمامَ المُسلمين بطَرِيقَةٍ مُعيّنةٍ، ثمّ تَناقَلَها المُسْلِمُونَ بهذه الطَّرِيقَةِ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ، ولَفْظَةُ (صلاة) قديمةٌ، وهي من ألفاظِ اللُّغةِ الأمِّ لشعوبِ الجزيرةِ العربيّةِ، وكانت تُلْفَظُ (صَلُوتُو)، و(صالُوتَه)، و(صَلُوتَه) بدليل أنّها تُلْفَظُ كذلك في اللُّغَةِ الآرامِيَّةِ التي هي أحدى اللُّغاتِ المُتَفَرِّعَةِ عن اللُّغَةِ الأمِّ لشُعُوبِ الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ، وهي في اللُّغَةِ العِبْريّة (إحدى لغات شُعُوبِ الجَزِيرَةِ العَرِبِيَّةِ المُتَفَرِّعَةِ عن اللُّغَةِ الآرامِيَّةِ) (صلوتا)، وكانَ العربُ يلفظونها (صَلُوتا)، ولمّا نَزَلَ القُرآنُ على الرَّسولِ مُحَمّدٍ (ص) نَزَلَ بها بلفظ (صَلاة)، وكُتِبَتْ (صلوة) تنبيهاً إلى أصْلِها القديمِ في اللُّغَةِ الأمّ لشعوب الجَزِيرَةِ العَرَبِيّةِ، وليس صحيحاً قَوْلُ القائلِ : إنّ العَرَبَ قَبْلَ الإسْلامِ لم تَكُنْ تَعْرِفَ لَفْظَ (صَلاة)، ولا معناها، لأنَّ بَعْضَ العَرَبِ كانُوا يَأتُونَ إلى البَيْتِ الحَرامِ للصَّلاةِ، ولكنّ صَلاتَهم كانَتْ مُخْتَلِفَةً عن صَلاةِ اليَهودِ والنَّصارَى، فكانوا يُصَلّونَ وهم يَطُوفُونَ حَوْلَ الكَعْبَةِ بالغِناءِ والإنْشادِ على أنغام التَّصْفِيرِ والتَّصْفِيقِ باليَدَيْنِ كما وَصَفَ القُرآنُ صَلاتَهم بقولِهِ (الأنفال : 35) : “وما كانَ صَلاتُهُم عِنْدَ البَيْتِ إلّا مُكاءً وتَصْدِيَةً”)
4 – والذين يُصَدِّقُونَ بالقُرآنِ الذي أُنْزِلَ إليك، ويُصَدِّقون بالكتابِ الذي أُنْزِلَ على الأنبياءِ والرُّسُلِ من قبلِكَ، وهم يُصَدِّقُونَ بالحَياةِ الآخِرَةِ، ويَعْلَمُونَ أنَّها حَقٌّ، وتَصْدِيقَهم بِها ثابِتٌ طِوالَ حياتِهم في الدُّنيا، ويَخُصُّونَها بالاهْتِمامِ في حَياتِهم، لأنَّها هَدَفُهم ومُبْتَغاهُم
5 – أولئك كائِنُونَ على رَشادٍ وسَدادٍ من رَبِّهم، (يدلّ المعنى على أنَّهم يَفْعَلُونَ الصَّوابَ في حياتِهم بتَسْدِيدِ ربِّهِم)، وأولئك هم الفائِزُونَ بالجَنّةِ، النّاجُونَ من النّارِ .
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ ٦ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰٓ أَبۡصَٰرِهِمۡ غِشَٰوَةٞۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ ٧
المعنى في ضوء التحليل اللغوي :
6 – إنَّ الذينَ جَعَلُوا معَ اللهِ شُرَكاءَ في الطّاعةِ والعِبادةِ، ولم يُصدِّقُوا بنُبُوّةِ الرَّسُولِ مُحَمّدٍ، ولم يُصَدِّقوا بأنَّ (القرآنَ) كتابُ اللهِ، أنْزَلَهُ إلى رسولِهِ مُحَمّدٍ إنذارُهم بالتخويفِ من عذابِ اللهِ، وعَدَمُ إنذارِهم سواءٌ، لأنَّهم لا يُصَدّقونَ بنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ وبِما أُنْزِلَ إليه (المُرادُ بهم بقرينةِ كونِ السُّورةِ نَزَلتْ في المدينة المُنَوّرةِ أحبارُ اليهودِ وعلماؤهم الموجودون في المدينةِ زَمَنَ الرسولِ مُحَمَّدٍ)
7 – لأنَّ اللهَ جعَلَهُم لا يَفْهَمُونَ شيئاً مِمَّا يَدْعُوهُم إليهِ رسولُ اللهِ بسَبَبِ إصرارِهِم على الإشراكِ باللهِ غيرَهُ في الطّاعةِ والعِبادةِ، وعَدَمِ تصديقِهِم بنُبُوّةِ الرَّسُولِ مُحَمّدٍ، كأنَّهُ جَعَلَ على مراكز الوَعْي والإدرْاكِ والتّفكيرِ فيهم مانعاً يُشبِهُ الغِطاءَ، مَنَعَ قُدْرَتها على أداءِ وظيفتِها، فعَطَّلها، وجَعَلَهم لا يفهمون ما يَسْمَعُونَهُ من القُرآنِ، ولا يَسْتَجِيبُونَ (يدلّ المعنى على أنّ اللهَ تعالى جَعَلَهم كذلك جزاءً لهم على جُحودِهم نُبوّةَ الرسولِ مُحَمّدٍ، وإنكارِهم أنّ (القرآنَ) كتابُ الله أنْزَلَهُ إليه)، ولأنَّ على قِوى الإدْراكِ والفِطْنَةِ فيهم مانِعاً من تَحْصِيلِهم العِلْمَ الصَّحيحَ بحقائقِ الأشياءِ، والمُقارنةِ والانْتِقالِ من العِلْمِ بالمحْسُوساتِ إلى إدراكِ المعقولات بسَبَبِ إصرارِهِم على الإشراكِ باللهِ غيرَهُ في الطّاعةِ والعِبادةِ، وعَدَمِ تصديقِهِم بنُبُوّةِ الرَّسُولِ مُحَمّدٍ، ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم .
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشعُرُونَ ٩ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ١٠ وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ ١١ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشعُرُونَ ١٢ وَإِذَا قِيلَ لَهُم ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُۗ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَٰكِن لَّا يَعۡلَمُونَ ١٣ وَإِذَا لَقُوا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمۡ قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ ١٤ ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ ١٥ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ ١٦ مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ ٧١ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ ١٨ أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ ١٩ يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٢٠
8 – ومن النّاسِ الذين يقولون : صَدَّقْنا بوحدانيّةِ اللهِ ورسولِهِ والقرآنِ الذي أنزلَهُ على رسولِهِ، وصَدَّقْنا باليومِ الآخِرِ، وحالُهم حين يقولون ذلك أنَّهم ليسوا بمُصَدّقين – 9 – وحالُهم حينَ يَقُولُونَ ذلك أنَّهم يُظْهِرونَ لرسولِ اللهِ وللذين صَدّقوا به وبالقرآنِ خلافَ ما يُخْفونَهُ في أنفُسِهم (أي : يُظهِرونَ لرسولِ الله وللذين صَدّقوا به وبالقرآنِ الإسلامَ ويُبْطِنُونَ الكُفْرَ، وهُم بهذا الفِعْلِ يُخْفُونَ عن اللهِ ما يَكْتُمونَهُ ويَسْتُرُونَهُ في أنْفُسِهِم)، وحالُهُم بفِعْلِهِم هذا أنَّهم ما يَجْعلونَ عاقِبَةَ خِداعِهِم إلّا بأنْفُسِهِم (أي : أنَّ خِداعَهم لا يَرْجَعُ إلّا على أنْفُسِهِم بالعَذابِ والخِزْي)، وحالُهُمُ أنّهم ما يعلمونَ أنَّ خِداعَهُم يَرجعُ عليهم بالعذابِ والخِزْي
10 – في مراكزِ وَعْيِهِم وإدراكِهِم وتفكيرِهِم نِفاقٌ يُشْبِهُ المَرَضَ، (أي : داءٌ أفْسَدَ مراكزَ الوَعْي والإدراكِ والتفكيرِ فيهم، فصاروا في حالةٍ مَرَضِيَّةٍ هي حالةُ النفاق)، فزادَهُم اللهُ نِفاقاً بِسَبَبِ ما أنْزَلَ في المُنافقين من آياتِ القرآنِ (أي : تَسَبَّبَتْ آياتُ القُرآنِ التي أنْزَلَها اللهُ في المُنافقين بجَعْلِهِم مُصِرِّين على النفاقُ حتى صارَ النِّفاقُ حالةً مَرَضِيّةً في نفوسِهم لا يَنْفَكّونَ عنها)، ولهم في الآخرةِ عذابٌ مُؤْلِمٌ بسَبَبِ كونِهم يُخْبِرونَ عن أنُفسِهم بخلافِ ما هي عليه في الواقِعِ
11 – وإذا قيل لهم : لا تَفْعَلُوا ما يُؤدّي إلى التّلَفِ والعَطَبِ والاضْطِرابِ والخَلَلِ في أرْضِ المدينة، قالوا : إنّما نحن نَفْعَلُ ما هو صالِحٌ نافِعٌ للمُجْتَمَعِ، وما نَعْمَلُ إلّا ما هو صالحٌ نافعٌ للمُجتْمَعِ
12 – انْتَبِهُوا – أيُّها المُؤمنون – ليس صَحيحاً ما قالُوهُ، إنَّهم هم المُفْسِدُونَ على وَجْهِ الخُصوصِ في المدينة بفِعْلِهم ما يُؤدّي إلى التّلَفِ والعَطَبِ والاضْطِرابِ والخَلَلِ في المُجْتَمَعِ، ولكن لا يَعْلَمُونَ أنّهم مُفْسِدون، لأنّ إدْراكَهم الذي يُميِّزُ بينِ الإصلاحِ والفَسادِ قد عَطّلوهُ بسَبَبِ نِفاقِهم
13 – وإذا قيل لهم : صَدِّقُوا بنُبُوَّةِ مُحمّدٍ وبالقرآنِ الذي أنْزَلَهُ اللهُ إليه تصديقاً مِثْلَ تصديقِ النّاسِ بهِ وبما أُنْزِلَ إليه قالُوا بلَهْجَةِ الاسْتِنكارِ : أنُصَدِّقُ بِهِ وبما أُنْزِلَ إليه تَصْديقاً مِثْلَ تَصْدِيقِ الجُهَلاءِ ناقِصِي العُقُولِ، ضَعِيفِي الرَّأي ؟ لا يكونُ منّا ذلك، انْتَبِهُوا – أيّها المُؤمنون – إنّهم هم الجُهَلاءُ ناقِصُو العُقُولِ، ضَعِيفُو الرّأي على وَجْهِ الخُصوص ، ولكنْ لا يَعْلَمُونَ أنَّ ما يَفْعَلُونَهُ من النِّفاقِ هو الجَهْلُ بعينِهِ
14 – وإذا صادَفُوا الذين صَدّقوا بنُبُوَّةِ مُحمّدٍ وبالقرآنِ الذي أنْزَلَهُ اللهُ إليه قالوا : صَدّقْنا تَصْديقاً مِثْلَ تصديقِكم بنُبُوَّةِ مُحمّدٍ وبالقرآنِ الذي أنْزَلَهُ اللهُ إليه، وإذا انْفَرَدُوا بأوليائِهم مِنْ رُؤساءِ الضَّلالَةِ الذين يُشْبِهُونَ الشّياطينَ في إضلالِ النّاسِ قالوا : نُؤَكِّدُ لكم أنّا كائِنونَ مَعَكُم على إنكارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ والقُرآنِ، يُؤكّدُ ذلك أنَّا مُسْتَهْزِئُونَ بالذين صَدّقوا بنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ وبالقُرآنِ، مُسْتَخِفُّونَ بهم حين نقولُ لهم : صَدّقْنا بنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ وبالقُرآنِ، وليس عِنْدَنا شُغْلٌ إلّا الاسْتِهْزِاءُ والسُّخْرِيَةُ بهم، (يَدُلُّ المعنى والسّياقُ على أنَّ المُرادَ بـ(شياطينهم) : رُؤساءُ الضَّلالَةِ من عُلماءِ اليهودِ وأحبارِهم ورؤسائِهم، ويَدُلُّ تخصيصُ هذه الطّائفةِ من النّاس بكلامٍ طويلٍ على أنَّ اللهَ أرادَ أنْ يُمَيِّزَهم للمُؤمنين ليُشَخِّصُوهُم بصفاتِهم، وعلى أنَّ اللهَ أرادَ أنْ يُعْلِمَ المُؤمنينَ أنَّ هذه الطائفةَ هي أخْطَرُ النّاسِ على الإسلامِ والمُسلمينِ، وأنّ خُطُورتَها تَكْمُنُ في أنّ لها صِلاتٍ باليهودِ الذين مَعَهُم في المدينة)
15 – اللهُ بعَظَمَتِهِ وقُدرَتِهِ يُدَبِّرُ أمْراً لَهم يُخْفِيهِ عَنْهُم، ليُعاقِبَهم به كما يُخْفُونَ أمْرَ اسْتِهزائِهم بالمُؤمنين، وتَدْبيرُ اللهِ لهم ذلك الأمْرَ حادثٌ ومُتجَدِّدٌ بتَجَدُّدِ حُصُولِ الاسْتِهزاءِ منهم بالمُؤمنين، واللهُ يزيدُهم في تجاوزِهم الحَدَّ في نِفاقِهم نِفاقاً حالةَ كونِهم يَتَحَيَّرُونَ ويَتَرَدَّدون في حياتهم، لا يَهْتَدُون إلى الرُّشْدِ، ولا يَدْرُونَ أينَ يَكُونُونَ
16– أولئك الذين أخَذُوا الباطِلَ (الذي هو الكُفْرَ والإشراكَ باللهِ، والعُدولَ عن التَّصْديقِ بنُبُوَّةِ رسولِهِ مُحَمّدٍ، وبما أُنْزِلَ إليه) بَدَلَ الهُدَى (الذي هو الإيمانُ بوَحْدانيّةِ اللهِ، والتَّصديقُ بنُبُوَّةِ رسولِهِ مُحَمّدٍ، وبما أُنْزِلَ إليه) بثَمَنٍ هو مَنافِعُ الدُّنيا، وحِفاظُهُم على مصالحِهم ومنافعِهم الدنيويّة، فما كَسَبتْ حِرْفَتُهم في النِّفاق (أي : وَسيلَتُهم لكَسْبِ منافِعِ الدُّنيا)، وما وُجِدوا في فِعْلِهِم هذا حالةَ كونِهم مُهْتدين إلى شيءٍ من المَكْسَبِ في الدُّنيا والآخِرَةِ في حِرْفَةِ النِّفاقِ التي اشْتَغلوا فيها، فخَسِرُوا الدُّنيا والآخرةَ، فحالُهم في حِرْفَةِ النِّفاقِ كحالِ تاجرٍ أخَذَ بضاعةً رديئةً بثَمَنٍ غالٍ، فما كَسَبَ شيئاً من المَكْسَبِ في تِجارَتِهِ، فخَسِرَ البِضاعةَ وثَمَنَها
17 – شَبَهُهُم في نِفاقِهم على وَجْهِ توكيدِ المُطابَقَة شَبَهُ الذي قَصَدَ إلى أنْ يُوقِدَ ناراً في ليلةٍ مُظْلِمَةٍ، ليَنْتَفِعَ بها هو والذين مَعَهُ في إضاءَةِ المكان الذي كانَ حولَهُم، لرُؤيةِ ما يقرُبُ منه، والحصولِ على الدِّفْءِ بحرارتِها، فأوْقَدَها، فلمّا أضاءتْ النّارُ المكانَ الذي كانَ حولَهُ، وانْتَفَعَ بها هو والذين مَعَهُ في إضاءةِ المكانِ الذي كان حولهم، لرُؤيةِ ما يقرُبُ مِنْهُم، وحُصُولِهم على الدِّفْءِ بحرارتِها أطْفَأَها اللهُ وأزالَ النُّورَ الذي حَصَلُوا عليه من ضوئها كامِلاً، فلم يَبْقَ لهم مَطْمَعٌ في أيِّ نورٍ، وصَيَّرَهم في ظلامٍ شديدٍ حالةَ كونِهم لا يُبصرون شيئاً ممّا حولهم، (المعنى على التشبيه التمثيلي، أي : شَبَهُ المنافقين شَبَهُ موقِدِ النّارِ المذكورِ في الآية، فهم قَصَدوا إلى أنْ يَدْخُلوا في الاسلام للانتفاعِ به في عِصْمَةِ أنْفُسِهم وأموالِهم وأعراضِهم، والحُصُولِ على المنافِع الدُّنْيَوِيّةِ التي يَحصلُ عليها المُؤمنونَ الذين دَخَلُوا في الإسلام، فدَخَلُوا في الإسلام، وأخْفَوا كُفْرَهم باللهِ ورسولِهِ والقرآنِ الذي أنْزَلَهُ إليه، فلمّا انْتَفَعُوا بدُخُولِهم في الإسلامِ، وأصَرّوا على إخفاءِ كُفْرِهم أزالَ اللهُ عن قلوبِهم الإيمانَ كاملاً، بسَلْبِهِ من مراكزِ الوَعْي والإدراكِ والتفكيرِ فيهم، فلم يَبْقَ لهم مَطْمَعٌ في أنْ يَصِيروا مُؤمنين، وصَيّرَهم في ضلالٍ وحَيْرَةٍ شديدتَيْنِ حالةَ كونِهم لا يُدْرِكون ببصيرَتِهم سبيلَ النّجاةِ فيَهْتدون إليه، ويَدُلُّ المعنى على أنَّ اللهَ أزالَ عن قلوبِ المُنافقين الإيمانَ كامِلاً جزاءً لهم على إخفائِهم الكُفْرَ بوحدانيّةِ اللهِ ورسولِهِ والقرآنِ الذي أنْزَلَهُ إليه وإظهارِهم التصديقَ بذلك)
18 – هم كالصُّمِّ، لأنَّهم لا يَسْمَعُونَ قولَ الحَقّ، وكالبُكْم لأنَّهم لا يَنْطِقُونَ بالحَقّ، وكالعُمْي لأنَّهم لا يُبْصِرُونَ طريقَ الحَقّ، فهم بسَبَبِ ذلك لا يَنْصَرِفون عن النّفاقِ (أي : هم مُقيمون على النِّفاق طولَ حياتهم)
19 – أو شَبَهُهُم شَبَهُ مُصاحبين لمَطَرٍ نازِلٍ من السّحابِ الذي يكونُ في إحدى طَبَقات الغلافِ الجَوّي للأرض، فيه ظَلامٌ شديداٌ ورَعْدٌ وبَرْقٌ، وحالُهُم أنَّهم يَضَعُونَ أصابِعَهم داخِلَ آذانِهم بسَبَبِ الصّواعِقِ المُصاحِبةِ للرَّعْدِ والبَرْقِ خوفاً من الموتِ (المعنى على التشبيه التمثيلي أي : شَبَّهَ المنافقينَ بأصحابِ مَطَرٍ، وشَبَّهَ القرآنَ النازِلَ من اللهِ تعالى بمَطَرٍ نازلٍ من السّحاب، لأنَّ القرآنَ نافِعٌ كالمَطَر لاشتمالِهِ على ما ينفعُ الناسِ في الحياةِ الدّنيا والآخرة من الهِدايةِ إلى توحيدِ الله، وإخلاصِ العِبادةِ له، ومن الأحكامِ والوصايا والمعارفِ الإلهيةِ، وشَبَّهَ اشتمالَ القرآنِ على التخويفِ والتحذيرِ والترغيبِ باشتمالِ المَطَرِ على ظُلُماتٍ ورَعْدٍ وبَرْقٍ، وشَبَّهَ خوفَ المُنافقين من أنْ يكشِفَهم القرآنُ للرّسول والمُؤمنين، ويكشفُ صِلاتِهم برُؤساءِ الضَّلالَةِ من اليهود، ويكشِفُ مكْرَهم وتَدبيرَهم السَّيّيء بالمُؤمنين بخوفِ المُصاحبين لمَطَرٍ مُشْتَمِلٍ على ظلامٍ شديد، وعلى رَعْدٍ وبَرْقٍ، فهم خائفونَ وجِلون من أنْ يُصيبَهم أمْرٌ مكروهٌ، أو تصيبُهم صاعقةٌ، وشَبَّهَ حالُ المُنافقين في عدمِ سماعِهِم القرآنَ حينَ يُتْلَى عليهم خوفاً من أنْ تَنْزِلَ فيهم آيةٌ تكشفُ حقيقتَهم للرسولِ والمؤمنين بحال المُصاحبين للمَطَرِ المُشتملِ على رَعْدٍ وبَرْقٍ في وَضْعِهم أصابِعَهم داخِلَ آذانِهم بسَبَبِ الصَّواعِقِ المُصاحِبةِ للرّعْدِ والبرقِ خوفاً من الموتِ)، واللهُ مُدْرِكٌ الجاحدينَ نُبُوّةَ رسولِهِ مُحَمّدٍ، والجاحدينَ إنْزالَ اللهِ القرآنَ إليه من جميع حالاتِهم وأفعالِهم، لا يفوتُهُ شيءٌ من أحوالِهم وأفعالِهم
20 – وشَبَهُهُم في خوفِهِم من أنْ يكشِفَهم القرآنُ للرّسولِ والمُؤمنينَ، ويَكْشِفُ صِلاتَهم برُؤساءِ الضَّلالَةِ من اليهود، ويكشِفُ مَكْرَهم وتَدبيرَهم السَّيّيء بالمُؤمنين فيقْتُلُهُم المُؤمنون شَبَهُ المُصاحبينَ للمَطَرِ الذي فيه ظَلامٌ شديدٌ ورعْدٌ وبَرْقٌ حالةَ كونِهم يَقْرُبُ البَرْقُ أنْ يستَلِبَ قُوَّةَ أبْصارِهم لشِدَّتِهِ وقوَّتِهِ، ويَسْتَلِبَ قوَّةَ إدراكِهم بسببِ خوفِهم من أنْ تَنْزِلَ عليهم الصواعقُ المُصاحبةُ للبَرْقِ، وحالُهم حينَ يَلْمَعُ البَرْقُ في السّحابِ أنّهم كُلَّ وَقْتٍ يُنيرُ البَرْقُ طريقَهم وَسْطَ الظَّلامِ يَمْشُونَ فيه، وإذا ذَهَبَ عنهم ضوءُ البَرْقِ، وعادَ الظَّلامُ ثَبَتوا في مكانِهم مُتَحَيِّرين (شَبَّهَ اللهُ القرآنَ في كونِهِ كاشِفاً ما يُخفونَهُ في أنْفُسِهم بالبَرْقِ الكاشِفِ ما يُخْفِيهِ الظَّلامُ من الأشياء، وشَبَّهَ حالَهُم حين يُتْلَى عليهم القرآنُ بحالِ المُصاحبينَ للمَطَرِ الذي فيه ظَلامٌ شديدٌ ورعْدٌ وبَرْقٌ في كونِ القرآنِ يَقْرُبُ أنْ يَسْتَلِبَ عقولَهم بسَبَبِ خَوْفِهم من انْ يكشِفَ حقيقتَهم للرَّسولِ والمُؤمنين ويَفْضَحَهم، ويَقْرُبُ أنْ يَسْتَلِبَ إدراكَهم لأنّهم يَتَوَقَّعونَ أنْ تَنْزِلَ فيهم آيةٌ أو آياتٌ تكشِفُ للرَّسولِ والمُؤمنينَ حقيقَتَهم، وتكشفُ صِلاتَهم برُؤساءِ الضلا لةِ من اليهود، وحالُهُم في كونِهِم كُلَّ وَقْتٍ نَزَلَتْ فيه آياتٌ من القُرآنِ فيها ذِكْرٌ للغنائِمِ، وتقسيمِها بين المُؤمنين، وفيها وَعْدٌ من اللهِ بحصولِ المُؤمنينَ عليها مَشَوا للحصولِ على حِصَّتِهم منها مع المُؤمنين، وفي كونِهِم إذا ذَكَرَ القرأنُ نِفاقَهم، وحَرَمَهم من المنافِعِ المادِيَّةِ التي حصَلَ عليها المُؤمنون بسَبَبِ تَخَلُّفِهم عن الرَّسولِ والمُؤمنين في قتالِ المُشركين ثَبَتُوا في بُيوتِهم مُتحيّرين مِثْلُ حالِ المُصاحبينَ للمَطَرِ الذي فيه ظَلامٌ شديدٌ ورعْدٌ وبَرْقٌ في كونِهم كُلَّ وَقْتٍ يَلْمَعُ البَرْقُ في السَّحابِ ويُنيرُ طريقَهم وَسْطَ الظَّلامِ يَمْشُونَ فيه، وفي كونِهم إذا ذَهَبَ عنهم ضوءُ البَرْقِ، وعادَ الظَّلامُ ثَبَتوا في مكانِهم مُتَحَيِّرين) ولو شاءَ اللهُ أنْ يُزيلَ عنهم مراكزَ الفَهْمِ والاستجابةِ لِما يسمعونَهُ، ويأخُذَها كاملةً منهم، وأنْ يُزيلَ عنهم قُوَّةَ الفَهْمِ والإدْراكِ والفِطْنةِ، ويأخذَها كاملةً منهم عقوبةً لهم على نفاقِهم لأزالَها، لأنّ الله قديرٌ على كلّ شيء (يَدُلُّ المعنى على أنَّ اللهَ تعالى تَرَكَهم إلى ما اختارُوهُ من النِّفاقِ، ليكونَ حسابُهم يومَ القيامةِ على ما اختاروهُ بإرادتِهم) .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ٢١ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٢٢ وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٢٣ فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ ٢٤
المعنى في ضوء التحليل االلغوي :
21 – يا أيُّها المُنافقونَ واليهودُ الموجودونَ في المدينةِ زَمَنَ الرسولِ مُحَمّدٍ، اخْضَعُوا لسيّدِكم ووَلِيّكم، ومالكِ أمْرِكم، والقيِّمِ عليكم، ومُدبّرِ شؤونِكم، والمُنْعِمِ عليكم بأصناف النِّعَم، ومُتَعَهّدِكم بالتَّربيةِ والرِّعايةِ والإصْلاحِ، الذي صَنَعَكم وأبْدَعَكم وقَدَّرَ صُنْعَكم على ما يُريدُ، وصَنَعَ الذين كانُوا من قَبْلِكُم، وأبْدَعَهم وقَدَّرَ صُنْعَهم على ما يُريدُ بأنْ تستجيبوا له فيما أمَرَكم به من الإيمانِ برسولِهِ محمدٍ، وبالكتابِ الذي أنْزَلَهُ إليه، لكي تَحْفَظُوا أنْفُسَكم من عذابِهِ، وهذا هو المطلوبُ منكم، وهو ما تَرْجُونَهُ
22 – هو الذي صَيَّرَ لأجلِكم الأرضَ مُنْبَسِطةً صالِحةً للعيشِ والاسْتِقْرارِ عليها، والتّصَرُّفِ بها، وصَيّرَ السماءَ (أي : طَبَقاتِ الغلاف الجوي للأرض) سَقْفاً مرفوعاً مُحْكَماً (يَدُلّ االمعنى على أنّهُ تعالى جَعَلَ طَبَقاتِ الغلاف الجوي للأرض سَقْفاً لأجْلِ الحِفاظِ عليهم من النيازِكِ والشُّهُبِ والأشِعَّةِ الضَّارّةِ)، وأنْزَلَ من السّحابِ ماءَ المَطَر، فأنْبَتَ بِهِ رِزْقاً لكم حالةَ كونِهِ من الثَّمراتِ، فإذا كانَ اللهُ كذلك فلا تُنْشِئوا للهِ أشباهاً ونُظَراءَ في الطاعةِ والانقيادِ حالةَ كونِكم تَعْلَمُونَ أنَّهُم ليسوا أشباهاً ونُظراءَ لله (يَدُلُّ السِّياقُ والمعنى على انَّ المُنافقينِ واليهودَ أنْشَؤا للهِ أشباهاً ونُظَراءَ في الطّاعةِ والانقيادِ، وهم عُلماءُ اليهودِ وأحبارُهم)
23 – وإنْ كُنْتُم (الخِطابُ للمُنافقين واليهود) في شكٍّ من القرآنِ الذي أنزلناهُ على عبدِنا مُحَمّدٍ، وتَتَّهِمُونَهُ بأنّهُ ليس نازلاً من عِنْدِنا إليه، وبأنّهُ من اخْتِلاقِ مُحَمّدٍ، فائْتُوا بسُورَةٍ كائنةٍ من مِثْلِ سُوَرِ القرآنِ في حُسْن اِلنَّظْمِ والفصاحةِ والإخبارِ عن الأمم الماضية، والإخبارِ عن المُسْتَقْبَلِ، وفي الأحكامِ والتّشريعاتِ والحِكَمِ والأمثالِ (يدلُّ قولُهُ (على عبْدنا) على أنَّ اللهَ تعالى شَرَّفَ رسولَهُ مُحَمّداً بصفةِ العبوديّةِ لَهُ، وفي هذا تعريضٌ بمَنْ يقول : عُزَيرُ ابنُ الله، وبمَنْ يقول : المسيحُ ابنُ الله، ويَدُلُّ تنكير (سورة) ووَصْفها بـ(من مثله) على تَحَدّيهم أنْ يأتوا بأيِّ سُورَةٍ، سواءٌ أكانتْ طويلةً أم قصيرةً)، وإنْ كُنْتُمْ صادقينَ في ادّعائِكم أنّ مُحَمّداً اخْتَلَقَهُ من نفسِهِ فادْعُوا من دونِ اللهِ الذين يُؤدّونَ الشَّهادَةَ على أنَّ القُرآنَ من اختلاقِ مُحمدٍ (وهم أحبارُ اليهود وعُلماؤهم الذين يَخضَعُونَ لهم، ويُطيعونَهم كطاعةِ اللهِ)، ليُعِينُوكُم على الإتيانِ بسورةٍ من مِثْلِ القرآنِ
24 – فإنْ لم تأتُوا بسورةٍ كائنةٍ من مِثْلِ سُوَرِ القرآنِ مع اسْتِعانَتِكُم بهم – وأُؤكِّدُ أنّكم لن تأتوا بسُورَةٍ كائنةٍ من مِثْلِ سُوَرِ القُرآنِ على طولِ الأزمنةِ وامتدادِ الأمكنةِ – فخافُوا النّارَ التي وَقُودُها النّاسُ والحِجارةُ حالةَ كونِها قد أعَدَّها اللهُ للجاحدينَ وحْدانيَّتَهُ وربوبيّتَهُ، ونبوّةَ رسولِهِ مُحَمّدٍ، والقرآنَ الذي أنْزَلَهُ إليه، واحفظوا أنفسَكم من عذابها .
وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ وَلَهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَهُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٥
المعنى في ضوء التحليل االلغوي :
25 – وأخْبِرْ الذين آمَنُوا بوحدانيّةِ اللهِ، وصَدَّقُوا بنُبُوّةِ رسولِهِ مُحَمَّدٍ وبالقرآنِ الذي أنْزَلَهُ اللهُ إليه من الرِّجالِ والنِّساءِ، وفَعَلُوا الأعمالَ النّافِعَةَ المُناسبةَ للناس بعدَ إيمانِهم خَبَراً سارَّاً بأنَّ لهم في الحياةِ الآخرةِ جنّاتٍ تَجْرِي من تَحْتِها الأنهارُ، وحالُهُم فيها أنَّهُم كُلَّ وَقْتٍ يُعْطِيهم اللهُ طعاماً من أشجارِها، أي : من ثِمارِها قالوا : هذا الذي رَزَقَنا اللهُ به في الحياةِ الدُّنيا من قَبْلِ انْتِقالِنا إلى الحياةِ الآخرةِ، وجاءَ الخَدَمُ بالطعامِ من ثِمارِ الجنّةِ حالةَ كونِهِ يُشْبِهُ بعضُهُ بعضاً في اللّونِ والشّكلِ والحَجْمِ حتى يلتبسَ بعضُهُ ببعض، ولكنَّهُ يَخْتَلِفُ في الطَّعْمِ، ولهُم (أي : للرجالِ وللنِّساءِ) أزواجٌ مُطهّرةٌ (أي : مُطَهّرة من الأقذارِ وسُوءِ الأخلاقِ والطِّباعِ، والمعنى)، وهم (أي : الرجالُ الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ وزوجاتُهم، والنساءُ اللاتي آمَنَّ وعَمِلْنَ الصالحاتِ وأزواجُهُنّ) مُقيمونَ فيها إقامةً دائمةً، لا يُخْرِجُهم منها أحَدٌ، ولا يُصيبُهم فيها زوالٌ ولا فناءٌ .
۞إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا بَعُوضَةٗ فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ ٢٦
المعنى في ضوء التحليل االلغوي :
26 – إنّ اللهَ لا يَسْتَحِي (أي : لا يخْجَلُ) من أنْ يَذْكُرَ في القرآنِ مثلاً، أيَّ مَثَلٍ يُمَثِّلُ به لبيانِ معنى يُريدُهُ، أي : لا يَسْتَحِي من أنْ يَذْكُرَ بعوضةً يَجْعَلُها مَثَلاً، فشيئاً أكبرَ منها يَجْعَلُهُ مَثَلاً، فأمَّا الذين آمنوا بأنَّ القُرآنَ مُنْزَلٌ من اللهِ إلى رسولِهِ مُحَمّدٍ فيَعْلَمُونَ أنّ المَثَلَ الذي يَضْرِبُهُ اللهُ لبيانِ معنى يُريدُهُ هو الحَقُّ حالةَ كونِهِ نازلاً من رَبِّهم مُطابِقاً للحِكْمَةِ من وراءِ ضَرْبِهِ، وأمّا الذين جَحَدوا القرآنَ (المُرادُ بهم أحبارُ اليهودِ وعُلماؤهم)، وأنْكَروا أنَّهُ مُنْزَلٌ من اللهِ إلى رسولِهِ مُحَمّدٍ فيقولون مُشَكِّكينَ في صُدُورِهِ من الله : أيُّ شيءٍ أرادَهُ اللهُ بهذا المَثَل في التَّمْثِيلِ به ؟ قُلْ جواباً لهم : يجْعَلُ اللهُ بالمَثَلِ الذي يذكُرُهُ كثيراً من النّاس يَزِلّونَ عن الحِكْمَةِ من وراءِ ذِكْرِهِ، (وهم الجاحدون بالقُرآنِ، المُشَكّكون به)، ويَجْعَلُهُم مُتَحَيّرين مُتَرَدِّدين فيه، جزاءً لهم على جُحُودِهم وتشكيكِهم بالقُرآنِ، فلا يَقْدِرونَ على مَعْرِفَةِ الموعِظَةِ والحِكْمةِ من وراءِ المَثَل، ويَجْعَلُ اللهُ بِهِ كثيراً من النّاسِ مُهْتَدِينَ إلى الحِكْمَةِ من وراءِ ذِكْرِهِ، (وهم المُؤمنون بأنَّهُ مُنْزَلٌ من اللهِ إلى رسولِهِ مُحَمّدٍ)، جزاءً لهم على إيمانِهم، وواقعُ الحال أنّ اللهَ ما يجْعَلُ أحداً يَزِلُّ بالمَثَلِ الذي يَذْكُرُهُ في القُرآنِ عن الحِكْمَةِ من وراءِ ذِكْرِهِ إلاّ الخارجين عن طاعةِ أمْرِهِ بالإيمانِ بنُبُوَّةِ مُحَمّدٍ، وبالقرانِ الذي أُنْزِلَ إليه (يدلّ المعنى على أنّ كُلَّ شيءٍ في القُرآنِ بما في ذلك ذِكْرُ الأمثالِ يُبيّنُ شيئاً من الأشياءِ التي يحتاجُها الإنسانُ في حياتِهِ، فالمُؤمنُ بأنَّ القرآنَ كتابُ اللهِ الذي أنزلَهُ إلى رسولِهِ مُحَمّدٍ (ص)، وجَعَلَهُ تبياناً لكلِّ شيء يَهْدِيهِ اللهُ إلى أخْذِ مَوْعِظةٍ أو حِكْمَةٍ أو حُكْماً أو تشريعاً أو معرِفَةً من المعارِفِ الإلهيّةِ من أمثالِ القرآنِ وقَصَصِهِ وآياتِهِ، والذي لا يُؤْمِنُ بأنَّ القرآنَ كتابُ اللهِ الذي أنزلَهُ إلى رسولِهِ مُحَمّدٍ (ص) لا يهديه الله إلى أخْذِ مَوْعِظةٍ أو حِكْمَةٍ أو حُكمٍ أو تشريعٍ أو معرفةٍ من المعارف الإلهيّة من أمثالِ القرآنِ وقَصَصِهِ) .
ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِۦ وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ٢٧ كَيۡفَ تَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمۡ أَمۡوَٰتٗا فَأَحۡيَٰكُمۡۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ٢٨ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ ٢٩
المعنى في ضوء التحليل االلغوي :
27 – الذين يَنكُثُونَ عَهْدَ اللهِ الذي أخَذَهُ عليهم، ويَكْتُمُونَهُ، ولا يُبَيِّنُونَهُ من بَعْدِ إحكامِ اللهِ عَهْدَه عليهم (هم أحبارُ اليهود وعُلماؤهم الذين أخَذَ اللهُ عليهم العهدَ بواسطةِ أنبيائِهم بأنْ يُؤمنوا بخاتَمِ الرُّسُلِ مُحَمّدٍ، وبالكتابِ الذي يُنْزَلُ إليه، ويدُلُّ معنى : (من بعدِ ميثاقه) على أنّ اللهَ أقْسَمَ عليهم : لَتُظْهِرُنَّ نُبوّةَ مُحَمَّدٍ للنَّاسِ، ولَتُبَشِّرُنَّ به، ولَتُؤمِنُنَّ به حينَ يُبعَثُ إلى النّاسِ، ولا تُخْفُونَ هذا الأمْرَ عن النّاسِ، فكَتَمُوهُ من بعدِ إحكامِ اللهِ العَهْدَ عليهم، وإقْرارِهم به)، ويَمْنَعُونَ عن عامّةِ الناس الذي أمَرَ اللهُ بِهِ، أي : يَمْنَعُونَ إبلاغَهُ إليهم (وهو العَهْدُ الذي أخَذَهُ اللهُ عليهم بأنْ يُؤمنوا بخاتم الرُّسُلِ مُحَمّدٍ، وبالكتاب الذي يُنْزَلُ إليه)، ويتَسَبَّبون في الاضْطرابِ والخَلَلِ وعدم الاستقرار في الأرض (بإثارةِ الفِتَنِ والحُروبِ بين سُكّانِ أرض المدينة، وبالإخلال بنظام المجتمع في المدينة) أولئك هم الذين أهْلَكُوا أنفسهم بتَعْرِيضِها لعقابِ اللهِ
28 – على أيِّ حالٍ تَجْحَدون وتُنْكِرونَ قُدْرَةَ اللهِ على إرْسالِ مُحَمَّدٍ رسولاً للنّاسِ، مع عِلْمِكم أنّهُ قد أرْسَلَ رُسُلاً إليكم قَبْلَهُ، وحالُكم أنّكم قد كنتم قبل خَلْقِكم أشياءَ لا حياةَ فيها (يَدُلُّ المعنى على أنّ المُرادَ بـ(أمواتاً) عناصِرُ لا حياةَ فيها مِثْلُ العناصرِ الموجودة في تُرابِ الأرضِ) ثُمّ جَعَلَكم أحياءً (يدلّ معنى (جعلكم أحياءً) على أنّ اللهَ تعالى خَلَقَ أصْلَهُم الذي جاؤوا منه، (وهو آدمُ وزوجُهُ) من تُرابِ الأرض، ثُمّ جَعَلَهُما بَشَرَيْنِ حَيَّيْنِ بِبَعْثِ الحياة فيها، ثُمّ خَلَقَهُم من ذَكَرٍ وأُنثى باختلاطِ منيِّ الذّكَرِ ببُويضةِ الأُنثى، وتكوينِ البُويضةِ المُلَقّحَةِ، ثمّ صَيَّرهم أجنّةً أحياءً في أرحامِ أُمّهاتِهم، ثمّ أخْرَجَهم من بُطونِ أُمّهاتِهم ذكَراً وأنثى)، ثم يُميتُكم بعد انقضاءِ آجالكم في الدُّنيا، ثم يُحْيِيكُم يومَ القيامَةِ بعدَ موتِكُم، ثمّ يُرْجِعُكُم إليه للحسابِ والجزاءِ ؟ (يَدُلُّ المعنى على أنّ القادرَ على ذلك قادرٌ على إرسالِ مُحَمّدٍ رسولاً إلى النّاس، فلماذا تَجْحَدُون قُدرةَ اللهِ على ذلك ؟)
29 – هو الذي صَنَعَ لكم كُلَّ شَيءٍ موجودٍ في الأرض حالةَ كونِهِ مُجْتَمِعاً فيها، ثم قَصَدَ إلى السماءِ (أي : الفضاء الذي يعلو الأرض ضمن المجموعة الشّمسِيّة)، وتَمَكَّنَ منها وتَفَرَّدَ بصناعَتِها وأجرى حُكمَهُ ونظامَهُ فيها، فعَدَّلهنَّ وقوَّمَهُنَّ وفَصَّلَهُنّ في سَبْعِ سماواتٍ ((أي : في سبعِ طبَقاتٍ من الغلافِ الجوي التي تعلو الأرضَ ضِمْنَ المجموعةِ الشّمسيّة) وهذا المعنى مَذكورٌ في سِفْرِ التكوين من كتاب التوراة قبلَ ذِكْرِ خَلْقِ آدم)، ويُؤكِّدُ قُدرَتَهُ على ذلك أنّهُ عليمٌ بكُلِّ شيءٍ في السّماواتِ والأرضِ، فإذا كان اللهُ كذلك فعلى أيِّ حالٍ تُنْكِرونَ قُدْرَةَ اللهِ على إرْسالِ مُحمّدٍ رسولاً للنّاسِ ؟
وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ ٣٠ وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمۡ عَلَى ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ فَقَالَ أَنۢبُِٔونِي بِأَسۡمَآءِ هَٰٓؤُلَآءِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٣١ قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ لَا عِلۡمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمۡتَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ ٣٢ قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ أَنۢبِئۡهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡۖ فَلَمَّآ أَنۢبَأَهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ غَيۡبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَأَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ ٣٣
المعنى في ضوء التحليل االلغوي :
30 – وذَكِّرْ بَنِي إسرائِيلَ المَوْجُودِينَ في المَدِينَةِ قِصَّةَ خَلْقِ آدَمَ حينَ قالَ رَبُّكَ للمَلائِكةِ إنّي جاعِلٌ في الأرضِ خَلِيفَةً يَسْتَقِرُّ فيها، ويَقُومُ بأمْرِها بما يأتِيهِ مِنّي مِنْ هُدَىً وبيانٍ للعَمَلِ فيها بما آمُرُهُ بِهِ وبما أنْهاهُ عَنْهُ (لم يَذْكُرْ القُرآنُ في هذا المَوْضِعِ من أيِّ شيءٍ يَخْلُقُ اللهُ الخليفةَ، ولم يَذْكُرْ كَيّفيةَ خَلْقِهِ)، قالَ الملائكةُ مُسْتَفْهِمِينَ : هل تَجْعَلُ في الأرضِ مخلوقاً يَفْعَلُ الاضْطرابَ والخَلَلَ في الأرضِ، ويُريقُ الدِّماءَ فيها، وحالُنا أنَّنا نُنزِّهُكَ عَمّا لا يَلِيقُ بِكَ مُتَلَبِّسِينَ بتَمْجيدِكَ والثّناءِ عليكَ، وحالُنا أيضاً أنَّنا نُعَظِّمُك ونُكَبِّرُك ونُطَهِّرُ ذَواتِنا مِنْ كُلِّ فِعْلٍ لا تَرْضاهُ ؟ (يَدُلُّ اسْتِفهامُ الملائكةِ (أتَجْعَلُ فيها) على أنَّهُم تَوَقَّعوا أنَّ المَخْلوقَ الذي يَسْتَخْلِفُهُ اللهُ في الأرضِ لا تكونُ طبيعتُهُ مِثْلَ طبيعةِ الملائكةِ الذين يُنَزِّهونَ اللهَ ويُمَجِّدُونَهُ ويُثْنُونَ عليه، فتوَقَّعُوا أنْ يَفْعَلُ الاضْطرابَ والخَلَلَ في الأرضِ، ويُريقَ الدِّماءَ فيها كما كان يَفْعَلُ المَخْلُوقُ الذي كانَ قبلَهُ) قال اللهُ جواباً لسُؤالِهم : إنّي أعْلَمُ الذي لا تَعْلَمُونَهُ عن هذا المَخْلُوقِ (يَدُلُّ قولُ اللهِ تعالى للملائكةِ على أنَّ الملائكةَ لا يعرفونَ شيئاً عن المَخْلُوقِ الذي يَسْتَخْلِفُهُ اللهُ في الأرضِ مِمَّنْ قَبْلَهُ، ويَدُلُّ أيضاً على أنَّ اللهَ تعالى يُخْبِرُهُم أنَّهُ يَعْلَمُ أنَّ هذا المَخْلُوقَ لا يَكُونُ مِثْلَ الذي خَلَقَهُ في الأرْضِ قَبْلَهُ، وأنَّهم لا يَعْلَمُونَ هذِهِ الحَقِيقَةَ، ويَدُلُّ قولُهُ تعالى على وجوبِ أنْ يَكُفُّوا عن السُّؤالِ عَمّا ليسَ لَهُمْ فيه عِلْمٌ)
31 – وَجَعَلَ ربُّكَ آدَمَ يَتَعَلَّمُ الأسْماءَ كُلَّها (يَدُلُّ السِّياقُ ومعنى (الاسم) على أنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ آدمَ يتعلَّمُ اللُّغَةَ، أي : يَتَعَلَّمُ نُطْقَ أصْواتٍ، ويُؤَلِّفُ مِنها ألفاظاً يَضَعُها على ما يَراهُ من الأشياءِ، ويَدُلُّ السّياقُ على أنَّ اللهَ تعالى أراهُ الأشياءَ التي خَلَقَها في الأرْضِ، فوَضَعَ آدَمُ لكُلٍّ شيءٍ منها لَفْظاً ذا أصْواتٍ خاصَّةٍ يَكُونُ اسْماً دالّاً عليه، ونَطَقَ بِهِ بأصْواتِ اللُّغَةِ التي تَعَلَّمَها، وهذا ما لم تَعْلَمْهُ الملائكةُ، لأنَّ الملائكةَ لم يَجْعَلْهُم اللهُ يَتَعَلَّمُونَ نُطْقَ أصْواتٍ، ويُؤَلِّفُونَ مِنها ألفاظاً يَضَعُونَها على ما يَرَوْنَهُ من الأشياءِ، إنّما يُوحِي اللهُ إليهم، فيُخْبِرُهم بما يُرِيدُ منهم أنْ يَفْعَلُوهُ، ويُعَلِّمُهم ما يُرِيدُ أنْ يُعَلِّمَهُم إيّاهُ، وتَدُلُّ قُدْرَةُ آدمَ على تَعَلَّمِ اللّغة على أنَّ البَشَرَ يتَمَيَّزُونَ بأنّهُم قادِرُونَ على تَعَلُّمِ العُلومِ، وأنَّهم قادِرُونَ على تَعَلُّمِ اللُّغات خاصّةً، فيستطيعُ الإنسانُ أنْ يَنْقُلَ عُلُومَهُ التي يَتَعلَّمُها وخِبراتِهِ إلى غَيْرِهِ من البَشَرِ بواسطةِ اللّغة، والملائكةُ لا يقدرونَ أنْ يَفْعَلُوا ذلك، ويَدُلُّ السّياقُ والمعنى على أنَّ أولادَ آدَمَ كانوا يَتَكَلّمُونَ اللُّغَةَ التي جَعَلَهُ اللهُ يَتَعَلّمُها، وأنَّ ذُرِّيَّتَهُ لمّا تَفَرَّقُوا في أنحاءِ الأرضِ أخَذَتْ كُلُّ جماعةٍ منهم ألفاظاً تَعَلَّمَتْها من اللغةِ الأمّ، ويُمكِنُ تَسْمِيةُ هذِهِ اللُّغَةِ بـ(اللُّغَةِ الأمِّ لآدَمَ وأولادِهِ)، وبسَبَبِ تَفَرُّقِهِم، وابْتِعادِهم عن اللَّغَةِ الأمِّ، واسْتِقْرارِ كُلِّ جماعةٍ في مكانٍ من الأرضِ احْتَفَظَتْ كُلُّ جماعةٍ بما أخَذُوهُ مَعَهُم من اللُّغَةِ الأمّ، وزادُوا ألفاظاً وَضَعُوها على ما يُحيطُ بهم ويُوجَدُ في أرْضِهم من الأشياءِ، وعلى الأفْعالِ التي يقومُونَ بها، وعلى المعاني التي تَخْطُرُ في أنفسِهِم، فنَشَأتْ لكُلِّ قومٍ يَسْتَوْطِنُونَ أرْضاً لُغَةٌ يَخْتَصُّونَ بها، ويَدُلُّ هذا المعنى على أنَّ الخَلْقَ الذي كانَ قَبْلَ آدَمَ لم يَتَعلَّمْ اللُّغَةَ، وأنَّ التَّفاهُم بينَهم كانَ بوسائِلَ أخرى غيرِ اللُّغَة)، ثمَّ أرَى ربُّكَ الملائِكةَ الأشياءَ التي خلَقَها في الأرْضِ، ووَضَعَ آدَمُ لكُلٍّ مِنْها لفظاً جَعَلَهُ اسْماً دالّاً عليه، فقالَ لهم : إنْ كُنْتُم مُخْبِرِينَ بالحَقِّ بما يَكُونُ مِنْ هذا الخَلِيفَةِ الذي أسْتَخْلِفُهُ مِمَّنْ قَبْلَهُ في الأرْضِ فأخْبِرُوني بأسماءِ هؤلاءِ الأشياء التي أُرِيكم إيَّاها
32 – قالَ الملائكةُ : تَنَزّهْتَ ربَّنا تَنْزِيهاً من كُلِّ ما لا يَلِيقُ بك، لا عِلْمَ لنا إلّا الذي علّمْتَنا إيَّاهُ فقط، لأنّك أنتَ وَحْدَكَ العَلِيمُ بكُلِّ شيءٍ في الأرْضِ والسَّماءِ، الحكيمُ الذي يُتْقِنُ كُلَّ فِعْلٍ من أفعالِهِ
33 – قال ربُّكَ : يا آدَمُ، أخْبِرْ الملائكةَ بأسماءِ هؤلاءِ الأشياءِ، فلمّا أخْبَرَهم آدمُ بأسْمائِهم قالَ رَبُّكَ للمَلائِكةِ : ألمْ أقُلْ لكم : إنّي أعْلَمُ كُلَّ شيءٍ غابَ عن إدْراكِكُم في السَّماواتِ والأرضِ، (أي : في الكونِ كُلِّهِ، وهو الذي يشتملُ على مجرّتنا (دَرْبِ التّبانة) وعلى المجرّات الأخرى التي لم يَصِلْ عِلْمُ البَشَرِ إلّا إلى عددٍ قليلٍ منها، ولم يعرف حقيقتَها وسَعَتها إلّا اللهُ سُبحانَهُ وتعالى)، وأعْلَمُ كُلَّ شيءٍ تُظْهِرونَهُ من الفِعْلِ، وأعْلَمُ كُلَّ شيءٍ تَسْتُرونَهُ وتُخفونَهُ في أنفُسِكم ؟ قالوا : بلى، ثَبَتَ ما قُلْتَهُ لنا (يَدُلُّ المعنى على أنّ الملائكةَ كانوا يُخْفُونَ شَيئاً في أنفُسِهم، واللهُ يَعْلَمُهُ، ويَدُلُّ السّياقُ على أنَّهُم كانوا يُخْفُونَ في أنْفُسِهم أنّهم أفْضَلُ خَلْقٍ خَلَقَهُ اللهُ في السَّماواتِ والأرضِ بما أعطاهم اللهُ من القُوَى والقُدراتِ على إنْجازِ أوامِرِ اللهِ في السّماواتِ والأرض، ويُخفونَ في أنفُسِهم أنّهم خيرٌ من المَخْلُوقِ الذي يُريدُ اللهُ أنْ يَسْتَخْلِفَهُ في الأرْضِ مِمَّنْ قَبْلَهُ) .
بَحْثٌ في خَلْقِ الكائناتِ الحَيَّةِ ابْتداءً في الكونِ، وخَلْقِ آدمَ في الأرضِ في ضوءِ آياتِ القُرآن
الآياتُ التي ذَكَرَتْ بَدْأَ خَلْقِ الكائناتِ الحَيّةِ في الكونِ : قال اللهُ تعالى في (سورة هود : 7) : “وهو الذي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ وكانَ عَرْشُهُ على الماء”، وقال تعالى (سورة الأنبياء : 30) : “أوَ لًمْ يَرَ الذينَ كَفَرُوا أنَّ السّماواتِ والأرْضَ كانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الماءِ كُلَّ شيءٍ حَيٍّ أفَلا يُؤْمِنُونَ”، وقال تعالى في (سورة الشّورى : 29) : “ومِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَثَّ فيهما مِنْ دابَّةٍ وهو على جَمْعِهِم إذا يَشاءُ قَدِيرٌ”، وقال تعالى في (سورة لُقمان : 10) : “وألْقَى في الأرْضِ رَواسِيَ أنْ تَمِدَ بِكُمْ وبَثَّ فيها مِنْ كُلِّ دابّةٍ”، وقال تعالى : (سورة البقرة : 164) : “إنَّ في خَلْقِ السّماواتِ والأرْضِ واخْتِلافِ اللّيلِ والنَّهارِ والفُلْكِ التي تَجْرِي في البَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وما أنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فأحْيا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وبَثَّ فيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وتَصْرِيفِ الرِّياحِ والسَّحابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون”، وقال تعالى في (سورة النّور : 45) : “واللهُ خَلَقَ كُلَّ دابَّةٍ من ماءٍ فمِنْهُم مَنْ يَمْشِي على بَطْنِهِ ومِنْهُم مَنْ يَمْشِي على رِجْلَيْنِ ومِنْهُم مَنْ يَمْشِي على أرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إنَّ اللهَ على كُلِّ شيءٍ قَدير” . هذه الآياتُ يَدُلُّ معناها على المرحلةِ الأولى من خَلْقِ الكائناتِ الحَيَّةِ، فمعنى الآية (7 من سورةِ هود) : وهو الذي خَلَقَ السَّماواتِ والأرضَ (أي : خَلَقَ الكونَ، وهو الذي يشتملُ على مجرّتنا (دَرْبِ التّبانة) وعلى المجرّاتِ الأخرى التي لم يَصِلْ عِلْمُ البَشَرِ إلّا إلى عددٍ قليلٍ منها، ولم يعرف حقيقتَها وسَعَتها إلّا اللهُ سُبحانه وتعالى) في سِتَّةِ أيّامٍ، وكانَ مُلْكُهُ (أي : الكونُ الذي خَلَقَهُ) على الماءِ، وهذ يعنى أنَّ الكونَ قائمٌ وجودُهُ على الماءِ، وأنَّ الماءَ عُنصرٌ رئيسٌ في وجودِ الكونِ، فمَثَلاً إذا قيلَ : فلانٌ قامَ بَدَنُهُ على الخُبزِ، فالمعنى أنَّ الخُبْزَ عُنْصُرٌ رئيسٌ في وجودِهِ، ويَدُلُّ هذا المعنى على أنَّ الماءَ موجودٌ على سُطوحِ كواكِبِ مجرّتنا (دَرْبِ التّبانة) وأقمارِها وفي باطِنها، وموجودٌ في المجرّاتِ الأخرى التي لم يَصِلْ عِلْمُ البَشَرِ إلّا إلى عددٍ قليلٍ منها، ولم يعرفْ حقيقتَها وسَعَتها إلّا اللهُ سُبحانه وتعالى، ومَعْلُومٌ أنَّ الماءَ حيثُما وُجِدَ على أرضٍ وفي باطِنِها يخْتَلِطُ بتُرابِها، ويَتَكَوِّنُ من اختلاطِهما طينٌ، والمعروفُ عِلْميّاً أنَّ البكتريا تتَوَلَّدُ في الطّين الذي يَتَكَوَّنُ من اختلاطِ تُرابِ الأرضِ بالماء، ووجودُ الماءِ على سُطوحِ كواكِبِ مجرّتنا (دَرْبِ التّبانة) وأقمارِها وفي باطِنها كائنٌ بتقديرِ اللهِ وقُدرتِهِ، وتَوَلُّدُ البكتريا في الطّينِ الذي يَتَكَوِّنُ من اختلاطِ الماءِ بتُرابِ الأرضِ كائنٌ بتقديرِ اللهِ وقُدرتِهِ، فأوّلُ كائنٍ حيٍّ خلَقَهُ اللهُ في الكونِ من اختلاطِ تُرابِ الأرضِ بالماء هو البكتريا، ومعنى الآية (30 من سورة الأنبياء) : ألَمْ يَعْلَمْ الذين جَحَدُوا وحدانيَّةَ اللهِ، وجَعَلُوا لَهُ شُركاءَ في العِبادَةِ أنّ السَّماواتِ والأرضَ (أي : الكونَ كُلَّهُ) وُجِدَ أوّلَ خَلْقِنا إيّاهُ حالةَ كونِهِ شيئاً واحِداً مُصْمَتاً لا شَقَّ فيه ولا فراغَ، فشَقَقْناهُ وفَصَّلْناهُ بعد ذلك إلى مَجَرَّاتٍ، يوجَدُ في كُلٍّ منها شُموسٌ وكواكِبُ وأقمارٌ ونُجومٌ (من تلك المَجَرّاتِ مجرَّتُنا دَرْبُ التّبانة)، وأنْشَأْنا ابْتداءً بالماءِ الموجودِ على أرضِ كواكِبِ المَجَرّاتِ وأقمارِها وفي باطِنِها كُلَّ شيءٍ ذي حَرَكةٍ ونماءٍ ؟ بلى، فَعَلْنا ذلك، فلماذا يَجْحَدُونَ وحدانيَّةَ الله، ويَجْعَلُونَ لَهُ شُركاءَ في العِبادة ؟ (ما جاءَ في القُرآنِ في أصْلِ بَدْأِ الكونِ يَلْتقي معَ ما وَصَلَ إليه العُلماءُ الباحثونَ في أصْلِ حُدوثِ الكونِ، وهو ما أسْمَوْهُ بـ(نظريةِ انْفِجارِ الكون)، ومُلَخَّصُ هذه النّظريةِ أنَّ الكونَ لم يَكُنْ موجوداً، ثُمَّ كان، أي : كانَ عَدَماً قَبْلَ أنْ يُوجَدْ، ثمّ ظَهَرتْ نُقْطَةٌ واحِدةٌ من الكثافةِ اللّانهائيَةِ الشّديدةِ الحرارةِ، ثمّ بَدَأتْ هذهِ النُّقطةِ من الكثافةِ اللّانهائيَةِ الشّديدةِ الحراةِ بالتَّضَخُّمِ والتَّمَدُّدِ بفِعلِ الحرارةِ الشديدة التي فاقتْ العشرةَ ملياراتِ درجة فهرنهايت، ثُمَّ لمّا وَصَلَ حَجْمُ النُّقطةِ من الكثافةِ اللّانهائيَةِ الشّديدةِ الحرارةِ إلى جِسْمٍ هائِلٍ مُصْمَتٍ ذي كثافةٍ عالية حَصَلَ الانفجارُ الكوني مُكَوِّناً بعدَ الانْفِجارِ المَجَرّاتِ الكثيرةَ والنُّجومَ والكواكِبَ والأقمارَ، ويَعْتَقِدُ العُلماءُ أنَّ الكونَ بَدَأ في التَّوَسُّعِ الهائِلِ بعدَ الانفجارِ مَباشرَةً وبسَبَبِ الطَّاقَةِ المُظْلِمَةِ بَدَأت القِطَعُ المَتطايرَةُ في الفضاءِ تَبْرُدُ حتى تَحَوَّلَتْ إلى أجسامٍ، منها شديدُ الحرارةِ كالنُّجومِ والشُّموسِ التي تَشُعُّ ضوءاً وحرارةً، ومنها أجسامٌ سُطوحُها مُختلفةٌ حرارتُها من جِسْمٍ إلى آخَر مثل الكواكبِ التي نَعْرِفُها من خلالِ مجموعَتِنا الشَّمسيّةِ التي تَقَعُ في مَجَرَّةِ دَرْبِ التّبّانَةِ)، والمعروفُ عِلْميّاً أنَّ البكتريا تتَوَلَّدُ في الطّين الذي يَتَكَوَّنُ من اختلاطِ تُرابِ الأرضِ بالماء، فالماءُ المُختَلِطُ بتُرابِ أرض الكواكِبِ والمَجَرّاتِ وعلى سُطُوحِها بَعْدَ الانفجارِ الكوني أصْلُ وجودِ البكتريا التي هي أصْلُ الكائناتِ الحيّةِ ذواتِ الحَرَكةِ والنَّماء، ومعنى الآية (29 من سورة الشورى) : ومِنْ حُجَجِهِ ودلالاتِهِ على أنّهُ قادرٌ على كُلِّ شيءٍ خَلْقُهُ السّماواتِ والأرضَ (أي : الكونَ كُلَّهُ)، وتفريقُهُ ونَشْرُهُ فيهما ابْتِداءً كائناتٍ حيّةً مُتَحَرِّكةً من كُلِّ نوعٍ من الكائناتِ الحيَّةِ المُتَحَرِّكةِ، وهو قديرٌ على جَمْعِهم حينَ يَشاءُ بعَدَ تَفْرِيقِهم ونَشْرِهِم في الكونِ، والمعنى يَدُلُّ بوضوحٍ على أنَّ الكائناتِ الحيَّةَ المُتَحَرِّكةَ التي فَرَّقها ونَشَرَها في السّماواتِ والأرضِ هي البكتريا التي خَلَقَها في السّماواتِ والأرضِ، ومعنى الآية (10 من سورة لقمان) : يُؤَكِّدُ أنّهُ القادِرُ على كُلِّ شيءٍ، الذي لا يَغْلِبُهُ شيءٌ، ولا يَمْتَنِعُ من قُدْرَتِهِ شيءٌ، وأنّهُ الحكيمُ الذي أتْقَنَ كُلَّ فِعْلٍ من أفعالِهِ أنّهُ خَلَقَ السَّماواتِ حالةَ كونِها بغيرِ دعائمَ وأساطينَ ترونَها بأعْيُنِكم، (أي : خَلَقَها بأسبابٍ غيرِ مَرْئِيّةٍ، فرفعَ بها السّماواتِ)، وأنّهُ وَضَعَ في الأرض جبالاً راسخاتٍ كراهةَ أنْ تضْطَرِبَ وتَتَحَرَّكَ بكم، وأنّهُ نَشَرَ وفَرَّقَ فيها ابْتِداءً كائناتٍ حيّةً مُتَحَرِّكةً من كُلِّ نوعٍ من الكائناتِ الحيَّةِ المُتَحَرِّكةِ، وألْفِتُ الانتباهَ إلى أنّا أنْزَلْنا بتقديرِنا وعنايَتِنا من السَّحابِ ماءً، فأنْبَتْنا بتقديرِنا وعنايتِنا في الأرضِ بذلك الماء صِنْفاً من كُلِّ صِنْفٍ حَسَنٍ نافِعٍ من أصنافِ النّباتِ، ويَدُلُّ المعنى بوضوحٍ على أنَّ الكائناتِ الحيَّةَ المُتَحَرِّكةَ التي فَرَّقها ونَشَرَها في الأرضِ هي البكتريا التي خَلَقَها ابتداءً من الماءِ وتُرابِ الأرضِ، ومعنى الآية (164 من سورة البقرة) : إنَّ في خلْقِ السّمواتِ والأرضِ (أي : في خَلْقِ الكونِ كُلِّهِ، وهو الذي يشتملُ على مجرّتنا (دَرْبِ التّبانة) وعلى المجرّات الأخرى التي لم يصلْ عِلْمُ البَشَرِ إلّا على عددٍ قليلٍ منها، ولم يعرف حقيقتَها وسَعَتها إلّا اللهُ سُبحانه وتعالى)، وفي اختلافِ الليلِ والنّهارِ في الذهابِ والمجيءِ بأنْ يَذْهَبَ أحَدُهما ويأتي الآخرُ مكانَهُ في كُلِّ يومٍ وليلة، وفي اختلافِهما في الزيادةِ والنُّقصان وعَدَمِ تساويهما ليُناسِبا حياةَ الإنسانِ على الأرضِ، وفي السُّفنِ التي تَجْرِي في الماءِ الواسِعِ الكثير، سواءٌ أكان بحراً مالحاً ماؤهُ أم نهراً عَذْباً ماؤه بكُلِّ شيءٍ يُفيدُ الناسَ في معيشتِهم، وأمورِ حياتِهم، وفي الذي أنْزَلَهُ اللهُ من السّحابِ الذي يكونُ في إحدى طَبَقاتِ الغلافِ الجَوِّي التي تَعْلُو الأرضَ حالةَ كونِهِ ماءً، فأحيى بالماءِ الأرضَ بعدَ موتِها (أي : بخَلْقِهِ أسبابَ الحياةِ فيها بوجودِ الماء بَعْدَ انْعِدامِ أسبابِ الحياةِ فيها، فهي كالمَيِّتِ في انْعِدامِ الحياةِ فيه، وانْعِدامِ حركتِهِ)، وفَرَّقَ ونَشَرَ فيها ابْتِداءً بعد إيجادِ أسبابِ الحياةِ بوجود الماء فيها كائناتٍ حيّةً مُتَحَرِّكةً من كُلِّ نوعٍ من الكائناتِ الحيَّةِ المُتَحَرِّكةِ، ويَدُلُّ المعنى بوضوحٍ على أنَّ الكائناتِ الحيَّةَ المُتَحَرِّكةَ التي فَرَّقها ونَشَرَها في الأرضِ هي البكتريا التي خَلَقَها ابتداءً من الماءِ الموجودِ في الأرضِ، ومعنى الآية (45 من سورة النور) : واللهُ خَلَقَ كلَّ كائِنٍ حَيٍّ مُتَحَرِّكٍ من ماءٍ، فمِن الكائناتِ الحيّةِ المُتَحَرِّكَةِ التي خَلَقَها من الماءِ كائناتٌ حيّةٌ تَنْتَقِلُ في حَرَكَتِها من مكانٍ إلى آخرَ على بَطْنِها، (أي : تَزْحَفُ على بَطْنِها من مكانٍ إلى آخر، وهي الزَّواحف)، ومِن الكائناتِ الحيّةِ المُتَحَرِّكَةِ التي خَلَقَها من الماء كائناتٌ حيّةٌ تَنْتَقِلُ في حَرَكَتِها من مكانٍ إلى آخرَ على رِجْلَيْنِ اثنتَيْنِ (كالإنسان والطُّيُورِ)، ومِن الكائناتِ الحيّةِ المُتَحَرِّكَةِ التي خَلَقَها من الماء كائناتٌ حيّةٌ تَنْتَقِلُ في حَرَكَتِها من مكانٍ إلى آخرَ على أرْبَعِ أرْجُلٍ (وهي أكثرُ الحيواناتِ التي تَتَحَرَّكُ على الأرضِ، ويَدُلُّ جَعْلُ العَدَدِ أربعَ أرجُلٍ نهايَةَ عَدَدِ الأرجُل على أنّ الكائناتِ الحيّةَ التي تزيدُ فيها الأرجُل على أرْبَع تَعْتَمدُ في مَشيها على أربعِ أرجُل، وما زادَ على أربع فلا تعتمدُ عليها، ويَدُلُّ المعنى على عظيمِ قُدْرةِ الله)، يخلُقُ اللهُ الذي يشاءُ خَلْقَهُ، لأنَّ اللهَ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، ويَدُلُّ معنى الآية على أنَّ أصْلَ الكائناتِ الحيّةِ المُتَحَرِّكَةِ هو الماء، والمعروفُ عِلْمياً أنَّ الماء حيثُما وُجِدَ على أرضٍ وفي باطِنِها تَكوَّنتْ البكتريا، ووجودُ الماءِ وَقْتَ خَلْقِ الكونِ كائنٌ بتقديرِ اللهِ وقُدرتِهِ، وتَوَلُّدُ البكتريا في الماءِ حيثُما وُجِدَ على أرضٍ وفي باطِنِها كائنٌ بتقديرِ اللهِ وقُدرتِهِ، وهذا يعني أنَّ أوّلَ كائنٍ حيٍّ خلَقَهُ اللهُ في الأرضِ بوجودِ الماءِ على سطحها وفي باطِنِها هو البكتريا، وهي كائناتٌ حيَّةٌ مُتَحَرِّكةٌ وحيدةُ الخليَّة فَرَّقَها ونَشَرَها في الأرض، وقد أيَّدتْ الأبحاثُ العلميّةُ ما ذَكَرَهُ القرآنُ في بداية الخَلْقِ، وأثْبَتَتْ أنَّ الكائناتِ الحيَّةَ المُتَحَرِّكةَ ذواتِ الخليَّةِ الواحِدة التي فَرَّقها ونَشَرَها في الأرضِ هي البكتريا التي خَلَقَها اللهُ ابتداءً من الماءِ والتُّرابِ الموجودانِ على سطح الأرضِ وفي باطِنِها، وهي أصْلُ وجودِ الكائناتِ الحيةِ المُتَعَدِّدَةِ الخلايا .
وقد أثْبَتَتْ الأبحاثُ العِلميّةُ في هذا الشّأن أنَّهُ خلالَ النِّصْفِ الأوّلِ من تاريخِ الكُرةِ الأرْضِيّةِ لم يكن هناك أوكسجين في الغلافِ الجَوّي، وكانت الأرضُ مأهولةً في ذلك الحين، ولكنْ بكائناتٍ حَيَّةٍ أحاديةِ الخلية، ويعني ذلك أن الحياةَ كانت قائمةً قَبْلَ نحوِ مليار سنةٍ من وجود الأوكسجين، وهذه المخلوقاتُ الدَّقيقةُ هي التي يُعْتَقَدُ بأنَّها السَّبَبُ في وجودِ الأوكسجين، وتوصَّلَتْ الأبحاثُ العلميةُ إلى أنَّ تلك الكائناتِ الحيَّةَ الأُحادِيَّةَ الخليّةِ أنواعٌ مُختلفةٌ، وليستْ نوعاً واحِداً، ومن أبرزِ هذه الكائناتِ الحَيَّةِ مجموعةٌ يُطْلَقُ عليها اسم “سيانوباكتيريا”، وهذه الكائناتُ الحَيَّةُ الميكروسكوبِيَّةُ تُشَكِّلُ أحياناً طَبَقاتٍ زرقاءَ فاتحةً فوقَ البُحيراتِ والمُحيطات، وتوصَّلَتْ الأبحاثُ العلميةُ إلى أنَّ كُلَّ نوع من أنواعِ الكائناتِ الحيَّةِ الأُحادِيَّةِ الخليّةِ اكْتَسَبَ جيناتٍ خاصَّةً به، وتُشيرُ الأبحاثُ العِلميَّةُ إلى أنَّهُ قد ظَهَر غازَ الأوكسجين الذي هو سِرُّ تَطَوُّرِ تلك الكائنات وبقائها حيَّةً قبل حوالي 2.4 مليار سنة، ويُعَدُّ ظُهورُ الأكسجين واحداً من أهمِّ ما وَقَعَ على كوكبِ الأرضِ من أحداثٍ، فلولاهُ لما كانت هناك أيُّ مخلوقاتٍ تَتَنَفَّسُ الأوكسجين؛ لا حشراتٌ، ولا أسماكٌ، ولا حيواناتٌ ولا بَشَرٌ، وهناك تفسيرٌ بسيطٌ لوجود الآوكسجين يَتَمَثَّلُ في أنَّ كائناتِ السيانوبكتيريا تُطْلِقُ غازَ الأوكسجين غير المرغوب فيه في الهواء، وهو ما غَيَّرَ من طبيعةِ الغِلافِ الجَوّي لكوكبِ الأرض، تقولُ (بيتينا شيرمايستر) من جامعةِ بريستول بالمملكة المتحدة : “السيانوبكتيريا من بينِ أوَّلِ ما عرفْناهُ من كائناتٍ حَيَّةٍ على سَطْحِ الأرض، ويُمْكِنُ القولُ بكل ثِقَةٍ إنَّهُ كان لدينا سيانوبكتيريا قبل 2.9 مليار سنة خلت”، وتُضيفُ : “هناك تَطَوُّرٌ ما حَدَثَ لكائناتِ السيانوبكتيريا مَكَّنَها من أنْ تُصْبِحَ أكثرَ نجاحاً وأهمية، فبعضُ أنواعِ السيانوبكتيريا قامتْ بشيءٍ يُعَدُّ بارزاً بمعاييرِ البكتيريا، فبينما تُعْتَبَرُ الغالبيةُ السّاحِقَةُ من البكتيريا أحادية الخَلِيَّةِ كانت هناك كائناتٌ من السيانوبكتيريا متعدِّدَةَ الخلايا، وتُضيفُ (بيتينا شيرمايستر) : “ويمكِنُ للعديدِ من أنواعِ السيانوبكتيريا الحديثة التَّحَرُّك داخل حصائرِها، وليست حَرَكتُها بالسّريعةِ جداً، ولكنَّها تستطيعُ الحَرَكةَ، هذا يعني رُبّما أنَّ البكتيريا القديمةَ كانت تستطيعُ التَّحَرُّكَ أيضاً، وكان يُمكنُ للحركةِ أنْ تُساعِدَها على البقاءِ في وقتٍ كانتْ تَتَعَرَّضُ فيه الأرضُ إلى إشعاعاتٍ ضارّةٍ وعنيفةٍ من الشَّمسِ، ولم تَكُنْ هناكَ طبقةُ أوزون تَحْمِي الأرضَ من هذهِ الإشعاعات، وتقول (شيرمايستر) : “في الحصائر الميكروبية الحديثةِ، تستديرُ السيانوبكتيريا حولَ نَفْسِها وتَظْهَرُ بشكلٍ عمودي بَدَلاً من الشَّكْلِ الأفقي لحمايةِ نفسِها من ضوءِ الشَّمسِ الزَّائدِ عن اللّزوم، ورُبَّما نَتجَتْ عن هذه الحركةِ السيانوبكتيريا المُتَعَدِّدَةُ الخَلِيَّةِ، فقد اتَّحَدَتْ بعضُ خلايا السيانوبكتيريا الأحاديةِ في صفوفٍ مُتَّصِلَةٍ تُشْبِهُ عرباتِ القِطارِ، وهذا في حدِّ ذاتهِ غيرُ مُعتادٍ بالنسبة للبكتيريا”، ثُمَّ تَحَوَّلَتْ بعضُ هذه الكائناتِ الحيّة ذوات الخلايا المُتَعَدِّدةِ إلى كائناتٍ حَيَّةٍ ذواتِ خلايا مُتَعَدِّدةٍ مُتَخَصِّصةٍ، وتُضيف (بيتينا شيرمايستر) : “هذا هو أوّلُ شَكْلٍ من أشكالِ التَّخَصُّصِ نُشاهدُهُ، إنَّها نُسْخَةٌ بسيطةٌ من الخلايا المُتَخَصِّصَةِ التي تُوجَدُ لدى الحيوانات، مِثْل الخلايا المُتَخَصِّصَةِ التي تُكَوِّنُ العَضَلاتِ، والأعصابَ، وخلايا الدَّم”، وتعتقدُ (شيرمايستر) أنَّ ظاهرةَ التَّعَدُّدِيَّةِ الخَلَوِيَّةِ رُبَّما كانت هي ما غَيَّرَتْ قواعِدَ الحياةِ للسيانوبكتيريا الموجودةِ على الأرض”
وقد أمضتْ (شيرمايستر) السنواتِ القليلةَ الماضيةَ وهي تُحاوِلُ معرفَةَ الزَّمَنِ الذي تَحَوَّلَتْ فيه البكتيريا إلى كائناتٍ مُتَعَدِّدَةِ الخلايا، والخيوطُ التي تقودُ إلى هذه المعرفةِ تكمُنُ في الجيناتِ الخاصَّةِ بهذه البكتيريا، وقد تَمَكَّنَتْ (شيرمايستر) من رَسْمِ شَجَرةِ عائلَةٍ خاصَّةٍ بالسيانوباكتيريا بعد أنْ عَرَفَتْ من اختبارِها للجيناتِ المُشتركةِ الفُروقَ البسيطةَ بينَها، وبوجودِ تلك الشَّجرةِ الجينيَّةِ، تَمَكَّنَتْ (شيرمايستر) من تقديرِ الزَّمَنِ الذي تَحَوَّلَتْ فيه السيانوبكتيريا من كائناتٍ أُحاديةِ الخَليَّةِ إلى مُتَعَدِّدَةِ الخلايا، وأوَّلُ محاولاتِها نُشِرَتْ عام 2011، وقالت فيها : إنَّ التَّعَدُّدِيّةَ في الخلايا تَطَوَّرَتْ قبلَ ظُهورِ الأوكسجين بوقتٍ قصيرٍ في الوقت الذي كانت فيه السيانوبكتيريا تُنَوِّعُ من نفسِها بشكلٍ متسارِعٍ، وقامتْ (شيرمايستر) بمُحاولةٍ أفضل، وتقول : “هذه المَرَّة تعامَلْتُ مع 756 جيناً، وهذه الجيناتُ التي أخَذْتُها موجودةٌ في كُلِّ السيانوبكتيريا”، وقالتْ : إنَّ الزَّمَنَ الذي بَدَأ فيه انقسامُ الخلايا وتَعَدُّدُها كانَ قبلَ ظهورِ الأوكسجين، لكن على المدى البعيد سَمَحَ وجودُ الأوكسجين بتَطَوُّرِ جميعِ أنواعِ الحياة، ويُعْتَبَرُ الأوكسجين غازاً حساساً، لهذا السَّبَبِ فهو يؤدي إلى اشتعالِ النّارِ، وعندما عَرَفَتْ بعضُ الكائناتِ الحَيَّة كيف تُسَخِّرُ الأكسجين لصالِحِها صارَ لديها مصدرٌ مُهِمٌّ للطّاقّةِ، وصارتْ الكائناتُ الحَيَّةُ أكثرَ نشاطاً إذا تَنَفَّسَتْ الأكسجين، فبِفَضْلِ الأكسجين صارَ كثيرٌ من الكائناتِ الحيَّةِ أكثرَ تعقيداً من مُجَرَّدِ التَّحَوُّلِ من كائناتٍ أُحادِيَّةِ الخَليَّةِ إلى مُتَعَدِّدَةِ الخلايا، هذه الكائناتُ أصبحتْ نباتاتٍ وحيواناتٍ، وتَحَوَّلَ بعضُها من كائناتٍ اسفنجية ودودية إلى أسماكٍ، وكذلك ظَهَرَ البَشَرُ، إنَّ هذه السيانوبكتيريا المُتَعَدِّدَةَ الخلايا هي المسؤولةُ عن وجودِ الحياةِ على الأرض بما في ذلك تَطَوُّرُ الحياةِ المُعَقَّدَةِ، بما فيها نحن البَشَرُ، وذلك عن طريق انتاجِ الأكسجين بكميات ٍتكفي للكرةِ الأرضية .
إنَّ هذا البحثَ العِلمي الرَّصينَ الذي قامتْ به (شيرمايستر) لا يختلفُ عمّا جاء في القرآنِ عن بَدْأ الحياةِ على الأرضِ، ولكن غابَ عن العالمة الباحثة (شيرمايستر) أنَّ الذي حَدَثَ في الكونِ عامّة، وفي الأرضِ خاصّةً من وجود الكائنات الحيّة الأُحادية الخليّة، ومنها السيانوبكتيريا، وكونِها السَّبَبَ في وجودِ الأوكسجين في الأرض، ثُمَّ تَحَوُّلِ بعضِها إلى كائناتٍ حيَّةٍ مُتَعَدِّدةِ الخلايا، ثُمَّ تَحَوُّلِ بعضِ الكائناتِ الحيةِ المُتَعَدِّدةِ الخلايا إلى كائناتٍ حَيَّةٍ ذواتِ خلايا مُتَعَدِّدةٍ مُتَخَصِّصةٍ، مِثْلِ الخلايا التي تُكَوِّنُ العضلاتِ، والأعصابَ، والخلايا التي تُكَوِّنُ القلبَ والدَّمَ والمُخّ وغيرَها من أعضاء بَدَن الحيوان، ثُمَّ كَوْنِ بعضِ الكائناتِ الحَيَّةِ أكثرَ نشاطاً حينَ تَنَفَّسَتْ الأوكسجين، ثُمَّ تَحَوُّلِ بعضِها بِفَضْلِ الأكسجين إلى مُتَعَدِّدَةِ الخلايا، وتَحَوُّلِ بعضِها إلى حيواناتٍ مُختَلِفةٍ وأسماكٍ، ثُمَّ ظُهُورِ البَشَرِ كانَ قدْ حَدَثَ بعِلْمِ اللهِ الخالقِ وحِكْمَتِهِ وقُدْرَتِهِ، ولم يحْدُثْ كُلُّ ذلك بطريق الصُّدْفةِ .
الآياتُ التي ذَكَرَتْ خَلْقَ الإنسان الأوَّل : قال تعالى في (سورة الفُرقان : 54) : “وهو الذي خَلَقَ مِنَ الماءِ بَشَراً فجَعَلَهُ نَسَباً وصِهْراً وكانَ رَبُّكَ قَدِيراً”، وقال تعالى في (سورة الحِجْر : 26) : “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ”، وقال تعالى في (سورة الرحمن : 14) : “خَلَقَ الإنسانَ مِنْ صَلْصالٍ كالفَخَّار”، وقال تعالى في (سورة المُؤمنون : 12) : “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ”، وقال تعالى في (سورة السّجْدة : 7) : ” الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ”، وقال تعالى في (سورة ص : 71) : “إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ”، وقال تعالى في (سورة الصّافات : 11) : “فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ” و(الطّينُ اللازِبُ) هنا : هو الطّينُ الذي تَماسَكَ ولَزَقَ بعضُهُ ببعضٍ بعد تَخْميرِهِ مُدَّةً طويلةً من الزّمَنْ، وقال تعالى في (سورة العَلَق : 1 – 2) ” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)” و(العَلَقُ) هنا : الطّينُ الذي لَزَقَ بعضُهُ ببعضٍ، فإذا مُسِكَ باليَدِ عَلِقَ بها، وقال تعالى في (سورة الروم : 20) : “ومِنْ آياتِهِ أنْ خَلَقَكُم مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إذا أنْتُم بَشَرٌ تَنْتَشِرونَ”، وقال تعالى في (سورة فاطر : 11) : “وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ” .
ومعنى الآية (54 من سورة الفُرقان) : وهو الذي خَلَقَ من الماءِ بَشَراً (يشملُ البَشَرُ الرجُلَ والمرأةَ)، ويَدُلُّ المعنى على أنَّ الماءَ أصْلُ خَلْقِ الإنسان، والمعروفَ عِلْميّاً أنَّ البكتريا تتَوَلَّدُ في الطّين الذي يَتَكَوَّنُ من اختلاطِ تُرابِ الأرضِ بالماء، فالماءُ المُختَلِطُ بتُرابِ أرض الكواكِبِ والمَجَرّاتِ وعلى سُطُوحِها بَعْدَ الانفجارِ الكوني هو أصْلُ وجودِ البكتريا التي هي أصْلُ الكائناتِ الحيّةِ ذواتِ الحَرَكةِ والنَّماء، ووُجودُ الماءِ على سُطوحِ كواكِبِ المَجَرّاتِ بَعْدَ الانفجارِ الكوني كائِنٌ بتقديرِ اللهِ وقُدرتِهِ، وتَوَلُّدُ البكتريا في الماءِ المُختَلِطِ بتُرابِ أرض الكواكِبِ والمَجَرّاتِ كائِنٌ بتقديرِ اللهِ وقُدرتِهِ، وهذا يعني أنَّ أوّلَ كائنٍ حَيّ مُتَحَرِّكٍ خلَقَهُ اللهُ في الأرضِ من الماءِ والتّرابِ الموجودَيْنِ على الأرض هو البكْتِريا، وهي كائناتٌ حَيّةٌ مُتَحَرِّكةٌ وحيدةُ الخليَّة فَرَّقَها ونَشَرَها في الأرض، قال تعالى : “ومِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَثَّ فيهما مِنْ دابَّةٍ”، وجَعَلَ اللهُ لهذهِ الكائناتِ المُتَحَرِّكةِ الوحيدةِ الخليَّة جيناتٍ عامَّةً، ثُمَّ تحَوَّرتْ بعضُ الكائناتٍ الحيَّةٍ المُتَعَدِّدةِ الخلايا بتقديرِ اللهِ وقُدرتِهِ إلى كائناتٍ حيَّةٍ مُتَعَدِّدةِ الخلايا ذواتِ جيناتٍ ذكَرِيَّةٍ، وكائناتٍ حيَّةٍ مُتَعَدِّدةِ الخلايا ذواتِ جيناتٍ أُنْثَوِيّةٍ، ثمّ صارَ كُلٌّ من الكائناتِ الحَيَّةِ المُتَعَدِّدةِ الخلايا ذواتِ الجيناتِ الذّكرِيَّةِ وذواتِ الجيناتِ الأُنثويَّةِ بتقديرِ اللهِ وقُدْرَتِهِ كائناتٍ حَيَّةً ذواتِ خلايا مُتَخَصِّصةٍ، وصارَتْ الخلايا المُتَخَصِّصةُ في الكائناتِ الحَيَّةِ المُتَعَدِّدةِ الخلايا ذواتِ الجيناتِ الذّكرِيَّةِ بتقديرِ اللهِ وقُدرتِهِ تُكَوِّنُ كائناتٍ حَيَّةً ذَكَرِيَّةً، وصارَتْ الخلايا المُتَخَصِّصةُ في الكائناتِ الحَيَّةِ المُتَعَدِّدةِ الخلايا ذواتِ الجيناتِ الأُنْثَوِيَّةِ بتقديرِ اللهِ وقُدرتِهِ تُكَوِّنُ كائناتٍ حَيَّةً أُنْثَوِيَّةً، ثُمَّ اصْطَفى اللهُ تباركَ وتعالى نوعاً من الكائناتِ الحيَّةِ ذَواتِ الخلايا المُتَخَصِّصَةِ التي تُكَوِّنُ كائناتٍ حَيَّةً ذَكَرِيَّةً، وكائناتٍ حَيَّةً أُنْثَوِيَّةً، واصْطَفَى من هذا النَّوعِ كائناً حيّاً ذكرياً، وكائناً حيّاً أُنثويّاً، وجَعَلَهُما في مُحيطٍ بيئيٍّ خاص، قال تعالى في (سورة آلِ عِمران : 33) : “إنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ ..”، وتَدُلُّ الآياتُ التي ذكرتْ خَلْقَ آدم على أنّ المحيطَ البيئيَّ الذي وَضَعَ اللهُ فيه الكائنينِ اللَّذينِ اصْطفاهُما من نوعٍ من الكائناتِ الحيَّةِ ذواتِ الخلايا المُتَخَصِّصَةِ هو طِينٌ مُتَكَوِّنٌ من خليطٍ من ماءٍ وتُرابٍ مأخوذٍ من تُرابِ الأرضِ الذي يَحْتَوِي على جميعِ العناصِرِ الفِلِزيّة واللافلزيّة الموجودة في الأرض، وكان ذلك الطّينُ قد صار بَعْدَ زَمَنٍ لا يَعْلَمُهُ إلّا اللهُ طيناً أسودَ مُنْتِناً تعيشُ فيه بكتريا خاصّة، وصارَ ذلك الطّينُ الأسودُ المُنْتِنُ مُحيطاً بِيئِيّاً يَنْمُو فيه الكائِنان شَبيهاً برَحِمِ المَرْآةِ الذي يَنْمُو فيه الجَنينُ، وعَمِلتْ البكتريا الخاصّةُ الموجودَةُ في الطِّين الأسودِ المُنْتِنِ عُضواً يُشْبِهُ المَشِيمَةَ التي يَتَغَذَّى عليها الجنين في رحِمِ أُمِّهِ، وقد أثبتَتْ الأبحاثُ العِلْميّةُ أنَّ المَشِيمَةَ التي تتكوّنُ في رَحِمِ الأمّ الحامِلِ تَتَكوّنُ بفِعْلِ البكتريا، فكانَ الكائنانِ الذّكرُ والأنثى يَتَغَذَّيان من ذلك العُضْو الذي يُشْبِهُ المَشِيمَةَ، ويأتِيه الغِذاءُ من المُحِيطِ الذي تَكَوَّنَ فيه ذلك العُضْو، ونَما الكائنان كما يَنْمُو الجَنينُ في رَحِمِ الأمّ، وكَوّنتْ الخلايا المُتَخَصِّصَةُ في الكائنِ الحَيِّ الذَّكَرِ، والخلايا المُتَخَصِّصَةُ في الكائنِ الحَيِّ الأُنْثى أعْضاءَ خاصَّةً في كُلٍّ مِنْهُما، وجَعَلَ اللهُ تبارَكَ وتعالى بعِلْمِهِ وتقديرِهِ وقُدْرَتِهِ كُلَّ عُضوٍ في المكانِ الذي قَدَّرَهُ مِنْ بَدَنِ كُلٍّ مِنْهُما، فخَلَقَهُما في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وصارَ كُلُّ منهُما بَشَراً مُكْتَمِلَ الأعْضاء، ثُمَّ جَفَّ الطِّينُ الأسْوَدُ وصارَ يابِساً كالفَخّار، ثُمَّ تَفَطَّرَ فَخَرجَ منهُ الكائنانِ مُكْتَمِلَيْنِ، فكان الذّكَرُ آدمَ، وكانت الأُنثى زوجَهُ، وأمَرَ اللهُ في ذلك الوقتِ الملائكةَ أنْ يُعَظِّمُوا اللهَ في خَلْقِ آدَم بقولِ : (سُبحانَ اللهِ الذي أحْسَنَ خَلْقَكَ، وأعظَمَكَ على مخلوقاتِهِ)، ولم يَذْكُرْ القُرآنُ كيفَ عاشَ آدَمُ وزوجُهُ في البُستانِ أو الحديقة التي وَضَعَهُما اللهُ فيها، وكيفَ كَبِرا حتى صارا بالغَيْنِ مُدْرِكَين، ومتى قال اللهُ لآدمَ وزوجِهِ : “لا تأكُلا من هذه الشَجَرة”، وأقولُ في ختامِ هذا البحثِ الموجَزِ الذي كَتَبْتُهُ في ضوء معاني آياتِ القرآن في خلْقِ آدمَ وزوجِهِ : إنَّ اللهَ تبارَكَ وتعالى قادِرٌ على أنْ يَخْلُقَ الكونَ ويخلُقَ آدمَ وزوجَهُ بقولِ (كُنْ فيكون) ولكنّ اللهَ تباركَ وتعالى أرادَ أنْ يَخْلُقَ كُلَّ شيءٍ في الكونِ بأسبابٍ خَلَقَها بعِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ وتَقديرِهِ وقُدْرَتِهِ، وبهذه الأسباب أوجَدَ اللهُ الكونَ، وكُلَّ شيءٍ في الكونِ) .
ومعنى الآية (26 من سورة الحِجر) : وأُقْسِمُ على سبيلِ التَّوكيدِ لَقَدْ خَلَقْنا الإنسانَ الأوَّل (وهو آدَمُ) من طِينٍ يابِسٍ كائنٍ من طينٍ أسْوَدَ مُنْتِنٍ (أي : مُخَمَّرٍ زَمَناً طويلاً)، ومعنى الآية (14 من سورة الرّحمن) قريبٌ من معنى الآية (26 من سورة الحِجر)، (ويُؤَيِّدُ هذا المعنى ما ذَكَرْتُهُ قبل قليلٍ من أنَّ اللهَ تَبارَكَ وتعالى اصْطَفى من نوعٍ من الكائناتِ الحيَّةِ ذواتِ الخلايا المُتَعَدِّدةِ المُتَخَصِّصَةِ كائناً حيّاً ذكرياً ذا جيناتٍ تختَصُّ بتكوينِ أعضاءٍ مُعَيَّنةٍ فيه، وكائناً حيّاً أُنثويّاً ذا جيناتٍ تختَصُّ بتكوينِ أعضاءٍ مُعَيَّنةٍ فيه، وجَعَلَهُما في مُحيطٍ بيئيٍّ خاص، وتَدُلُّ الآياتُ التي ذكرتْ خَلْقَ آدم على أنّ المحيطَ البيئيَّ الذي وَضَعَ اللهُ فيه الكائنين اللذين اصطفاهُما من نوعٍ من الكائناتِ الحيَّةِ ذوات الخلايا المُتَعَدِّدةِ المُتَخَصِّصَةِ هو طينٌ مُتَكَوِّنٌ من خليطٍ من ماءٍ وتُرابٍ مأخوذٍ من تُرابِ الأرضِ الذي يحتوي على جميعِ العناصر الفِلزيّة واللافلزيّة الموجودة في الأرض، وكان ذلك الطّينُ قد صار بعدَ زَمَنٍ لا يعلمُهُ إلّا اللهُ طيناً أسودَ مُنْتِناً تعيشُ فيه بكتريا خاصّة، وصار ذلك الطّينُ الأسودُ المُنْتِنُ مُحيطاً بيئيّاً ينمو فيه الكائنان شبيهاً برَحِمِ المرآةِ الذي ينمو فيه الجنين، وعَمِلتْ البكتريا الخاصّةُ الموجودةُ في الطين الأسودِ المُنْتِنِ عُضواً يُشْبِهُ المَشِيمَةَ التي يَتَغَذَّى عليها الجنين في رحِمِ أُمِّهِ، وقد أثبتَتْ الأبحاثُ العِلْميّةُ أنَّ المَشِيمَةَ التي تَتَكَوَّنُ في رَحِمِ الأمّ الحامِلِ تَتَكوّنُ بفِعْلِ البكتريا، فكانَ الكائنانِ الذّكرُ والأنثى يَتَغَذَّيان من ذلك العُضْو الذي يُشْبِهُ المَشِيمَةَ، ويأتيه الغذاءُ من المُحيطِ الذي تَكَوَّنتْ فيه بفِعْلِ البكتريا، وتَدُلُّ الآياتُ التي ذكرتْ خَلْقَ آدم على أنَّ ذلك الطينَ الأسودَ المُنْتِنَ الذي نَما فيه الكائنان واكتملا جَفَّ بعدَ زَمَنٍ، وصار يابساً كالفخّار، ثُمَّ تَفَطَّرَ فَخَرجَ منه الكائنانِ مُكْتَمِلَيْنِ، فكان الذّكَرُ آدمَ، وكانت الأُنثى زوجَهُ، وهما أوَّلُ إنسانٍ خَلَقَهُ اللهُ في الأرض)، ومعنى الآية (12 من سورة المُؤمنون) : وأُقْسِمُ على سبيلِ التَّوكيدِ لَقَدْ خَلَقْنا الإنسانَ الأوَّلَ (وهو آدَمُ) من كائنٍ مُسْتَلٍّ من طينٍ، ومُنْتَزَعٍ منه، ومعنى الآيات (7 من سورة السّجْدة)، و(71 من سورة ص)، و(11 من سورة الصّافّات)، و(2 من سورة العَلَق) قريبٌ من معنى الآية (12 من سورة المُؤمنون)، وكذلك معنى (الآية 20 من سورة الرّوم)، و الآية (11 من سورة فاطر) قريبٌ من معنى الآية (12 من سورة المُؤمنون)، لأنَّ التُرابَ إذا اختَلَطَ بالماءِ الذي خَلَقَهُ على سَطْحِ كوكبِ الأرض وفي باطنِها تَكَوَّنَ الطينُ الذي هو أصْلُ خَلْقِ الإنسان الأوّل (ويُؤَيِّدُ هذا المعنى ما ذَكَرْتُهُ قبل قليلٍ من أنَّ المعروفَ عِلْميّاً أنَّ البكتريا تتَوَلَّدُ في الطّين الذي يَتَكَوَّنُ من اختلاطِ تُرابِ الأرضِ بالماء، فالماءُ المُختَلِطُ بتُرابِ أرض الكواكِبِ والمَجَرّاتِ وعلى سُطُوحِها بَعْدَ الانفجارِ الكوني هو أصْلُ وجودِ البكتريا التي هي أصْلُ الكائناتِ الحيّةِ ذواتِ الحَرَكةِ والنَّماء، وأنَّ اللهَ تبارك وتعالى اصْطَفى نوعاً من الكائناتِ الحيَّةِ ذوات الخلايا المُتَعَدِّدةِ المُتَخَصِّصَةِ، واصْطَفى منه كائناً حيّاً ذكرياً ذا جيناتٍ تختَصُّ بتكوينِ أعضاءٍ مُعَيَّنةٍ فيه، وكائناً حيّاً أُنثويّاً ذا جيناتٍ تختَصُّ بتكوينِ أعضاءٍ مُعَيَّنةٍ فيه، وجَعَلَهُما في طينٍ، ثُمَّ اسْتَلَّ اللهُ من ذلك الطينِ الكائنين بعد أنْ اكْتَمَلَ نُمُوُّهما، وبعدَ أنْ جَفَّ ذلك الطّينُ، وصار يابساً، ثُمَّ تَفَطَّرَ فانْتَزَعَ اللهُ منه الكائنينِ مُكْتَمِلَيْنِ، فكان الذّكَرُ آدمَ، وكانتْ الأُنثى زوجَهُ) .
وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٣٤
المعنى في ضوء التحليل االلغوي :
34– وذَكِّرْ بني إسرائيل المَوْجُودِينَ في المَدِينَةِ حين قُلنا للملائِكَةِ : عظِّموا آدمَ بقولِ : سُبحانَ اللهِ الذي أحْسَنَ خَلْقَكَ، وأعظَمَكَ على مخلوقاتِهِ، (يَدُلُّ النّظْمُ على أنّ إبليسَ كان في جُملةِ الملائكةِ، فهو داخلٌ مَعَهُم في الأمْرِ)، فعَظَّمُوهُ بقولِهم : سُبحانَ اللهِ الذي أحْسَنَ خَلْقَكَ، وأعظَمَكَ على مخلوقاتِهِ إلّا إبليسَ حالةَ كونِهِ قد اسْتَعْصَى على أمْرِنا، وامْتَنَعَ عن إطاعَتِهِ مُعانَدَةً وتَكَبُّراً، وكان حينئذٍ من الجاحِدِينَ العاصين لأمْرِنا، (يَدُلُّ السِّياقُ على أنّ إبليسَ كان من الجنِّ ولم يَكُنْ من الملائكةِ، ولكنّهُ كان في جُمْلتِهم، فهو داخلٌ مَعَهُم في الأمْرِ بالسُّجودِ بدليل قولِهِ تعالى في (سورة الكهف، الآية : 50) : “فسَجَدُوا إلّا إبليسَ كان من الجِنِّ”، ويَدُلُّ ارتباطُ الأمْرِ بسُجودِ الملائكَةِ لأدم بقولِهِ تعالى إنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ شيءٍ يُظْهِرونَهُ من الفِعْلِ، ويعلمُ كُلَّ شيءٍ يسْتُرونَهُ ويُخفونَهُ في أنْفُسِهم على أنّ اللهَ تعالى يَعْلَمُ أنَّ الملائكةَ كانوا يُخْفُونَ في أنفُسِهم أنّهم أفْضَلُ خَلْقٍ خَلَقَهُ اللهُ في السَّماواتِ والأرضِ بما أعطاهم اللهُ من القُوى والقُدُراتِ على إنجازِ أوامِرِ اللهِ في السَّماواتِ والأرضِ، ويُخْفُونَ في أنفُسِهم أنّهم خيرٌ من المَخْلُوقِ الذي يَسْتَخْلِفُهُ مِمَّنْ قَبْلَهُ في الأرضِ، ويَعْلَمُ أنَّ إبْلِيسَ الذي كان في جُملتِهم يَسْتُرُ ذلك في نفسِهِ ويُخفيه، ويَعْلَمُ اللهُ تعالى زِيادَةً على ذلك أنَّ إبليسَ كان يُخْفِي في نَفْسِهِ الكِبْرياءَ، ويُخْفِي في نَفْسِهِ اعتقادَهُ أنَّهُ أفضلُ من الملائكةِ، وأنّهُ يُضاهِي اللهَ تعالى في القُدْرَةِ، فأرادَ اللهُ أنْ يُظْهِرَ مَنْ يُطيعُ أمْرَهُ بالسُّجُودِ لآدَمَ مُتَمَيّزاً عن الذي يَعْصِي أمْرَهُ، ويمتَنِعُ عن فِعْلِهِ مُعاندةً وتكبُّراً، فكانَ الأمْرُ بالسُّجودِ لآدمَ اختباراً للملائكةِ وإبليسَ الذي هو في جُمْلَتِهم، فظَهَرَ عِلْمُ اللهِ بما كانَ إبليسُ يكتُمُهُ في ذاتِهِ، و ظَهَرَ لهم عَلِمُهُ بكُلِّ شيءٍ يُظْهِرونَهُ من الفِعْل، وكُلِّ شيءٍ يسْتُرونَهُ ويُخفونَهُ في أنفسهم، ويَدُلُّ مجيءُ الآياتِ في سياقِ الكلام عن اليهودِ على أنَّ الله تعالى أراد من تذكيرِهم بقِصّةِ خَلْقِ آدم أنْ يُنَبِّهَهم إلى عِدّة أمور، الأوّل : أنّ اللهَ يعلمُ غَيْبَ السَّماواتِ والأرضِ، فما يفعلُهُ في السّماواتِ والأرضِ مُطابقٌ لعلمِهِ، ومن ذلك بَعْثُهُ مُحَمَّداً (ص) رسولاً في آخِرِ الرُّسُلِ، فلا يجوزُ لأحدٍ أنْ يَعْتَرِضَ على فِعْلِ الله هذا، ولا أنْ يُنْكِرَ نُبوَّتَهُ أو يُشَكِّكَ فيها، الثّاني : أنَّ اللهَ يعلمُ ما يجهرُ به المنافقون واليهودُ من قول أو فِعْلٍ، ويَعْلَمُ ما يَسْتُرُونَهُ ويُسرّونَهُ في أنْفُسِهم من قولٍ أو فِعْلٍ، الثّالثُ : أنَّ الله يُحَذّرُهم أنْ لا يَحْمِلُهُم اسْتِكبارُهم وحَسَدُهم على عَدَمِ الإيمانِ برسولِهِ مُحَمّدٍ وبالقرآن الذي أننْزَلَهُ إليه) .
وَقُلۡنَا يَٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٣٥ فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ ٣٦ فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ٣٧ قُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ مِنۡهَا جَمِيعٗاۖ فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٣٨ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٣٩
المعنى في ضوء التحليل االلغوي :
35 – وذَكِّرْ بَنِي إسْرائِيلَ المَوْجُودِينَ في المَدِينَةِ حينَ قُلْنا لآدَمَ : يا آدَمُ، اسْتَوْطِنْ أنتَ وزوجُكَ هذِهِ الجَنَّةَ (أي : الحَدِيقَةَ ذاتَ النَّخْلِ والأشجارِ المُثْمِرَةِ)، وأقِيما فيها، وكُلا من ثَمَرِها أكْلاً واسِعاً غيرَ مَحْدُودٍ بمِقْدارٍ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ ولا مَشَقَّةٍ في أيِّ مكانٍ تُرِيدانِ، وأنْهاكُما عن أنْ تًدْنُوَا من هذِهِ الشَّجَرَةِ، وتُباشِرا الأكْلَ من ثَمَرِها، فتَصِيرا بسَبَبِ الأكْلِ مِنْها من الحائِدِينَ عن طاعَةِ الله بعِصْيانِ أمْرِهِ، (يَدُلُّ قوله : (وزوجك) على أنَّ اللهَ تعالى خلقَ آدَمَ وزوجَهُ في وقتٍ واحِدٍ، ويَدُلُّ خلْقُ آدمَ وزوجِهِ في الأرْضِ، والأمْرُ بأنْ يَسْكُنَ الجَنَّةَ التي عَرَّفَها لَهُ على أنَّ تلكَ الجَنَّةَ (أي : الحَدِيقَةَ) كائِنَةٌ في مكانٍ في الأرْضِ، وليس جَنَّةً في السّماءِ، ويَدُلُّ السّياقُ على أنَّ الأوامِرَ والنَّواهِي مُوَجَّهَةٌ إليهما معاً، فكلاهُما مُكَلَّفانِ)
36 – فسَكَنا فيها، وأكَلَا منها رَغَداً، ثُمَّ زَيَّنَ لهما الشيطانُ الأكْلَ من الشَّجَرَةِ التي نَهاهُما رَبُّهُما عن الأكْلِ منها، وأغْراهما بالأكْلِ منها (المُرادُ بـ(الشيطان) هنا : إبليسُ، وسَمّاهُ ربُّهُ شيطاناً، لأنّه خالفَ أمْرَ ربِّهِ وتمرّدَ عليه، وبَعُدَ عن الحَقِّ)، فأكَلَا منها، فتَسَبَّبَ الشَّيْطانُ في تَنْحِيَتِهِما عن الجنَّةِ (أي : عن الحَدِيقَةِ ذاتِ النَّخْلِ والأشْجارِ المُثْمِرَةِ، ويَدُلُّ المعنى على أنَّهُما أُزِلّا عنها بإغواءِ الشَّيطانِ إيّاهُما، كما تقولُ للذي يَعْمَلُ ما يَكونُ وُصْلَةً إلى أنْ يَحْمِلَكَ على أنْ يَزِلَّكَ من حالٍ جميلةٍ إلى غيرِها : أنْتَ أزْلَلْتَني عن هذا، أي : قبولي منك أزَلَّني، وهذا يعني : أنَّ الشَّيطانَ فَعَلَ وُصْلَةً لحَمْلِهِما على الزَّلَل بقبولِهِما ما فَعَلَهُ أمامَهما، وأعتقدُ أنَّ الشَّيطانَ فَعَلَ أمامَهُما وُصْلَةً إعلاميَّةً لإقناعِهِما بالأكْلِ من الشّجرةِ ليُنَحِّيهما عن الجنّة، كأنْ فَعَلَ مَشْهَداً إعلاميّاً بعَرْضِ مَنافِعِ الأكْلِ من الشَّجَرة، والأضرارِ المُتَرَتِّبةِ على عَدَمَ الأكْلِ مِنها، وهذا المَشْهَدُ الإعلامي أثارَ في نَفْسِ آدمَ وزوجِهِ حديثاً بناءً على ما عَرَضَهُ الشّيطانُ أمامَهُما، وهو ما يُسَمَّى بـ(حديثِ النَّفْسِ)، أو وَسْوَسَة النَّفْسِ لآدمَ وزوجِهِ بتَزْيينِ القَبُولِ بالأكْلِ من الشَّجَرةِ)، وجَعَلَهما يَخْرُجان من المكانِ الذي كانا فيه، ويَنْفَصِلانِ عَنْهُ، وقُلْنا لآدَمَ وزَوْجِهِ وإبْليسَ : اذْهَبُوا مِنْها إلى مَكانٍ في الأرضِ حالةَ كونِ بَعْضِكُم عَدُوَّاً لبَعْضٍ (الخِطابُ لآدمَ وزوجِهِ وإبليس، و(واو الجماعة) في (اهْبِطُوا) كِناية عن آدَمَ وزوجِهِ وإبليس، فجَمَعَهُم اللهُ في الهُبُوطِ، وهذا لا يُعارِضُ كونَ وَقْتِ هُبُوطِ إبليس مُخْتَلِفاً عن وَقْتِ هُبُوطِ آدَمَ وزَوجِهِ)، ولَكُمْ في الأرض مَسْكَناً ومقاماً، ولَكُمْ فيها ما تَنْتَفِعُونَ بِهِ في عَيْشِكُم إلى وَقْتٍ في عِلْمِ اللهِ (يَدُلُّ السِّياقُ أنَّهُ وَقْتُ القِيامَةِ)
37 – فنَدِمَ آدمُ وزَوْجُهُ، فاسْتَقْبَلَ آدمُ من رَبِّهِ جُمَلاً من الكلامِ يَدْعُو بِهِنَّ اللهَ ليَتُوبَ عليه، فوَفَّقَهُ اللهُ للتَّوْبَةِ، فأخَذَها بالقَبُولِ، ودَعَا بها اللهَ، فقَبِلَ اللهُ توبَتَهُ وعَفَا عنه، لأنّه كثيرُ قبولِ التَّوبة، كثيرُ الرَّحمةِ بعبادِهِ (يَدُلُّ معنى الآية على أنَّ اللهَ تعالى أرادَ أنْ يُعَرِّفَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ َأنَّ فِعْلَ الذّنْبِ، ثُمَّ الاعترافَ بِهِ للرَّبِّ تباركَ وتعالى، والنَّدَمَ على فِعْلِهِ، وطَلَبَ المَغْفِرَةِ منه يكونَ وَسِيلَةً إلى أنْ يتوبَ الرَّبُّ على فاعِلِهِ، ويَدُلُّ المعنى على أنَّ الإنسانَ يُمكنُ أنْ يَفْعَلَ الذَّنبَ بتَزْيِينِ الشّيطانِ لَهُ، ولكن عليه أنْ يَنْدَمَ، ويَتُوبَ إلى رَبّهِ مِمّا فعَلَهُ، ويَدُلّ على أنَّ اللهَ يُوَفِّقُ الإنسانَ الذي يَنْدَمُ على فِعلِ الذّنْبِ إلى التّوبَةِ بإيجادِهِ سُبُلَ التَّوبَةِ له، وعلى أنَّ الإنسانَ الذي لا يعترفُ بالذّنْبِ لربِّهِ، ولا يَنْدَمُ على فِعْلِهِ لا يُوَفِّقُهُ ربُّهُ إلى التَّوْبَةِ)
38 – قلنا : اذْهَبُوا مِنْ الجَّنَّةِ وائْتُوا أيَّ مكانٍ في الأرض حالةَ كونِكم مُجْتَمِعِينَ، (يُؤَكِّدُ لفظُ (جميعاً) أنَّ الخِطابَ مُوَجَّهُ لآدمَ وزَوْجِهِ وما جَعَلَ اللهُ فيهما من الذُّرِّيَّةِ في الأرضِ)، فإمّا يأتِيَنَّكم مني بيانٌ يُعَرِّفُهُم وُجُوبَ تَوْحِيدِي وسَبِيلَ عِبادَتِي، وما آمُرُهُم بِهِ وما أنْهاهُم عَنْهُ – وأُؤَكِّدُ أنَّهُ سيأتيكم بَيانِي وحُجَّتي – فالذين عَمِلُوا بما جاءَهُم من الهُدَى، وأطاعُوا أمْرِي ونَهْيِي، ولَمْ يَعْصونِي فلا خوفٌ كائنٌ عليهم من شقاءٍ في الحياةِ الدُّنيا، ولا خوفٌ كائنٌ عليهم من عذابِي في الحياةِ الآخرةِ، ولا هُمْ يُصيبُهم كَرْبٌ ولا حُزْنٌ في الحياة الدُّنيا والآخرة (يَدُلُّ المعنى على أنَّ المُرادَ بـ(الهدى) ما يُوحِيِهِ اللهُ إلى رُسُلِهِ من ذُرِّيَّةِ آدَمَ من الدِّينِ أو الشَّرِيعَةِ التي تُبَيِّنُ الحُجَجَ على وَحْدانِيّةِ اللهِ، ونَفْيِ وُجودِ شَريكٍ مَعَهُ، وتَبَيِّنُ الأحكامَ والوصايا والإرشاداتِ والمعارفَ الإلهيَّةَ التي يأتي بها رُسُلُهُ إلى بني آدمَ في الأرض، فأعْلَمَ اللهُ آدَمَ وزَوْجَهُ بهذا القولِ أنَّ اللهَ سَيَبْتَلِي ذُرِّيَّتَهُما بالطّاعَةِ والمَعْصِيَةِ، ويَدُلُّ السِّياقُ على أنَّ هذا الأمْرَ وَقَعَ عِنْدَ خُرُوجِهِما من الجنَّةِ، وذهابِهِما مِنْها إلى مكانٍ آخَرَ في الأرضِ)
39 – والذين لم يُؤمِنُوا بآياتِنا التي نُرْسِلُ بها رُسُلَنا، وأنكروها وجَحَدوها أولئك مُلازِمُونَ النّارَ حالةَ كونِهم مُقيمِين فيها إقامَةً دائِمَةً (يَدُلُّ المعنى على الذين يَعْصُونَ اللهَ فيما يأمُرُهُم بِهِ وفيما يَنْهاهُم عنه من الأمْرِ بتوحِيدِهِ والنَّهْي عن اتِّخاذِ شُركاءَ مَعَهُ، ويَعْصُون اللهَ في تكْذِيبِ رُسُلِهِ، والإعراضِ عن الدِّينِ أو الشَّرِيعَةِ التي يُرْسِلُ بها إليهم رُسُلَهُ) .
يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِيٓ أُوفِ بِعَهۡدِكُمۡ وَإِيَّٰيَ فَٱرۡهَبُونِ ٤٠ وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلۡتُ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُمۡ وَلَا تَكُونُوٓاْ أَوَّلَ كَافِرِۢ بِهِۦۖ وَلَا تَشۡتَرُواْ بَِٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗا وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ ٤١ وَلَا تَلۡبِسُواْ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُواْ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٤٢ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱرۡكَعُواْ مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ ٤٣ ۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ٤٤ وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ ٤٥ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ ٤٦
المعنى في ضوء التحليل االلغوي :
40 – يا بني إسْرائيلَ المَوْجُودِينَ في المدينةِ زَمَنَ رسولي مُحَمَّدٍ (المُرادُ بهم أحبارُ بني إسرائيلَ وعُلماؤهم)، اذْكُرُوا صنائِعي الحَسَنَةَ بأسلافِكم الذين أنْتُمْ منهم، وفَضْلي ومِنَّتِي عليهم التي أعطيتُهُم إيّاها (من صنائعِهِ تعالى الحَسَنةِ عليهم إنجاؤهم من فِرعونَ ومَلَئِهِ الذين كانوا يسومونَهم سوءَ العذابِ، ويُذَبِّحونَ أبناءَهم ويَسْتحيُون نساءَهم، ومن فَضْلِهِ ومِنَتِهِ عليهم اختيارُهُ منهم أنبياءَ، وإنزالُهُ إليهم الشريعةَ المُشتملةَ على أحكام القضاءِ في الخصوماتِ، والأحكامِ التي تُنَظِّمُ حياتَهم الاجتماعيةَ والدِّينِيَّةَ، وعلى الوصايا التي تَهديهم إلى عبادتِهِ وتوحيدِهِ، ومن نِعَمِهِ عليهم إتيانُهم المُلْكَ زمنَ داودَ وسُليمانَ، وإعطاؤُهم نِعَمَاً كثيرةً غيرَها)، وأُوفوا بعهدي الذي أخذتُهُ عليكم بواسطةِ أنبيائِكم، وأكَّدْتُمُوهُ على أنفُسِكم (عهدُهُ الذي أخَذَهُ عليهم، وأكَّدوهُ على أنْفُسِهم بالقَسَمِ عليه أنْ يُصَدِّقوا بخاتَمِ الرُّسُلِ مُحَمّدٍ (ص) حينَ يَبْعَثُهُ اللهُ، وبالكتابِ الذي يُنْزِلُهُ إليه)، وإنْ تُوفوا بعَهْدِي بالعَمَلِ به أُوفِ بعهدِي لكم بأنْ لا يَقَعَ عليكم خوفٌ ولا غَضَبٌ منّي في الدُّنيا، وأنْ أُدْخِلَكم الجنّةَ في الآخرةِ، وإيّايَ احذروا، فخافوا غضبي (يَدُلّ الاتيانُ بالآية في سياقِ قصّةِ آدم على تذكيرِ بني إسرائيل بأنّهم وجميعَ النَّاسِ من أصلٍ واحدٍ هو (آدم)، فلا يَحِقُّ لهم أنْ يُفَضِّلوا أنْفُسَهم على جميعِ النّاسِ، وإذا كانُوا يعتقدونَ أنَّ اللهَ تعالى قد خَصَّهم بأنّهُ اختارَ منهم الأنبياءَ لأنَّهم أبناءُ يعقوب (إسرائيل) الذي هو حفيدُ رسولِ اللهِ إبراهيم فإنَّ اللهَ قادِرٌ على أنْ يختارَ من ذُرّيّةِ إسماعيلَ الذي هو حفيدُ رسولِ اللهِ إبراهيم رسولاً إلى الناسِ، ويدلُّ الاتيان بالآيةِ في سياقِ قصّةِ آدم على تحذيرِ عُلماءِ بني إسرائيل وأحبارِهم الموجودين في المدينةِ زَمَنَ بِعْثَةِ الرَّسولِ مُحَمّدٍ (ص) من أنْ يستزِلَّهم الشَّيطانُ فيُضلَّهم عن الإيمانِ بخاتمِ الرُّسُلِ مُحَمّدٍ (ص)، كما استَزَلَّ الشيطانُ آدمَ وزوجَه، فأخْرَجهما من نِعْمَةِ الله، ويَدُلُّ المعنى على أنّ الإيمانَ بخاتمِ الرُّسُلِ مُحَمّدٍ (ص) وبالقرآنِ الذي أُنْزِلَ إليه عهدٌ أخَذَهُ الله منهم بواسطةِ أنبيائِهم، وأنَّ أسلافَهم أكّدوهُ على أنفُسِهم بالقَسَمِ عليه)
41 – وآمنوا بالقرآنِ الذي أنْزَلْتُهُ على رسولي مُحَمّدٍ حالةَ كونِهِ مُثْبِتاً للكتابِ الذي وُجِدَ معكم، ومُعترِفاً به، ولا تكونوا أوَّلَ فريقٍ من النّاسِ جاحدٍ بالقرآن، مُنْكرٍ لَهُ، ولا تأخذوا ثمَناً قليلاً بَدَلَ حُجَجي الدّالةِ على أنَّ مُحَمَّداً رَسُولِي الذي أخَذْتُ العَهْدَ من أسلافِكم بالتَّصْديقِ بهِ حينَ أبْعَثُهُ، وبالكتابِ الذي أُنْزِلُهُ إليه (الثّمنُ القليلُ الذي أخَذوهُ مُقابلَ كتمانِ حُجَجِ اللهِ الدّالّةِ على نُبُوَّةِ مُحَمّدٍ (ص)، وعلى إنزالِ اللهِ القرآنَ إليه، وعَدَمِ بيانِها لعامّةِ اليهود هو الحِفاظُ على مصالحِهم ومنافعِهم الدُّنيويّة التي هي ثَمَنٌ قليلٌ بالقياسِ إلى نَعيم الآخرة)، وإيايَ احذروا، فخافوا عذابي، واحفظوا أنفُسَكم منه (يدلُّ المعنى على أنَّ المُخاطَبين بالأمْرِ والنَهْيَ في الآية هم عُلماءُ بني إسرائيل وأحبارُهم المَوْجُودُون في المدينة زَمَنَ رَسُولِ اللهِ مُحمّدٍ)
42 – ولا تَخْلِطُوا على عامّةِ اليهودِ الحقَّ الذي لا شَكَّ فيه بالباطِل الذي لا حقيقةَ لهُ حتى لا يَعْرِفُوا الحقَّ، (المُرادُ بـ(الحقّ) بِعْثَةُ الرّسولِ مُحمَّدٍ، وإنزالُ اللهِ القرآن إليهَ، والمُرادُ بـ(الباطل) قولُهم لعامّة اليهود : إنّ مُحَمّداً ليس هو الرّسولَ الذي بَشَّرَ به أنبياءُ بني إسرائيل، وأخَذَ االلهَ عليهم العَهْدَ بوجوبِ التَّصديقِ به حين يَبْعثُهُ، وإنَّ القرآنَ الذي يَدَّعي مُحَمّدٌ أنّهُ مُنْزَلٌ إليه من اللهِ يُخالفُ ما جاءَ من الإحكام الموجودةِ معنا في الشريعة التي بعثَ اللهُ بها أنبياءَ بني إسرائيل، ولو كانَ مُحمَّدٌ رسولَ اللهِ، وكان القرآنُ نازلاً إليه من اللهَ لما خالفَ القرآنُ أحكامَ اللهِ في الشريعةَ التي بَعَثَ بها أنبياءَ بني إسرائيل)، ولا تَسْتُروا الحَقَّ حالةَ كونِكم تَعْلَمونَ أنّهُ حقٌّ نازلٌ من الله إلى رسولِهِ مُحمّدٍ، (يدلُّ النهُيُ عن إلباس الحقِّ بالباطلِ، وعن سَتْرِ الحَقِّ على أنَّ هذا الفِعْلَ حرامٌ يُعاقِبُ اللهُ عليه)
43 – وأدّوا الصَّلاةَ التي شَرَعها اللهُ لَكُم مُوَفَّىً حَقُّها (يَدُلُّ المعنى على أنّ الصلاةَ مفروضةٌ على بني إسرائيل، وكانوا يُؤدّونها بالطريقةِ التي وَرِثُوها عن أسلافهم)، وأعْطُوا الزَّكاةَ التي شَرَعها اللهُ لكم ((الزَّكاةُ) في شريعة بني إسرائيل حِصّةٌ من المالِ واجبٌ عليهم بذلُها للفقراءِ كما هي في شريعةِ الإسلام تطهيراً لأنْفُسِهم من خِصْلَةِ البُخْلِ)، واخْضَعوا لله، وانقادوا لَهُ مَعَ المُصَلِّينَ الخاضِعين المُنقادين لَهُ فيما أمَرَهم بِهِ
44 – أتأمرون عامّةَ اليهودِ بالتَّوَسُّعِ في طاعةِ اللهِ، وتَتْرُكونَ أنفسَكم على عَمْدٍ حالةَ كونِكم تَقْرَؤُونَ التَّورَاةَ المُشتملةَ على الفرائِضِ والأحكامِ والوصايا، ولا تَعْمَلُون بها طاعةً لله ؟ (يَدُلُّ المعنى على أنّ علماءَ اليهود وأحبارَهم يأمرونَ عامّةَ اليهود بالتَّوَسُّعِ في طاعةِ الله، ويَتْرُكونَ أنفسَهم على عَمْدٍ، فلا يَعْمَلُونَ بما جاء في التّوراةِ من وجوب أداءِ الصلاة مُوَفَّىً حقّها، ووجوبِ إعطاء حِصّة من المال للفقراء، ووجوب الخضوعِ والانقيادِ لله فيما أمَرَ به ونهى عنه، ويدلّ معنى الاستفهام على معنى : بِئْسَ الفِعلُ فِعْلُكم)، فلماذا لا تُدْرِكُونَ أنّ الذي تفعلونَهُ قبيحٌ مُخالفٌ لما جاءَ في التوراة ؟
45 – واسْتَعِينُوا على شهواتِ أنْفُسِكُم وأهوائِها، وعن حُبِّ الرِّئاسَةِ على عامَّةِ اليَهُودِ بَحَبْسِ أنْفُسِكُم على طاعَةِ اللهِ فيما أمَرَكُم بِهِ وفيما نهاكُم عَنْهُ، وبأداءِ الصَّلاةِ طاعةً للهِ، وأُؤَكِّدُ أنَّ أداءَ الصَّلاةِ طاعَةً للهِ لَفِعْلَةٌ عَظِيمَةٌ تَعْظُمُ على الذين يَطِيعُونَ شَهَواتِ أنْفُسِهِم ويُحِبُّونَ الرِّئاسَةَ، لكنْ على المُتواضِعِينَ الخاضِعِينَ المُطِيعِينَ لرَبِّهِم
46 – الذين يُوقِنون أنّهُم مُلاقو جزاءِ رَبِّهِم، وأنّهم راجعونَ إليه وَحْدَهُ يومَ القيامةِ للجزاءِ والحِسابِ يَسِيرَةٌ خَفِيفَةٌ (يَدُلُّ المعنى على أنَّ المُؤمِنَ بنُبُوَّةِ رَسُولِ اللهِ مُحَمَّدٍ وبالقُرآنِ الذي أنْزَلَهُ اللهُ إليه حينَ يُؤَدِّي الصَّلاةَ طاعَةً للهِ، ويَسْتَشْعِرُ فيها وَقوفَهُ أمامَ جَبَّارِ السَّماواتِ والأرضِ، ويَقْرَأُ فيها ما يُقَرِّبُهُ إلى اللهِ، ويُرَغِّبُهُ في ثَوابِهِ ويُزَهِّدُهُ في مَنافِعِ الدّنيا غيرِ الدّائِمَةِ يَكُونُ مُوقِناً بأنَّهُ سيُلاقِي جزاءَ رَبِّهِ يومَ القِيامَةِ، ويَكونُ في حياتِهِ الدُّنيا مُتَواضِعاً خاضِعاً مُطِيعاً لرَبِّهِ، فيَزْهَدُ في مَنافِعِ الدُّنيا وحُبِّ الرِّئاسَةِ، فلا يَسْتُرُ الحَقَّ، أو يَخْلطُهُ على عامَّةِ النّاسِ بالباطِلِ لأجْلِ مَنافِعِ الدُّنيا وحُبِّ الرِّئاسَةِ) .
يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَنِّي فَضَّلۡتُكُمۡ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ٤٧ وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا يُؤۡخَذُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ ٤٨
المعنى في ضوء التحليل االلغوي :
– 47 – يا بني إسرائيلَ الموجودينَ في المدينة (المُرادُ بهم أحبارُ بني إسرائيل وعُلماؤهم)، اذكروا صنائِعي الحَسَنَةَ بأسلافِكم الذين أنْتُمْ منهم، وفَضْلي ومِنَّتي عليهم التي أعطيتُهُم إيّاها، واذْكُرُوا أنّي جَعَلْتُ أسلافَكم أفْضَلَ من النّاسِ الذين كانوا في زَمَنِهم (يَدُلُّ معنى التَّفْضِيل هنا على أنَّ تفضيلَ اللهِ إيّاهم على النّاسِ في زمانِهم كان بسَبَبِ كونِهم مُوَحّدين على دينِ إبراهيم في ذلك الزّمان، وكونِهم من ذُرّيةِ إبراهيم، وباختيارِ الأنبياءِ منهم)
48 – وخافوا يوماً صفتُهُ أنَّهُ لا يجزي أيُّ إنسانٍ عن إنسانٍ آخَرَ شيئاً من الجَزاءِ، ولا يَقْبَلُ اللهُ فيه الطَّلَبَ من مخلوقٍ إلى مخلوقٍ أنْ يُكلِّمَ اللهَ له ليتجاوَزَ عن ذُنُوبِهِ، ولا يأخُذُ اْللهُ فيه فِدْيةً ولا بَدَلاً من أحدٍ، ولا يُنَجّيهم فيه أحَدٌ ويُخَلِّصُهم من عذابِ الله، واحْفَظُوا أنْفُسَكُم من عِقابِ اللهِ فيه للمُكَذِّبين بنُبُوَّةِ رسولِهِ مُحَمَّدٍ، وبالكِتابِ الذي أنْزَلَهُ إليه (يَدُلُّ المعنى على أنَّ اللهَ تعالى أرادَ أنْ يُخَوِّفَ عُلماءَ اليهودِ الموجودين في المدينةِ وأحبارَهم، وعامّةَ اليهودِ من عذابِ اللهِ يومَ القيامةِ بسببِ عَدَمِ التصديقِ بنُبوّةِ رسولِهِ مُحَمّدٍ، وبالقُرآن الذي أُنْزِلَ إليه، ويُحَذِّرَهم من أنَّ أسلافَهم لا يشفعون لهم يومَ القيامة، ولا يدفعون عنهم شيئاً من العذاب، ويَدُلُّ المعنى على أنّ ما يَعْتَقِدُهُ اليهودُ بأنّهم أحِبّاءُ الله، ومُقَرَّبون إليه، وأنّ آباءَهم يشفعون لهم باطِلٌ لا صِحّةَ له) .
وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ ٤٩ وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ ٥٠
المعنى في ضوء التحليل االلغوي :
49 – واذكروا صَنيعَتَنا الحَسَنَةَ بكم، ومِنَّتَنا وفَضْلَنا عليكم حين خلّصْنا أسلافَكم من آلِ فرعونَ حالةَ كونِهم يُلْزِمونَهم العذابَ السَّيِّئَ، ويُجْبِرونَهم عليه إذْلالاً لهم، أي : يُكْثِرونَ القَتْلَ في أبنائِكم الذُّكورِ، ويَتركونَ نساءَكم أحياءً للخدمةِ والاسْتِرْقاقِ، وفي ذلكم العذابِ والخلاصِ مِنْهُ امتحانٌ عظيمٌ من ربّكم لكم، (يَدُلُّ النَّظْمُ على معنى : فاشكروا اللهَ بطاعتِهِ فيما أمَرَكم بهِ من الإيمانِ برسولِهِ مُحَمّدٍ، وبالقرآن الذي أنْزَلَهُ إليه)
50 – واذكروا صَنيعَتَنا الحَسَنَةَ بكم، ومِنَّتَنا وفَضْلَنا عليكم حين قَسَمْنا البحرَ حالَةَ كونِهِ مُلْتَبِساً بأسلافِكم إلى قسْمَيْنِ، فخلّصناهم من فرعونَ وجنودِهِ، وأغْرَقْنا فرعونَ وخاصَّتَهُ وقُوّادَهُ ووزراءَهُ حالةَ كونِ أسلافِكم يُبْصِرونَهم ويتأمَّلونَهم بأعْيُنهم، (يَدُلُّ النَّظْمُ على معنى : فاشكروا اللهَ بطاعتِهِ فيما أمَرَكم به من الإيمانِ برسولِهِ مُحَمّدٍ، وبالقرآن الذي أنْزَلَهُ إليه، وهناك اختلافٌ كبير بين المُفسّرين والباحثين وأصحاب الدّيانات حول اسم البحر الذي انْشَقَّ لموسى بإذن الله، فعبَرَهُ مع بني إسرائيل، وحولَ مكان العبور، وسببُ هذا الاختلافِ أنَّ أيَّاً من الكُتُبِ المُقدّسة للدّيانات السّماوية الثلاث لم يُشِرْ بنصٍّ صريحٍ إلى ذلك) .
وَإِذۡ وَٰعَدۡنَا مُوسَىٰٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗ ثُمَّ ٱتَّخَذۡتُمُ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَنتُمۡ ظَٰلِمُونَ٥١ ثُمَّ عَفَوۡنَا عَنكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٥٢ وَإِذۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡفُرۡقَانَ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ ٥٣
المعنى في ضوء التحليل االلغوي :
51 – واذكروا حينَ واعَدْنا موسى على أنْ نُوافِيَهُ في جَبَلِ البطُّورِ في أربعينَ ليلةً (تدلُّ الآيات 142 – 145 من سورة الأعراف على أنّ اللهَ تعالى واعدَ موسى أنْ يُوافِيَهَ في جَبَلِ الطّورِ في أربعين ليلةً لإنزالِ ألواحِ التوراة عليه)، ثمَّ اتَّخَذَ أسلافُكُم العِجْلَ إلهاً من بعد غيابِهِ لأجْلِ أنْ يعبدُوهُ حالةَ كونِهم عادِلين عن توحيدِ اللهِ وإخلاصِ العبادةِ لَهُ
52 – ثمَّ عَفَوْنا عن أسلافِكم بعَدَمِ مُعاقَبَتِهم من بعد ذلك الفِعْلِ الذي فعلوه، (وهو اتّخاذُهم العِجْلَ إلهاً)، لكي تَشْكُرُوا اللهَ على عَفْوِهِ عن أسلافِكم، وهذا هو المطلوبُ منكم (يَدُلُّ (لعلّكم تشكرون) على أنَّ شُكْرَكُم اللهَ على ذلك يُرْجَى بِهِ الهَداية إلى الإيمانِ برسولِهِ مُحَمَّدٍ وبالكِتابِ الذي أنْزَلَهُ إليه)
53 – واذكروا مِنَّتَنا وفَضْلَنا عليكم حين آتينا موسى كِتابَ التَّوراةِ المُشْتَمِلَ على الفَرائِضِ والأحكامِ، وآتيناهُ ما يُفَرِّقُ بِهِ بينَ الحَقِّ والباطِلِ، لكي تَهْتَدُوا إلى الحَقِّ وتَعْمَلُوا به، وهذا هو المطلوبُ منكم، وهو ما تَرْجُونَهُ (يَجُوزُ أنْ يكونَ المُرادُ بـ(الفُرقانِ) الوصايا العَشْر التي تُفَرِّقُ بين العَمَل الحَقِّ في الحياةِ، وبينَ العَمَلِ الباطلِ في الحياةِ، ويَدُلُّ (لعلَّكُم تَهْتَدُونَ) على أنَّ تَذَكُّرَكُم مِنَّتَنا وفَضْلَنا عليكم بذلك يُرْجى بِهِ الهِدايَة إلى الإيمانِ برسولِهِ مُحَمَّدٍ وبالكِتابِ الذي أنْزَلَهُ إليه) .
وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ٥٤ وَإِذۡ قُلۡتُمۡ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهۡرَةٗ فَأَخَذَتۡكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ ٥٥ ثُمَّ بَعَثۡنَٰكُم مِّنۢ بَعۡدِ مَوۡتِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٥٦ وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡغَمَامَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ ٥٧
المعنى في ضوء التحليل االلغوي :
54 – واذكروا صَنيعَتَنا الحَسَنَةَ بكم، ومِنَّتَنا وفَضْلَنا عليكم حين قال موسى لقومِهِ الذين هم أسلافُكم : يا قومي، إنّكم تجاوزْتُم حقَّ أنفُسِكم عليكم بتوحيدِ اللهِ وإخلاصِ العبادةِ له، فأسَأتُمْ إليها، وعَرَّضْتُموها إلى عقابِ اللهِ بسبب اتخاذِ بعضِكم العجلَ إلهاً، ولم تَنْهَوْهم عن عبادةِ العِجْلِ بمَنْعِهِم عن ذلك، ولم تأمُرُوهم بتَرْكِهِ (يَدُلُّ النَّظْمُ على أنَّ الذين عبدوا العِجْلَ والذين لم يَعْبُدُوهُ مُشْتَرِكُونَ جميعاً في ظُلْمِ أنْفُسِهم بسَبَبِ عَدَمِ نهْي الذين لم يَعْبُدُوهُ الذين عَبَدُوهُ، وعَدَمِ أمْرِهم بتَرْكِهِ)، فإذا كان ذلك حاصِلاً منكم فارْجِعُوا إلى خالقِكُم بالتَّوبَةِ عن مَعْصِيَتِكم التي فَعَلْتُمُوها بإعْلانِ نَدَمِكُم على ذلك، وبالبَراءَةِ من الذين عَبَدُوا العِجْلَ، فأذِلّوا الذينَ عَبَدوا العِجْلَ من الذين يَنْتَسِبُونَ إليكم بتَنْحِيَتِهم عَنْكُمْ، وإزالَتِهم عن مَجالِسِكم ذلكم، لأنّ ذلكم (أي : فِعْلَكم فيهم ذلك الفِعْلَ) هو خيرٌ لكم عند خالِقِكُم (يَدُلُّ المعنى على وجوبِ مُقاطَعَتِهِم وإشْعارِهِم بالذِّلَّة بسَبَبِ عِبادَتِهم العِجْلَ، ويَدُلُّ المعنى على أنَّ قَبُولَهم بما أمَرَهم اللهُ به، وقيامَهم بتنفيذِ أمْرِ اللهِ، وإعلانَ تَوْبَتِهم عمّا فَعَلُوهُ هو كفّارَةٌ لَهُم عن فِعْلِهم، وذَهَبَ المُفسِّرون إلى اعتماد (قَتَلَ) بمعنى الإماتة باستعمال السّلاح، فقالوا : أمَرَهُم اللهُ أنْ يَقْتُلَ بعضُهُم بعضاً، ليكونَ القَتْلُ كفَارةً لعِبادَتِهم العِجْلَ، وهذا مُخالفٌ لرَحْمَةِ اللهِ وعَفْوِهِ ونَهْيِهِ عن قَتْلِ النَّفْسِ الإنسانِيَّةِ)، فرجَعَ اللهُ على أسلافِكم التّائبينَ جميعاً بالعفْوِ والمَغْفِرة، لأنّهُ هو الكثيرُ قَبُولِ التَّوْبَةِ من عبادِهِ التّائِبِينَ، الكثيرُ الرَّحْمَةِ بِهِم
55 – واذْكُرُوا صَنيعَتَنا الحَسَنَةَ بكم، ومِنَّتَنا وفَضْلَنا عليكم حين قال أسلافُكم : يا مُوسى، لَنْ نُؤمِنَ لك بأنّ الذي أخبرْتَنا به عن اللهِ حَقِيقَةٌ إلى أنْ نرَى اللهَ رُؤْيةً جَهْرَةً عياناً، فبسَبَبِ تَجَرُّئِهم على اللهِ بسُؤالِهِم مُوسى ذلك أهْلَكَتْهم نارٌ مُشْتَعِلةٌ سَقَطَتْ عليهم من السّماءِ في رَعْدٍ شديد زَلْزَلَ الأرضَ من تَحْتِهم حالةَ كونِهِم يُبْصِرونها بأعْيُنِهم وهي تَسْقُطُ عليهم (يَدُلُّ سياقُ ما قَبْلَها، وسياقُ آيات سورة (الأعراف : 142 – 155) على أنَّ قَوْلَ أسْلافِهِم هذا كانَ حينَ اخْتارَ مُوسى من قَوْمِهِ الذين هُمْ أسلافُهُم سَبْعِينَ رَجُلاً لأجْلِ الذَّهابِ بِهِم إلى مَوْعِدِ ربِّهِ الذي جعَلَ لَهُ وَقْتاً وموضِعاً يُظْهِرونَ فيه تَوْبَتَهم ونَدَمَهم على اتّخاذِهم العِجْلَ إلهاً، فأظْهَرُوا تَوبَتَهم ونَدَمَهم للهِ، فتابَ اللهُ عليهم، فأخْبَرَهُم مُوسى أنّ اللهَ قَدْ تابَ عليهم، فقالوا لموسى ذلك القول)
56 – فلمّا أهلَكَتْهم الصّاعِقَةُ قالَ مُوسى : يا رَبِّ، لو أرَدْتَ أنْ تُهْلِكَهم لأهْلَكْتَهم من قَبْلِ أنْ نأتِيَ لمَيقاتِك، ولأهلَكْتني مَعَهُم، أسألُكَ برَحْمَتِكَ وعَظَمَتِكَ : هل تُهْلِكُنا بما فَعَل الجُهَلاءُ مِنّا ؟ ليسَ من رُبوبيّتكَ أنْ تُهْلِكَ قوماً بفِعْلِ جُهَلائِهم، أسْتَعْطِفُك يا رَبِّ أنْ تَعْفوَ عَنْهُم، لأنَّ ما فَعَلُوهُ ما هُوَ إلّا امْتِحانٌ واختبارٌ مِنْكَ لَهُم، حالةَ كونِكَ تُظْهِرُ به ضَلالَ الذي تُرِيدُ إضْلالَهُ جزاءً له على أفعالِهِ، وتُظْهِرُ به هِدايَةَ الذي تُرِيدُ هِدايَتَهُ جَزاءً لَهُ على أفْعالِهِ، يا رَبِّ، أنْتَ مُتَوَلِّي أمُورِنا، ولَكَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ بنا، ونحنُ خاضِعُونَ لوِلايَتِكَ، فإذا كان هذا حالُنا فاغْفِرْ لنا وارْحَمْنا، ويُؤكِّدُ طَلَبَنا المَغْفِرَةَ مِنْكَ أنَّك أنتَ أفْضَلُ الغافِرِين، فعَفَوْنا عن أسْلافِكم، وغفَرْنا لَهُم، ثُمَّ أحْيَيْناهُم من بَعْدِ موتِهم، لكي تَشْكُرُوا اللهَ على عَفْوِهِ عن أسْلافِكُم، وهذا هو المَطْلوبُ مِنْكُم (يَدُلُّ (لعلّكم تشكرون) على أنَّ شُكْرَكُم اللهَ على ذلك يُرْجَى بِهِ الهَداية إلى الإيمانِ برسولِهِ مُحَمَّدٍ وبالكِتابِ الذي أنْزَلَهُ إليه)
57 – واذْكروا صَنيعَتَنا الحَسَنَةَ بِكُمْ، ومِنَّتَنا وفَضْلَنا عليكُمْ حينَ صَيَّرْنا السَّحابَ الرَّقِيقَ ظِلّاً على أسْلافِكُم، لنَحْمِيَهم من حَرِّ الشّمْسِ، وأنْزَلْنا على أسْلافِكُم المَنَّ والسَّلْوى (المَنُّ : هو كُلُّ شيءٍ أنْعَمَ اللهُ بِهِ عليهم بَعْدَ خُروجِهِم من مِصْرَ ونُزُولِهِم صَحْراءَ سيناء مِمَّا لا تَعَبَ فيه ولا نَصَبَ مِثْل الكَمأةِ التي تَخْرُجُ بما يَنْزِلُ من السّماءِ من المَطَرٍ، ومِثل ما يَجِدُونَهُ على الأحْجارِ أو الأشْجارِ كالخُبْزِ حُلْوَ المَذاقِ، وقَدْ سَمَّوهُ خُبْزَ الرَّبِّ، و(السلوى) : طائرٌ صغيرٌ من رُتْبَةِ الدَّجاجيّات، يُسَمّونَهُ السّمّاني، واحدتُه: سَلْواة)، وقُلْنا لأسْلافِكم : كُلُوا من طيّباتِ الذي رَزَقْناكُمُوهُ (أي : من المَنِّ والسَّلْوى)، وواقِعُ الحالِ أنَّ أسْلافَكم ما نقَصُونا شَيئاً بتَجاوُزِهم حقَّنا عليهم بوُجُوبِ عِبادَتِنا وطاعَتِنا، وطاعَةِ رَسُولِنا، ولكن كانوا يُنْقِصُون حَقَّ أنْفُسِهم عليهم بعَدَمِ تَعْرِيضِها إلى عِقابِ اللهِ بسَبَبِ تَجاوُزِهِم طاعَةَ اللهِ وطاعَةَ رَسُولِهِ .
وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٥٨ فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوۡلًا غَيۡرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمۡ فَأَنزَلۡنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجۡزٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ ٥٩ ۞وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۖ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ ٦٠ وَإِذۡ قُلۡتُمۡ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصۡبِرَ عَلَىٰ طَعَامٖ وَٰحِدٖ فَٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُخۡرِجۡ لَنَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۢ بَقۡلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَاۖ قَالَ أَتَسۡتَبۡدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدۡنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيۡرٌۚ ٱهۡبِطُواْ مِصۡرٗا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلۡتُمۡۗ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلۡمَسۡكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِيِّۧنَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ ٦١
المعنى في ضوء التحليل االلغوي :
58 – واذْكُرُوا صَنيعَتَنا الحَسَنَةَ بكم، ومِنَّتَنا وفَضْلَنا عليكُمْ حينَ قُلْنا لأسْلافِكم : ادْخُلُوا هذهِ القريةَ (أي : مَدِينَةَ بَيْتِ المَقْدس)، فكُلوا من طَعامِها في أيِّ مكانٍ أرَدْتم أكْلاً كثيراً واسِعاً لا تَعَبَ فيه، وادْخُلُوا بابَها المَعْرُوفَ حالةَ كونِكم خاضِعِينَ للهِ فيما أمَرَكم به، وقُولُوا : طَلِبَتُنا – يا رَبَّنا – غُفْرانُ ذُنُوبِنا وخَطَايانا، إنْ تَدْخُلوا البابَ حالَةَ كَوْنِكُم خاضِعِينَ للهِ فيما أمَرَكم به، وتقولوا طَلِبَتُنا – يا ربَّنا – غُفْرانُ ذُنوبِنا وخَطايانا نَغْفِرْ لَكُمْ خطاياكُمْ، وسَنَزِيدُ الذين يَفْعَلُونَ الأفْعالَ الحَسَنةَ بإتْقانٍ وإخْلاصٍ للهِ ثواباً (يَدُلُّ المعنى على أنَّ الذي يَعْمَلُ عَمَلاً حَسَناً بإتْقانٍ وإخْلاصٍ لأجْلِ اللهِ سَيَزِيدُهُ اللهُ ثَوَاباً على الثَّوابِ الذي يَسْتَحِقُّهُ على عَمَلِهِ الحَسَن)
59 – فبَدَّلَ الذين عَدَلُوا عن أمْرِ اللهِ بالقول الذي أمَرَهُم اللهُ أنْ يَقولُوهُ قَوْلاً غَيرَ القولِ الذي أُمِرُوا به (يَدُلُ السّياقُ والنّظْمُ على أنَّهم اسْتَهْزَؤُوا بقولِ اللهِ، فقالوا قولاً آخَرَ اسْتَحَقُّوا بِهِ أنْ يَصِفَهُم اللهُ بأنَّهُم فاسِقُون)، فأنْزَلْنا على الذين عَدَلُوا عن أمْرِ اللهِ عذاباً نازِلاً من السّماءِ (أي : من الفَضاءِ الذي يَعْلُوهُم وهم في الصَّحْراءِ) بسَبَبِ كونِهم خارجين عن أمْرِ اللهِ وطاعتِهِ، (يَدُلُّ المعنى والسِّياقُ على توصيلِ رسالةٍ إلى بني إسرائيل الموجودين في المدينةِ زَمَنَ رسول اللهِ، ومَضْمُون الرّسالةِ : فلا تَكُونُوا مِثْلَ أسلافِكم، فتَعْصُوا رَبَّكم بتَبْدِيلِ أمْرِهِ بالتَّصْدِيقِ بنُبُوَّةِ خاتَمِ رُسُلِهِ مُحَمَّدٍ، وبالكتابِ الذي أنْزَلَهُ إليه، فنُعاقِبَكم كما عاقًبْنا أسلافَكم)
60 – واذْكُرُوا صَنيعَتَنا الحَسَنَةَ بكم، ومِنَّتَنا وفَضْلَنا عليكم حين طَلَبَ موسى منّا السُّقيا لقومِهِ الذين هم أسْلافُكم، فقُلْنا لَهُ : اضْرِبْ بعصاكَ الحَجَرَ الذي عَرَّفْناهُ وعيّنّاهُ لك (وهو الصّخْرَةُ المَعْرُوفَةُ في بَرِّيَّةِ (حُورِيب)، جاء في (سفر الخروج 17: 6) : “هَا أَنَا أَقِفُ أَمَامَكَ هُنَاكَ عَلَى الصَّخْرَةِ فِي حُورِيبَ، فَتَضْرِبُ الصَّخْرَةَ فَيَخْرُجُ مِنْهَا مَاءٌ لِيَشْرَبَ الشَّعْبُ”) فلمّا ضَرَبَ موسى الحَجَرَ انْبَعَثَ الماءُ وتَدَفّقَ من الحَجَرِ في اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَيْناً بعدَدِ قبائلِ بَنِي إسْرائِيلَ، قَدْ عَرَفتْ كُلُّ جَماعةٍ من قَوْمِهِ (أي : كُلُّ قَبِيلَةٍ) مكانَ عَيْنِهم التي يَشْرَبُونَ مِنْها، لا يُشارِكُهُم فيها غيرُهم، وقُلنا لهم : كُلُوا واشْرَبُوا مِمّا رَزَقَكُم اللهُ بِهِ من الطّعامِ والشَّرابِ، ولا تُفْسِدُوا في الأرضِ أشَدَّ الفَسادِ بالعَمَلِ بالمَعاصِي، وظُلْمِ النّاسِ حالةَ كَوْنِكُم مُتَسَبِّبينَ في الاضْطِرابِ وعَدَمِ الاسْتِقْرارِ بَيْنَ النّاسِ بإثارَةِ الفِتَنِ والحُروبِ بَيْنَهُم، وبالإخلالِ بنِظامِ المُجْتَمَعِ (يَدُلُّ المعنى والسِّياقُ على توصيلِ رسالةٍ إلى بني إسرائيل الموجودين في المدينةِ زَمَنَ رسول اللهِ، ومَضْمُون الرّسالةِ : فلا تَكُونُوا مِثْلَ أسْلافِكُم، فتُفْسِدُوا في الأرضِ بصَدِّ النّاسِ عن الإيمانِ بالرَّسُولِ مُحَمّدٍ، وبالقُرآنِ الذي أنْزَلْناهُ إليهِ)
61 – واذْكُرُوا صَنيعَتَنا الحَسَنَةَ بِكُمْ، ومِنَّتَنا وفَضْلَنا عليكُمْ حينَ قالَ أسْلافُكم لنَبِيِّكُم مُوسى : يا موسى لن نَحْتَمِلَ حَبْسَ أنْفُسِنا على طَعامٍ واحِدٍ، فإذا كُنّا كذلك فادْعُ رَبَّكَ لأجْلِنا، واسْأَلْهُ أنْ يُبْدِلَنا بِهِ طَعاماً غيرَهُ، إنْ تدْعُهُ يُخْرِجْ لنا من الذي تُخْرِجُهُ الأرضُ، أي : من بَقْلِها من النَّباتاتِ العُشْبيّةِ التي نتغَذَّى عليها، (كالخُضَر التي لا ساق لها)، وقِثّائِها من النباتات القَرْعِيّة التي تُشْبِهُ الخِيارَ، وفُومِها من الحِنْطَةِ وأمْثالِها من الحُبُوبِ التي تُخْبَزُ، وعَدَسِها وبَصَلِها، قال مُوسَى : أتْطْلُبُونَ الطَّعامَ الذي هو أقْرَبُ لشَهَواتِ أنْفُسِكم التي تُدْنِيكم إلى ضَعْفِ النّفْسٍ ومهانَتِها بدلاً من الطَّعامِ الذي هو خيرٌ لكم، أُنْكِرُ عليكم قولَكم هذا، ادْخُلوا مدينةً أو قريةً من المُدُنِ والقُرى التي تُقامُ فيها الأسْواقُ والدُّورُ، فإنَّ الذي طَلَبْتُموهُ كائنٌ لكم فيها (قالَ لَهُمْ مُوسى ذلك، لأنّ المُدُنَ والقُرى التي تُقامُ فيها الأسواقُ والدُّورُ تكثُرُ فيها الزِّراعَةُ، أمّا الصّحراءُ التي كانوا فيها فلا تَصْلُحُ للزّراعَةِ)، وألزمْناهم ضَعْفَ النَّفْسِ ومهانَتَها، و خُضُوعَ النّفسِ وذُلَّها بسَبَبِ انْسِياقِهم وراءَ شَهَواتِ أنفسهم، واحْتَمَلُوا غَضَباً كائناً من الله عليهم في الدُّنيا، ذلك (أي : الذي ألْزَمْناهُمْ بِه، وغَضَبُ اللهِ الذي احْتَمَلُوهُ) كائنٌ بسَبَبِ أنَّهم كانوا يجْحَدون حُجَجَ اللهِ بوُجُوبِ طاعتِهِ وطاعَةِ رُسُلِهِ، ويُبْطِلونَ دَعْوَةَ النَّبِيِّين بغيرِ الحَقٍّ، ولا يَعْتَدُّونَ بمَشْهَدِهِم، ولا يَقْبَلُونَ لهُم قَوْلاً، ولا يُقيمُونَ لهُم دَعْوَةً، ويَجْعَلُونَهُم كَمَنْ قد ماتَ، وصارَ ذلك عادَةً لهم (إنّما ذَهَبْتُ إلى هذا المعنى من معاني (قَتَلَ) لأنّهُ يُوافقَ ما ذَكَرَهُ القُرآنُ عن الأنْبياء الذين أرسَلَهُم اللهُ إلى النّاس، أمّا ما ذُكِرَ من قَتْلِ بني إسرائيلَ أنبياءَهُم فهو مأخوذٌ من الرّواياتِ الإسرائِيلية، والقُرآنُ لا يُؤَيِّدُهُ، لأنَّ القُرآنَ وَعَدَ رُسُلَ اللهِ بالحِمايةِ والنَّصْرِ على المُكَذِّبين بهم، قال تعالى (الصّافات : 171 – 173) : “ولقد سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعبادِنا المُرْسَلين *إنَّهُم لَهُم المَنْصُورون * وإنَّ جُنْدَنا لَهُم الغالِبُونَ”، وقال تعالى (الأنعام : 34) : “ولَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ من قَبْلِكَ فَصَبَرُوا على ما كُذِّبُوا وأُوذُوا حتّى أتاهُم نَصْرُنا ولا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ الله ولَقَدْ جاءَكَ من نَبَأِ المُرْسَلِين”، وقال تعالى (الأنبياء : 9) : “ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الوَعْدَ فأنْجَيْناهُم ومَنْ نَشاءُ وأهْلَكْنا المُسْرِفِينَ”، وقال تعالى (غافر : 51) : “إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا والذين آمَنوا في الحياةِ الدُّنيا ويومَ يَقُومُ الأشْهادُ”، وقال تعالى (الروم : 47) : “ولقد أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قومِهِم فجاؤُوهم بالبَيِّناتِ فانْتَقَمْنا من الذين أجْرَموا وكان حَقَّاً علينا نَصْرُ المُؤمِنين”، وقال تعالى (المُجادِلة : 21) : “كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أنا ورُسُلِي إنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ”، وقال تعالى (طه : 45 و46) عن لسان موسى وهارون : “قالا رَبَّنا إنَّنا نَخافُ أنْ يَفْرُطُ عَلَيْنا أو يَطْغى” فكان جوابُ اللهِ لهما : “قالَ لا تخافا إنَّني مَعَكُما أسْمَعُ وأرى”، ولم يذكُرْ القرآنُ أنَّ نَبِيّاً من الأنبياءِ قد قُتِلَ، بل ذَكَرَ القُرآنُ أنَّ اللهَ تعالى نَصَر نوحاً وإبراهيمَ وهُوداً وصالحاً ولوطاً وشُعَيْباً وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ ويوسُفَ وموسى وهارونَ وداودَ وسُلَيْمانَ وإلياسَ واليَسَعَ وأيُّوبَ وذا النّونِ وعيسى بن مريم ومُحَمَّداً (ص)، وغيرَهم من الأنبياءِ الذين ذَكَرَهُم القُرآنُ، وذَكَرَ أنَّ اللهَ نَجّاهم ونَصَرَهم على أقْوامِهم الذين كَذَّبوا بهم)، ذلك (أي : الذي ألْزَمْناهُمْ بِهِ، وغَضَبُ اللهِ الذي احْتَمَلُوهُ) كائنٌ بسَبَبِ عِصْيانِهم وكَوْنِهم مُعْتَدِينَ مُتجاوِزِينَ حُدُودَ الله، (يَدُلُّ المَعْنَى والسِّياقُ على توصيلِ رسالةٍ إلى بني إسرائيل الموجودين في المدينةِ زَمَنَ رسول اللهِ، ومَضْمُون الرّسالةِ : فلا تَكُونُوا مِثْلَ أسْلافِكُم فيُعاقِبَكُم اللهُ بالحُكْم عَلَيْكُم بما حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِم) .
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٦٢
المعنى في ضوء التحليل االلغوي :
62 – انْتَبِهُوا، إنَّ الذين صَدَّقوا باللهِ إلهاً واحِداً، وبمُحَمَّدٍ رسولاً من اللهِ، وبالقرآنِ نازِلاً من اللهِ إليه، والذين هادُوا، والنّصارَى، والصّابئينَ، أي : الذين صَدّقوا منهم باللهِ إلهاً واحِداً، وصَدَّقوا برُسُلِهِ وبالرَّسولِ مُحَمَّد مَعَ تَحْقِيقِ تَصْدِيقِهِم في القَلْبِ بالاعتقادِ بِهِ من غيرِ شَكٍّ ولا ارْتِيابٍ، وصَدّقُوا باليومِ الآخِرِ الذي يَكُونُ فيه الحِسابُ والجَزاءُ مَعَ تَحْقِيقِ تَصْدِيقِهِم في القَلْبِ بالاعْتِقادِ بِهِ من غَيْرِ شَكٍّ ولا ارْتِيابٍ، وعَمِلوا عَمَلاً نافعاً مُناسباً للنّاسِ لا فسادَ فيه فلَهُم ثَوَابُهم عِنْدَ رَبِّهم يومَ الحِسابِ والجزاءِ، ولا خَوْفٌ كائنٌ عليهم من عذابِ رَبِّهم في الحياةِ الآخِرَةِ، ولا هم يُصِيبُهم كَرْبٌ ولا حُزْنٌ في الحَياةِ الدُّنيا والآخِرَةِ (يَدُلُّ تَنْكِيرُ (صالحاً) على كُلِّ عَمَلٍ نافعٍ للنّاسِ، وهذا المعنى يَشْمَلُ جميعَ الذين قَدَّمُوا للبَشَرِيَّةِ أعْمالاً نافِعَةً، سواءٌ أكانوا مُسلمين أم يَهُوداً أم نَصارَى أم صابِئِين، إذا صَدّقوا باللهِ إلهاً واحِداً بلا شَكٍّ وارتياب، وصَدَّقوا برُسُلِهِ وبالرَّسولِ مُحَمَّدٍ (ص) مَعَ تحقيقِ تصديقِهِم في القَلْبِ بالاعتقادِ به من غيرِ شَكٍّ ولا ارْتيابٍ، وصَدَّقوا باليومِ الآخر الذي يَكُونُ فيه الحِسابُ والجزاءُ مَعَ تَحْقِيقِ تَصْدِيقِهِم في القَلْبِ بالاعتقادِ بِهِ من غيرِ شَكٍّ ولا ارْتيابٍ، فلهم ثوابُهُم عندَ ربِّهم يومَ الحساب والجزاء، ولا خوفٌ كائنٌ عليهم من عذابِ اللهِ في الحياةِ الآخرةِ، ولا هم يُصيبُهُم كَرْبٌ ولا حُزْنٌ في الحياة الدُّنيا والآخرة) .
بحثٌ في المُراد بـ(الذين آمنوا والذين هادوا والنَّصارى والصّابئين)
جاءَ في القرآنِ الكريمِ ألفاظ (بني إسرائيل)، و(الذين هادوا)، و(اليهود)، و(هُود)، و(بنو إسرائيل) اسمٌ جامعٌ لجميع قبائل أسباط (يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) الذي سُمِّيَ بـ(إسرائيل)، وكان عدَدُهم اثني عَشَرَ قبيلة بعَدَدِ أبناء يعقوب الاثني عَشَر، وتَجَلَّى وجودُ قبائل بني إسرائيل واضحاً زَمَنَ رسولِ اللهِ موسى، وقد أشار القرآنُ إلى ذلك في قولِهِ تعالى (الأعراف : 160) : “وقَطَّعْناهُم اثْنَتَي عَشْرَةَ أسباطاً أُمَمَاً وأوْحَيْنا إلى موسى إذْ اسْتَسْقاهُ قومُهُ أنِ اضْرِبْ بعَصاكَ الحَجَرَ فانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُم”، واستطاعَ أنبياءُ بني إسرائيل من بعْدِ موسى أنْ يجمعوا القبائلَ الاثْنَي عَشَرَ، ويجعلوا منها كِياناً مُوَحَّداً، وحينَ صارَ شاؤول الذي أشار إليه القرآن باسْمِ (طالوت) مَلِكاً على بني إسرائيل، وَحّدَ قبائل بني إسرائيل الاثْني عَشَر في مَمْلَكَةٍ واحدة، هي مَمْلكة (إسرائيل القديمة)، ولمّا جاءَ من بعْدِهِ النّبيّ داود حافظَ على وحْدَةِ قبائلِ بني إسرائيل، وصَنَعَ منهم كياناً قويّاً تَغَلَّبَ به على ملوكِ الأُمَمِ المُجاورة لهم، وسارَ سُلَيْمانُ بنُ داود على نَهْجِ أبيه في الحِفاظِ على وَحْدةِ قبائل بني إسرائيل، وفي عَهْدِ سُلَيمان استوْطَنَ جماعاتٌ من قبائل بني إسرائيل اليَمَن بعدَ أنْ دَخَلَتْ مَلِكَتُهم (بلقيس) في ديانةِ سُلَيمان، وفي ذلك الزّمَنِ انْتَشَرَتْ الديانةُ اليهوديةُ في اليَمَن، ودانَ قِسْمٌ كبيرٌ من أهلِ اليمن بها، واعْتَنَقَها بعضُ ملوكِهم، وبعدَ وفاةِ النبيّ سُلَيمان افْتَرَقَتْ قبائلُ بني إسرائيل إلى فِرْقَتَين، فِرْقَةٌ ذَهَبتْ إلى شمال دولة إسرائيل القديمة، وتَضُمُّ عَشْرَ قبائلَ من قبائل أسْباطِ بني إسرائيل، وأسَّسَتْ دولة (إسرائيل الشّمالية)، وجَعَلَتْ عاصِمَتَها (السّامرة)، وفِرقَةٌ ذهَبَتْ إلى جنوب دولة إسرائيل القديمة، وتَضُمُّ (قبيلةَ يهوذا) أحَد أسباط يعقوب، وهي القبيلة الكبرى، وقبيلةَ لاوي، وأسَّسَتْ قبيلة يهوذا (دولة إسرائيل الجنوبية)، وجَعَلَتْ عاصمتها أورشليم (القُدْسَ)، وفي عام 722 قبل الميلاد غزا الآشُورِيُّون دولةَ (إسرائيل الشمالية)، ودَمّروها تدميراً كاملاً، وفرَّقوا أغلبيّةَ سُكّانِها على جميع مناطق دولة آشور، ومَنْ بَقِيَ منهم تَفَرَّقَ في البُلدان، ولم يعُدْ لقبائلها العشر وجود، وفي عام 587 قبل الميلاد غزا نبوخُذ نُصّر ملك البابليين دولة إسرائيل الجنوبية، ودَمّرها تدميراً كاملاً، ودَمَّر الهَيكل في أورشليم، وقَتَلَ خلْقاً كثيراً منهم، وأسَرَ آلافاً منهم أخَذَهم معه إلى بابل، (قيل : إنّهم كانوا ما يُقارب أربعين ألفاً)، وفي عام 537 قبل الميلاد استطاع قورش الأخميني مَلِكُ الفُرْسِ أنْ يُسْقِط الدّولةَ البابليَّةَ، وسَمَحَ لليهود بالعودة إلى أورشليم بعد 70 سنة من المنفى في الدولة البابلية، والبدء في بناء المدينة والهيكل، وقام العائدون اليهود بإعادة بناء الهيكل، واستَمَرّ اليهود العائدون من السّبي والأجيال التي جاءت بعدهم في بناء دولة يهوذا الجنوبية بعاصمتها أورشليم، وبنوا الأسوار الحصينة المحيطة بها، وبقوا يُمارسون طقوسَ ديانتِهم عِدةَ قرون، وفي عام 70 ميلادية استطاع (تيتوس) ملك الرُّومان أنْ يفتح أورشليم، وأنْ يُدَمِّرَ معبد سليمان، وأحرقَهُ لمنع اليهود من الاحتماءِ بداخِلِهِ، وفي 28 اغسطس /آب من العام نفسِهِ كان المعبدُ قد احْتَرَقَ، ودُمِّرَتْ اسوارُ القُدْس ودُكَّتْ المدينةُ بالارض وبهذا العَمَلِ أنهى الرومان قوّةَ اليهود ووجودَهم في (دولة يهوذا الجنوبية)، وبعد احتلالِ بيت المقدس عاد تيتوس إلى روما سنة71 م ليحتفلَ بنصرِهِ وهو يحملُ معه كنوزَ هيكل سليمان والالاف من اليهود العبيد الذين عَرَضَهُم على شعب روما .
إنّ هذه الأحداث التي مَرّتْ على قبائل أسباط إسرائيل (يعقوب) الاثني عَشر بعد حُكْم النّبي سُلَيمان أدْتْ إلى هِجْرةِ جماعات كبيرة منهم إلى مناطق مُختلفة من العالم، وكان لأرضِ الحجاز نصيبٌ كبير من هِجرةِ تلك القبائل، وقد استوطَنَتْ تلك الجماعات المُنحدرة من قبائل أسباط إسرائيل (يعقوب) الاثني عَشر أرض يثرب، وما حولها من أرض الحجاز، مثل خيبر وتيماء ووادي القرى، واستوطَنَتْ بعضُ القبائل منهم دوس واليمامة و نجران وفي دومة الجندل و مناطق أخرى متفرقة، ومن القبائل التي عاصرت نُبُوّةَ الرسولِ مُحَمّدٍ (ص) ونُزولَ القرآن بنو النّضير، وبنو قينُقاع، وبنو قُريظة، وقبائلُ يهودية في خيبر، وترجع أصول قبائل أسباط إسرائيل (يعقوب) الاثني عَشر التي استوطنتْ يثرب وما حولها إلى مصادر مُختلفة، بعضُ تلك القبائل جاءتْ من اليَمَن، وبعضها هاجرتْ من (دولة إسرائيل الشمالية) بعد أنْ دَمَّرها الآشوريون، وفرَّقوا أغلبيّةَ سُكّانِها من قبائل أسباط إسرائيل (يعقوب) العشرة، ويُطْلَقُ على هؤلاء (بنو إسرائيل)، وقد ناداهم القرآنُ في كثير من الآيات بـ(يا بني إسرائيل)، وبعضُ تلك القبائل قَصَدَتْ أرضَ الحِجاز بعد رجوعِها من السّبي البابلي، وهؤلاء اليهود العائدون من السَّبْيِ البابلي، وقصدوا أرضَ الحجاز هم من قبيلة يهوذا ولاوي، وهؤلاء قد عَمِلُوا على العَوْدَة الى الدين الذى كان عليه أنبياؤهم (أي دين الاسلام) وإعادة العمل بالشريعة، وأخذوا على أنفُسِهم المواثيق أنْ يتبعوا الشريعةَ وما أمَرَهُم به الله عَزَّ وجل على لسان أنبيائه، وهؤلاء قد ناداهم القرآن بـ(يا أيّها الذين هادوا)، أمّا القبائل التي رجعتْ من السَّبْي البابلي، واسْتَقَرُّوا في أورشليم فكانت بقيادة (عزرا) الذي سمّاه القرآنُ الكريم بـ(العُزَيْر)، وهم قد قاموا ببناء المدينة وإعادة بناء الهيكل، وهؤلاء أطلَقَ عليهم القرآن اسم (اليهود)، وبعدَ أنْ دَمّرَ الرومان بقيادة (تيتوس) أورشليم تدميراً كاملاً عام 70 ميلادية، وقتلوا عدداً كبيراً منهم هاجرتْ جماعةٌ من قبائل يهوذا ولاوي من أورشليم إلى أرض الحجاز، واستوطنوا يثرب وما جاورها، وهؤلاء أطلَقَ عليهم القرآن اسم (اليهود) أيضاً، وأطْلَقَ عليهم في بعض الآيات (الذين هادوا)، واستعمل القرآنُ الكريم لفظ (هُود) في بعض الآيات، وأرادَ بهم اليهود أيضاً، وأطْلَقَ القرآنُ اسمَ (النّصارى) على أتباع المسيح عيسى بن مريم، ولم يُطْلِقْ عليهم اسم (المسيحيين) نِسْبةً إلى المسيح عيسى بن مريم، وبعد الفترة الزّمنيّة التي رَفَعَ اللهُ فيها المسيح عيسى بن مريم إليه حين أرادوا قَتْلَهُ، وبعد عصْر بولص سَمَّى أتباعُ المسيح عيسى بن مريم أنفُسَهم (مسيحيين)، ولم يُسَمّوا أنفُسَهم (نصارى)، والذي أميلُ إليه أنّ القرآنَ استعملَ لفظ (المسيح)، وأتْبَعَهُ بـ(عيسى بن مريم) كاستعمال اللّقب مع اسم الشّخْص، فـ(المسيح) لفظٌ استعمله القرآن من اللغة الأم لشعوب الجزيرة العربية، وهو يعني في اللغة الأمَ : الصِّدّيق الطّاهر، قال أبو بكر (لسان العرب : مَسَح) : (واللغويون لا يعرفون هذا المعنى، قال : ولعلَّ هذا كان في بعض الأزمان فدَرَسَ فيما دَرَسَ من الكلام)، وأميلُ إلى أنَّ لفظ (النصارى) أرادَ بهم القرآنُ الذين اتّبعوا المسيح عيسى بن مريم من اليهود، ونَصَرُوهُ على الذين ظلموهُ وكفروا به من اليهود، وهو اسم مُشتقٌّ من مادة (ن ص ر) التي تعود إلى (اللغة الأم لشعوب الجزيرة العربية)، ومن معانيها : إغاثةُ المظلوم، وإعانتُهُ، وانتصَرَ الرجلُ : امْتَنَعَ من ظالمِهِ، والنّاصِرُ والنّاصِرة : ما جاء من مكان بعيد إلى الوادي فنَصَرَ سَيْلَ الوادي، وكُلُّ مَسيلٍ يضيعُ ماؤهُ فلا يَقعُ في مُجتمع الماء فهو ظالمٌ لمائِهِ، واشتقوا منه (نَصْران) و(نصرانة)، بمعنى : التّابع والمطيع والنّاصر، ويُجمعُ على (نصارى) كما قالوا : نَدْمان ونَدامَى، والأنثى : نَدْمانة، (قال أبو إسحاق (لسان العرب : نصر) : واحِدُ النّصارى نَصْران، مِثل نَدْمان ونَدامى، والأنثى نَصْرانة مثل نَدْمانة، وأنْشَدَ لأبي الأخْزَر الحماني يصفُ ناقتَيْنِ طَأطَأتا رؤوسَهما من الإعياءِ، فَشَبَّهَ رأسَ النّاقة من تَطَأطِئها برأس النّصرانية في صلاتِها :
فكِلْتاهُما خَرَّتْ وأسْجَدَ رَأسُها ***** كما أسْجَدَتْ نَصْرانةٌ لم تَحَنَّفِ
وسجودُها بمعنى الطاعة والانقياد، ويَتَبَيَّنُ لي أنّ القرآن أطْلَقَ اسم (نصارى) على الذين اتّبعوا المسيح عيسى بن مريم، وآمنوا بما جاء به من العقائد والأحكام التي صَحَّحَ بها العقائد والأحكام المُحَرَّفة التي كان عليها اليهود، فهؤلاء سَمّاهم القرآنُ (نصارى)، وصار اسْمُ الدّين الذي أدانوا به النَّصْرانيَّة، وهو ما جاء به المسيح عيسى بن مريم من العقائد والأحكام التي صَحَّحَ بها العقائد والأحكام المُحَرَّفة التي كان عليها اليهود، ولمّا جاء بولص بعد المسيح حرّفَ ما جاءَ به المسيحُ عيسى بنُ مريم من العقائد والأحكام، وسَمّى الذين اتَبعوا بولص أنفسَهم بـ(المسيحيين) تمييزاً لأنفُسِهم عن النصارى، والنّصارى الذين اتّبعوا المسيح عيسى بن مريم، وأمنوا بما جاء به من العقائد والأحكام التي صَحَّحَ بها العقائد والأحكام المُحَرَّفة التي كان عليها اليهود آمنوا بأنّ عيسى بن مريم رسولُ اللهِ وعبدُهُ، وأنَّهُ يُوحَى إليه كسائر الرُّسُل، وليس إلهاً أو ابنَ إلهٍ، ويرفُضُونَ لاهوت المسيح، فالمسيحُ عندَهم رَجُلٌ صالِحٌ ذو مبادئ وتعاليم اي : ( نبي ورسول) ويؤمنون بالمُعجزاتِ التي تَمَّتْ علي يَدَيْهِ (باذن من الله فهو بَشَرٌ لايملِكُ من نفسِهِ شيئا الا باذنِ الله)، ويرفضون تَعَرُّضَ المسيحِ للموت، ويرفضون الصّلْبَ، ويعتقدون بأنّهُ رُفِعَ، بل ويرفضون قضيّةَ الفِداءِ بمُجَمَلِها ، كما أنّهم يُؤمنون أنّ المسيح عيسى بن مريم سيعود آخر الايام ليحكم العالم، ويعتقدون بإنجيلٍ واحدٍ، ويرون الاناجيل المسيحية مُحَرَّفَة، ومن فُروضِهم : الإغتسالُ الدائِمُ بالماء للوضوء والتطهير، ويُشَدِّدونَ على أعمال البِرِّ والإهتمام باليتامى والعناية بالفقراء والمساكين وأبناء السبيل، ويُوصُونَ بإعالةِ المُحتاجين وإطعام الجِياع وإضافةِ الغُرَباء، ويُؤمنون بالخِتان، وإنّهُ شريعةُ إبراهيم، وهم يعتبرون بولص الرّسول مُحَرِّفاً لما جاء به المسيح، واتّهموهُ بأنّهُ مُتَمَرِّدٌ ومارِقٌ عن النّاموس، وأنكروا سلطانه ورفضوا رسائلَهُ، ومن الجدير بالذِّكْرِ أنَّ القرآنَ استعملَ في آيةٍ أو أكثر لفظ (النصارى) لفِرْقَةٍ خَرَجُوا عنهم واعتقدوا أنَّ المسيحَ ابنُ اللهِ، قال تعالى في (سورة التوبة، الآية : 30) : “وقالت النَّصارى المسيحُ ابنُ اللهِ”، ويُسَمّي علماءُ المسلمين اليهودَ والنّصارى أهل الكتاب، وهذا صحيح، أمّا اليهودُ فكتابهم الذي تَضَمّن الشريعة هو التوراةُ، وأمّا النّصارى فكتابُهم الإنجيل والتوراة، وتَضَمَّنَ الإنجيل البشارة والوصايا والمواعظ، وتَضَمَّنَتْ التوراةُ الشريعةَ والوصايا معاً، لأنّ اللهَ تعالى بعثَ المسيح عيسى بن مريم رسولاً إلى بني إسرائيل، وأصل التسمية بـ(الصّابئين) جاء من جذرالكلمة الارامي المندائي (صبا) أي بمعنى (تَعَمَّدَ، اصْطَبَغَ، غَطَّ ،غَطَسَ)، وهي تُطابِقُ أهمَّ شعيرةٍ دينيّةٍ لديهم وهو طَقْسُ (المصبتا – الصباغة – التعميد)، فكلمة (صابِئِيّ) تعني : (المُصْطَبِغ أو المُتَعَمِّدُ)، وهي كلمة من (اللغةِ الأمّ لشعوب الجزيرة العربية)، ولا يُمكن اعتبارها أعجميّة وَقَعَتْ في القرآنِ الكريم، وبذلك يكون معنى (الصابئة) : المصطبغين بنور الحق والتوحيد والإيمان، أمّا ما ذَهَبَ إليه اللغويون بأنّ التّسمية بـ(الصّابئة) جاءتْ من كلمة (صَبَا) بمعنى : تَرَكَ دينَهُ ودانَ بآخر فليس صحيحاً، والصّباغة (مصبتا) تعتبر من أهم أركان الديانة الصابئيّة، واسْمُهُم مُرتَبِطٌ بهذا الطقس، وهو فَرْضٌ عين واجب على الصابئي ويَرْمِزُ للارتباطِ الروحي بين العالم المادّي والرّوحي والتّقَرُّبِ من الله، و(المصبتا) : الصباغـَة في دينِهم، هي طَقْسُ الدُّخولِ من العالم السُّفْلِي إلى العالم العُلْوِي (عالم النور) حيث إن نبيَّ اللهِ يوهانا موصبانا قـَـد صـُبِـِغَ أو اصطبغ وقد انقضى من عُمْرِهِ (ثلاثون يوماً)، وجاء في كتابهم (جنزا ربا) : الكنز العظيم : (باسْمِ الحَيّ العظيم، اصبغوا نفوسَكُم بالصِّبغةِ الحَيّةِ التي أنزلها عليكم ربُّكم من أكوانِ النّور، والتي اصْطَبَغَ بها كُلُّ الكاملينَ المؤمنين، مَنْ وُسِمَ بوَسْمِ الحَيّ، وذَكَرَ اسْمَ مَلِكِ النُّورِ عليه، ثم ثَبَتَ وتَمَسّـكَ بصِبْغَتِهِ وعَمِلَ صالحاً، فلَنْ يُؤخّرَهُ يومَ الحِسابِ مُؤَخـِّـرٌ)، ويَجِبُ أنْ يتمَّ في المياهِ الجاريةِ والحَيّةِ، لأنّهُ يَرْمِزُ للحياةِ والنًّورِ الرَّبّاني، وللإنسانِ حُرّيةُ تكرارِ الصِّباغةِ متى يشاء . وقد اسْتَمَدّ النصارى طَقْسَ الصباغةِ، ويُسَمّونَةُ (التعميد) من الصِّباغةِ الصابئية، و قد حافظ طَقْسُ الصِّباغةِ على أصولِهِ القديمة حيث يعتقد النصارى بأنَّهُ هو نَفْسُهُ الذي نالَهُ عيسى بن مريم (المسيح) عندَ صِباغَتِةِ من قبل يُوهانا الصّابِغ بالدين الصابئي، (يحيى بن زكريا باللغة العربية، ويوحنا المعمدان عند المسيحيين)، ويُؤمن الصابئة بعددٍ من الرّسُل والأنبياء، وهم : آدم، شيت بن آدم (شيتل)، نوح، سام بن نوح، إبراهيم زكريا، يحيى بن زكريا (يهيا يهانا)، وكتابهم الدّيني المُقدس يُسَمّى الكنزا ربا “الكنز العظيم”، ويسمى أيضاً سدرا ربا، ويزعمون أنّهُ أنُزِلَ على أنبيائهم آدم، وشيت بن آدم (شيتل)، ونوح، وسام بن نوح، وإبراهيم، وزكريا، ويحيى بن زكريا، وهم في الحقيقة لا تشملُهم التسمية بـ(أهل الكتاب)، لأنّهُ لا يُعْرَفُ لهم كتابٌ بعينِهِ أُنْزِلَ على رسولٍ بعينِهِ كما هو حالُ المُسلمين واليهود والنّصارى، ويَدُلُّ على ذلك قولُهُ تعالى (المائدة : 69) : “إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا والصّبئون والنّصارى ..” فشارك (الذين آمنوا) و(الذين) هادوا) و(النصارى) في الإعراب بكونِها منصوبة عطفاً على اسم (إنَّ)، وخالف في إعراب (الصّابئين) بقَطْعِها إلى الرَّفْعِ .