نحو منهج لفهم معاني القرآن بتحليل آياته وفق لغة العرب وأساليبهم في الكلام كما فهمها العربي في زمن نزول القرآن
(ملاحظة : ما بين قوسين هو دلالة المعنى في ضوء التحليل اللغوي، وقد جعلتُهُ في الأصل باللون الأحمر تمييزا له عن المعنى في ضوء التحليل اللغوي)
سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ١ وَءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلۡنَٰهُ هُدٗى لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلٗا ٢ ذُرِّيَّةَ مَنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٍۚ إِنَّهُۥ كَانَ عَبۡدٗا شَكُورٗا ٣ وَقَضَيۡنَآ إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ لَتُفۡسِدُنَّ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَّتَيۡنِ وَلَتَعۡلُنَّ عُلُوّٗا كَبِيرٗا ٤ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثۡنَا عَلَيۡكُمۡ عِبَادٗا لَّنَآ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ فَجَاسُواْ خِلَٰلَ ٱلدِّيَارِۚ وَكَانَ وَعۡدٗا مَّفۡعُولٗا ٥ ثُمَّ رَدَدۡنَا لَكُمُ ٱلۡكَرَّةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَمۡدَدۡنَٰكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ أَكۡثَرَ نَفِيرًا ٦ إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ لِيَسُُٔواْ وُجُوهَكُمۡ وَلِيَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوۡاْ تَتۡبِيرًا ٧ عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يَرۡحَمَكُمۡۚ وَإِنۡ عُدتُّمۡ عُدۡنَاۚ وَجَعَلۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ حَصِيرًا ٨
المعنى في ضوء التحليل اللغوي :
1 – أقْرَأُ السُّورَةَ بالاسْتِعانَةِ باللهِ المَوْصُوفِ بأنّهُ الرَّحمنُ الذي أتْقَنَ برَحْمَتِهِ خَلْقَ كُلِّ شيءٍ لأداءِ وَظيفَتِهِ التي خَلَقَهُ لأدائِها، المَوْصُوفِ بأنَّهُ الرَّحِيمُ الذي جَعَلَ وَظيفةَ كُلِّ شيءٍ خَلَقَهُ في حُدُودِ قُدْرَتِهِ واسْتِطاعَتِهِ، تَنَزَّهَ تَنْزِيهاً عن كُلِّ نَقْصٍ اللهُ الذي جَعَلَ عَبْدَهُ مُحَمّداً يَسِيرُ ليلاً ابْتداءً من مكّةَ المُكرّمَةِ انتهاءً إلى المَسْجِدِ الأقصى، الموصوفِ بأنّهُ المكانُ الذي جَعَلْنا الأمْكِنَةَ المُحيطةَ بجِهاتِهِ مَحَالَّ للخيرِ الثّابِتِ الدّائِمِ بإرادَتِنا وعِنايتِنا، لكي نَجْعَلَهُ (أي : مُحَمَّداً) بتَدْبِيرٍ وعِنايَةٍ مِنّا يَعْلَمُ علاماتٍ ودلائِلَ كائِنةً من علاماتِنا ودلائِلِنا على أنّهُ الرَّسُولُ الذي خَتَمَ اللهُ بهِ الرُّسُلَ جميعاً، وعلى أنَّ وَعْدَ اللهِ بجَعْلِ الإسلامِ ظاهِراً على الأديان كلّها، غالباً عليها حَقٌّ لا شَكَّ فيه، يُؤكِّد أنّ هذا كائنٌ أنَّ اللهَ عظيمُ السَّمْعِ لكُلِّ قَوْلٍ يُقالُ في الأرضِ، وأنّهُ عظيمُ البَصَرِ يَرَى كُلَّ شيءٍ يَحْدُثُ في الأرض، فيُبطِلُ ما يُريدُهُ النّاسُ ويُحقّقُ إرادتَهُ فيها (يدلُّ قولُهُ : “من المسجِدِ الحرامِ إلى المسجِدِ الأقصى” على أنَّ المُسلمينَ سَيَمْلِكُونَ المنْطَقةَ الجغرافيةَ بين المَسْجِدِ الحَرامِ والمَسْجدِ الأقصى وما حولَهُ، وعلى أنّ الرسولَ مُحَمّداً وأُمّتَهُ أحقُّ بالمَسْجِدِ الأقصى بدلالةِ انْتِهاءِ الإسراءِ به إليه، كما أنَّهم أحَقُّ بالمَسْجِدِ الحَرامِ بدِلالة ابتداءِ الإسراء به منه، ويَدُلُّ قولُهُ : ” لنُريَهُ من آياتنا” على أنَّهُ تعالى يُعْلِمُهُ في رِحْلَتِهِ هذه الأحداثَ التي ستحدثُ في المنطقةِ الجغرافيةِ بينَ المَسْجِدِ الحَرامِ والمَسْجدِ الأقصى وما حولَهُ، وتَنْتَهِي بتَحْقيقِ وَعْدِ الله بجَعْلِ الإسلامِ ظاهراً على الأديان كلّها، غالباً عليها)
– 2 – وآتَيْنا موسى الشريعةَ من الفرائضِ والأحكامِ والوصايا التي تَضَمّنها كتابُ التّوراةِ، وجَعَلْناهُ هادياً لبني إسرائيل إلى دينِ التّوحيدِ، أي : قُلْنا لهم فيه : لا تَتّخِذوا سوايَ وكيلاً يقومُ مَقامِي في نفْعِكُم وضَرِّكم، ومُعْتمَداً تُفوِّضون أموركم إليه
– 3 – وخَصَصْنا بالهِدايةِ إلى دينِ التَّوْحِيدِ ذُرّيّةَ إبراهيمَ الذي حَمَلْنا آباءَهُ مع نُوحٍ، إنّهُ كانَ عَبْداً كثيرَ الشُّكْر للهِ بتَمْجِيدِهِ وتَعْظِيمِهِ وإخلاصِ العبادةِ له وَحْدَهُ (يدلُّ المعنى على أنّ ذُرّيّةَ إبراهيمَ الذين خَصَّهم اللهُ بالهدايةِ إلى دينِ التوحيد هم يعقوبُ بنُ إسحاق بنُ إبراهيم وذُرّيّتُهُ الذين اصطفاهم لحَمْلِ رسالةِ التوحيد، وإسماعيلُ بنُ إبراهيم وذُرّيّتُهُ الذين هداهم إلى دين التّوحيد، واصطفى منهم رسولَهُ مُحمّداً لحَمْلِ رسالةِ التَّوحيدِ إلى النّاسِ جميعاً)
– 4 – وأوْصَلْنا إلى بني إسرائيلَ شأنْهم الذي يكونُ مِنْهم حتْماً في المُستقبل، وأبْلَغْناهم إيّاهُ في الصُّحُفِ التي أوحيناها إلى أنبيائهم (أي : أسفارَ التَّوراة)، أي : قلنا لهم فيها : نُقْسِمُ قَسَمَاً مُؤكَّداً لتُفْسِدُنَّ في الأرضِ الواقعةِ بينَ المَسْجِدِ الحرامِ والمَسْجِدِ الأقْصَى مَرَّتَينِ (الفعلُ (لَتُفْسِدُنَّ) بهذه الصيغة فيه دلالتان، الأولى : توكيدُ حصولِ الفِعْلِ، والثاني : وُقُوعُهُ في المُسْتَقْبَلِ، وقد أفْسَدوا في المَرّةِ الأولى في أرْضِ مَهْجَرِ رسولِ الله مُحَمّدٍ (ص) التي سُمّيتْ بـ(أرضِ المدينة) بجُحودِ نُبوّتِهِ، وإنكارِ أنّ القرآنَ مُنْزَلٌ إليه من الله، ونقضِ العهود التي أخَذَها الرسولُ (ص) عليهم، وصَّدِّ النّاسِ عن الدّين الذي جاءّ به من الله، والإساءَةِ إلى الإسلام والمُسلمين، والتّحالُفِ مع مُشركي العرب ضدّهُ وضِدّ المُسلمين، وإثارةِ الفتَنِ والحُروبِ عليهم، وتَدْبِيرِ المُؤامراتِ لقتله (ص)، وأفْسَدوا في المرّةِ الثانية في أرض مَسْرَى رسولِ اللهِ مُحَمّدٍ، وهي أرضُ المسجدِ الأقصى وما حولَها)، ونُقْسِمُ قَسَمَاً مُؤكَّداً لتَتَكَبَّرُنَّ وتَتَجَبَّرُنَّ تَكَبُّراً وتَجَبُّراً كثيراً في إفسادِكم في المَرّةِ الثانية (الفعلُ (لَتَعْلُنَّ) بهذه الصيغة فيه دلالتان، الأولى : توكيدُ حُصُولِ الفِعْلِ، والثاني : وقوعُهُ في المُستقبل، وقد أفْسَدوا في المرّةِ الثانية في أرض مَسْرَى رسولِ اللهِ مُحَمَّدٍ، وهي أرضُ المسجدِ الأقْصَى وما حولَها ببَسْطِ سُلطانِهم على تلك الأرضِ باستعمال القُوّةِ والإرهابِ وإخْراجِ أهْلِها من ديارِهم، وقَتْلِ الرِّجالِ والنساءِ والأطفالِ، وتخريبِ الدِّيارِ و قَطْعِ الأشجارِ، والسَّيْطَرَةِ على مصادر المال العام ليكونَ النّاسُ مُحتاجين إليهم حتى وصَلَ بهم العُتُوّ إلى درجةَ التَّحَكُّمِ في مصائرِ النّاسِ وأموالِهم، فيخافُهم القاصي والدّانِي، ولا يأمَنُ شرَّهم ملوكُ الدُّولِ ورؤساؤها، فينقادون إليهم خوفاً على أنفُسِهم، وطَمَعاً في البقاءِ في كراسيهم، ويَصِلُ بهم العُلُوُّ إلى درجةِ أنّهم يستبيحون المَسْجِدَ الأقصى فيتَجَرَّؤون على الله ويتَعَرّضون إلى سَخَطِهِ)
– 5 – فإذا حَدَثَ وَعْدُ المَرّةِ الأُولَى بوقوعِ الفسادِ منكم وتَحَقَّقَ سَلَّطْنا عليكم عباداً موصوفين بأنَّنا اخْتَصَصْناهم لنا، موصوفينَ بأنَّهم أصحابُ قوةٍ وبَطْشٍ شديدٍ في الحرب (يدلُّ المعنى على أنَّهم المُؤمنون برسولِ اللهِ مُحَمّدٍ، وبالكِتابِ الذي أنْزَلَهُ إليه)، وإرسلناهم ووَجَّهْناهم إليكم بتَدْبِيرِنا، فوَطِئُوا ديارَكُم ودَخَلُوها، فأخْرَجوا بعضَكم منها صاغرين، وقتلوا آخرين، وهذا الأمْرُ حاصِلٌ في المُستقبل حتماً، كأنّهُ أمْرٌ قد حَدَثَ في الماضي، فلا مجالَ للتشكيك به، ويُؤكِّد حصولَ هذا الأمْرِ أنّه وُجِدَ في قضاءِ اللهِ في اللّوحِ المحفوظ حالةَ كونِهِ وَعْداً نافذاً لا خُلْفَ فيه (لقد تحقّق ما أخبرتْ بهِ الآيات الكريمة في يهود بني قينقاع، وبني النضير، وبني قُريظة، ويهود خيبر)
– 6 – ثمَّ أعَدْنا لكم الدولةَ والغَلَبَةَ والقَهْرَ عليهم (أي : على المُؤمنين برسولِ اللهِ مُحمّدٍ، وبالكِتابِ الذي أنْزَلَهُ إليه) بَعدَ زَمَنٍ من إخراجِهم إيّاكم من ديارِكم في المدينة، وقَتْلِهم بعضَكم، وزِدْناكم بالأموال والرِّجال المُقاتلين، وصَيَّرْناكم أكثرَ أنصاراً، وهذا الأمْرُ حاصِلٌ في المُستقبل حتماً، كأنّهُ أمْرٌ قد حَدَثَ في الماضي، فلا مجالَ للتشكيك به (صدق اللهُ، لقد حَصَلَ ما أخبرتْ به الآيةُ بعد حوالي ألف وأربعمائة سنة على نُزولها، فبعدَ أنْ كانت الدولةُ والغَلَبَةُ لعبادِ اللهِ على بني إسرائيل في المدينة المُنَوَّرَةِ، عادتْ الدّولةُ والغَلَبَةُ لبني إسرائيل في أرضِ فلسطين وما حولها من بلاد الشّام عليهم، وصارُوا أصحابَ أموالٍ كثيرةٍ، حتى صارُوا يَتَحَكَّمُونَ في اقتصادِ العالم كيفما شاؤوا، وتَدَفَّقَ عليهم الرِّجالُ والأنصارُ من كُلِّ مكانٍ في العالَم، فصارَ لهم من المُقاتِلينَ والأنصارِ عددٌ كبيرٌ، إنّ هذا كُلَّهُ قد تَحَقَّقَ لبني إسرائيل على المُؤمنين برسولِ اللهِ مُحمّدٍ، وبالكِتابِ الذي أنْزَلَهُ إليه في عصرنا الحاضِرِ، ولم يَتَحَقَّقْ شيءٌ منه لهم على نبوخذنصّر وجيشِهِ، كما جاء في روايةِ ابنِ إسحاق، فلم يُحدثنا التّأريخ عن دولةٍ أو غَلَبَةٍ كانت لبني إسرائيل على البابليين)
– 7 – إنْ فَعَلْتُم إلى النّاسِ ما هو حَسَنٌ نافِعٌ فَعَلْتُم الحَسَنَ النافِعَ لأنفُسِكم، وإنْ فَعَلْتُم ما هو قبيحٌ ضارٌّ بالنّاسِ من أفعالِ الشَّرّ فعَمَلُكم القبيحَ الضّارَّ بالنّاسِ كائنٌ على أنْفُسِكُم، (أي : يُشينُها ويَضُرُّها)، فإذا حَدَثَ وَعْدُ المَرّةِ الآخِرة، (وهي المرةُ الثانيةُ لوقوعِ الفساد منهم) وتَحَقَّقَ سَلَّطْنا عليكم أولئك العِبادِ الذين سَلّطْناهم عليكم وَقْتَ وقوعِ الفسادِ منكم في المرّة الأولى، ووَجَّهْناهم إلى ديارِكم بإرادتنا وعنايتنا، وسيكونُ مصيرُ ومآلُ أفعالِهم أنْ يَجْعَلُوا السُّوءَ بادِياً في وجوهِكم في المرحلةِ الأولى من أفعالِهم، وأنْ يَدْخُلوا المَسْجِدَ الأقصى دخولاً مِثْلَ دُخُولِهم إيّاهُ أوّلَ مَرّةٍ، وأنْ يُدَمِّروا كُلَّ شيءٍ غلبوا عليه، ويُحِيلُونَهُ إلى حُطامٍ مُتكسِّرٍ في المرحلة الثالثة من أفعالهم (أي : يُحيلونه إلى حُطامٍ مُتَكَسِّرٍ بحَرْبٍ شديدةٍ لا تُبْقِي ولا تَذَر)
– 8 – إنْ تَكُفُّوا عن الإفسادِ، وتُحْسِنُوا إلى النَّاسِ بأفعالِ الخير فالرجاءُ المُتحقّقُ من ربّكم أنْ يرْحَمَكُم بقبولِ توبتكم، وتوفيقِكم إلى الاستقامةِ في أعمالِكم، وإنْ تَعُودُوا إلى الإفسادِ نَعُدْ إلى عِقابكم بتَسْلِيطِ أولئك العِبادِ الذين سَلّطْناهم عليكم وقتَ وقوعِ الفساد منكم في المرة الأولى والثانية، وصَيَّرْنا جَهَنّمَ في الآخِرَةِ للذين يَجْحَدُونَ نعمةَ الله، ويكفُرونَ برسولِهِ مُحَمّدٍ، وبما أُنزِل إليه حابِساً لهم مانِعاً من الحَرَكة .