نحو منهج لفهم معاني القرآن بتحليل آياته وفق لغة العرب وأساليبهم في الكلام كما فهمها العربي في زمن نزول القرآن
(ملاحظة : ما بين قوسين هو دلالة المعنى في ضوء التحليل اللغوي، وقد جعلته في الأصل باللون الأحمر تمييزا له عن المعنى في ضوء التحليل اللغوي)
قال اللهُ تعالى في سورة آل عمران :
سورة آلِ عِمۡرَانَ
الٓمٓ ١ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُ ٢ نَزَّلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ ٣ مِن قَبۡلُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلۡفُرۡقَانَۗ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٞۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٍ ٤ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخۡفَىٰ عَلَيۡهِ شَيۡءٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ ٥ هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ٦ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٧ رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ ٨ رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ ٩
المعنى في ضوء التحليل اللغوي :
1 – أقْرَأُ السُّورَةَ بالاسْتِعانَةِ باللهِ المَوْصُوفِ بأنّهُ الرَّحمنُ الذي أتْقَنَ برَحْمَتِهِ خَلْقَ كُلِّ شيءٍ لأداءِ وَظيفَتِهِ التي خَلَقَهُ لأدائِها، المَوْصُوفِ بأنَّهُ الرَّحِيمُ الذي جَعَلَ وَظيفةَ كُلِّ شيءٍ خَلَقَهُ في حُدُودِ قُدْرَتِهِ واسْتِطاعَتِهِ، ألف لام ميم دلالةٌ على إنْزالِ القرآنِ بعُلومٍ ومعارِفَ إلهِيَّةٍ، منها عُلومٌ ومعارِفُ إلهِيَّةٌ اخْتَصَّتْ بها آياتُ السُّورَةِ، وتَشْتَرِكُ هذه السورة التي يُرْمَزُ لها بهذه الحروف مع سورة البقرة التي يُرْمَزُ لها بهذه الحروف في الدلالة على تلك العُلومِ والمعارِفِ
– 2 – اللهُ لا إلهَ إلاّ هُوَ، (أي : الألوهيّةُ مقصورةٌ عليه وَحْدَه منفيّةٌ عن غيرِهِ)، هو ذو الحياةِ الدائمةِ الثابتةِ الذي يُدْرِكُ كلَّ المُدرَكات، ولا تدخُلُ عليه عواملُ المَوْتِ والفناءِ، هو القائِمُ بتدبيرِ خَلْقِهِ
– 3 – هو أنْزَلَ إليكَ القرآنَ بالصِّدْقِ الثّابتِ الذي لا شَكَّ فيه حالةَ كونِهِ مُعْتَرِفاً بما تَقَدَّمَ أمامَهُ من الكُتُبِ، ومُثْبِتاً ما جاء فيها من الدعوةِ إلى توحيدِ اللهِ وإخلاصِ العبادةِ له، وهو أنْزَلَ التوراةَ (وهي الشريعةَ المُشتملةَ على الفرائض والأحكام والوصايا التي أنْزَلَها اللهُ على موسى)، وأنْزَلَ الإنجيلَ (وهو البِشارةُ لعيسى بن مريم بأنّهُ الرسولُ الذي يُؤيِّدُهُ اللهُ بروحِ القُدُس إلى بني إسرائيل، لتذكيرِهم بالعمل بالشريعة التي أنْزَلَها على مُوسى، وإنذارِهم بالعقابِ إذا تركوا العمَلَ بها، والبشارةُ إلى بني إسرائيل بأنْ يُخَفِّفَ عَنْهُم بعضَ التكاليفِ الشاقّة التي فَرَضَها اللهُ عليهم، وأنْ يُحِلَّ لهم بعضَ ما حرَّمَهُ عليهم، والبشارةُ بأنّ اللهَ يرفعُهُ إليه، ويُخَلّصُهُ من مُؤامرةِ بني إسرائيل عليه، والبشارةُ بالرسول الذي يأتي من بعدِهِ، واشتمَلَتْ هذه البِشارةُ على الوصايا والمعارف الإلهيّة التي تُهَذِّبُ نفسَ الإنسان، وتُطَهِّرُها من سوءِ الأخلاقِ والطّباعِ الفاسِدة)
– 4 – أي : أنْزَلَ التوراةَ والإنجيلَ من قبلِ إنزالِ القرآن، وأنْزَلَ من بعدِهما القُرآنَ الذي فَصَّلَ فيه كُلَّ شيءٍ من الفرائضِ والأحكامِ والوصايا والمعارفِ الإلهيّةِ وبَيَّنَهُ تبياناً لا لَبْسَ فيه (يدلُّ المعنى على أنّ القرآنَ باعتبارِهِ آخِرَ كتابٍ أنزَلَهُ اللهُ إلى الناس قد فَصَّلَ اللهُ فيه كلَّ شيءٍ يحتاجُهُ الإنسانُ في حياتِهِ في كُلِّ زمان ومكان، وبيَّنهُ تبياناً لا لَبْسَ فيه، ويدلُّ المعنى على انّ القرآنَ هو مصدرُ الأحكامِ والتشريعات، وأنَّ كُلَّ ما خالفَ القرآنَ من أحكامٍ وتشريعاتٍ لم يذكرْها اللهُ في القرآن يجبُ تَرْكُها وعدمُ الأخْذِ بها)، إنّ الذين جَحَدوا آياتِ الله التي أنْزَلها إلى رسولِهِ مُحَمّدٍ، وفَصّلَ فيها كُلَّ شيءٍ من الفرائضِ والأحكامِ والوصايا والمعارفِ الإلهيّةِ وبيَّنَهُ تبياناً لا لَبْسَ فيه لهم عذابٌ شديدٌ في الدنيا والآخرة، ويُؤكِّدُ ذلك أنَّ اللهَ قادرٌ على عذابِهم، ولا يمْتَنِعُ من قُدْرَتِهِ شيءٌ، واللهُ ذو قُدْرَةٍ على العقاب الشديد لمَنْ يكفُرُ بآياتِهِ (يدلُّ المعنى على تهديدٍ لليهود الموجودين في المدينة زَمَنَ الرسول مُحَمّدٍ (ص) إذا لم يُؤمنوا بالقرآنِ)
– 5 – إنَّ اللهَ لا يخفى عليه شيءٌ كائنٌ في الأرضِ مهما صَغُرَ أو كَبُرَ في كُلِّ زَمَنٍ، ولا يخفى عليه شيءٌ كائنٌ في السّماءِ مهما صَغُرَ أو كَبُرَ في كُلِّ زَمَنٍ، (يدلُّ المعنى على : فاحْذَروا أنْ تفعلوا شيئاً في الخفاءِ تَصُدّون به النّاسَ عن الإيمانِ بالرّسولِ مُحَمّدٍ، وعن الإيمان بالقرآنِ الذي أُنْزِلَ إليه)
– 6 – والدليلُ على أنَّ اللهَ لا يَخْفَى عليه شيءٌ كائنٌ في الأرضِ مهما صَغُرَ أو كَبُرَ، ولا يخْفى عليه شيءٌ كائنٌ في السّماءِ مهما صَغُرَ أو كَبُرَ أنَّهُ هو الذي يُوْجِدُكم في أرْحامِ أمهاتِكم، ويجْعَلُ لكم أشكالاً على أيِّ حالٍ من الأشكالِ ذاتِ الصفاتِ الخاصّةِ يُريدُ إيجادَكم عليها، هو لا إلهَ في الوجود إلا هو، هو القادِرُ على كُلِّ شيءٍ، الذي لا يَمْتَنِعُ من قُدْرَتِهِ شيءٌ، هو الحكيمُ المُتْقِنُ لجميع أفعاله، (يدلُّ المعنى على : فإذا عَلِمْتُم ذلك فاعلَمُوا أنَّهُ يعلمُ كُلَّ شيء تفعلونَهُ)
– 7 – هو الذي أنْزَلَ عليك القُرآنَ حالةَ كونِهِ مِنْهُ آياتٌ صِفَتُهُنَّ أنّهنّ مُحْكَماتٌ واضحاتُ الدِّلالةِ في نَظْمِهنَّ وصياغَتِهنَّ، معناهُنَّ ظاهِرٌ لا شُبْهَةَ فيه، ولا يحتاجُ إلى تأويلٍ، صِفَتُهُنَّ أيضاً أنّهنّ أصْلُ الفرائضِ والأحكامِ، ومِنْهُ آياتٌ أُخَرُ صِفَتُهنَّ أنّهنّ يَشْبَهُ بعْضُها بعضاً في المعنى، مُتَنَوِّعاتٌ في الأساليبِ التي تَدُلُّ على المعنى، (أي : مرّةً يأتي المعنى بأسلوبِ الخبر، وأُخرى بأسلوبِ الإنشاء، أو يأتي في صورةِ التّشْبِيهِ، أو التّشْبِيهِ التَّمْثِيلي، أو المَجازِ أو الاسْتِعارَةِ، أو الكِنايَةِ، أو التَّلْوِيحِ والإشارَةِ، فهنّ مُتشابِهاتٌ في المعنى، مُتَنَوِّعاتٌ في الأساليب، ولمّا كان القرآنُ قد نَزَلَ بلَغَةِ العَرَبِ وأساليبِهم في الكلام، فإنَّ أساليبَ العَربِ في الكلامِ على نوعين، فقد يأتونَ بالكلامِ مُحْكماً أحياناً، وهو الكلامُ الذي يفهمُهُ السامعُ مُباشرة، ولا يحتاجُ إلى التّفكيرِ وإعمالِ العَقْلِ وحَمْلِ بعضِهِ على بعض، وقد يأتونَ به مُتشابهاً أحياناً، وهو الكلامُ الذي يُعَبِّرونَ فيه عن معنى بأساليبَ مُتَنَوِّعةٍ، فمرّةً يُعَبِّرونَ عن المعنى بأسلوب الخبر، وأخرى يُعَبِّرون عنهُ بأسلوب الإنشاء، أو يُعَبِّرون عنه في صورةِ التّشبيهِ، أو التّشْبيهِ التّمْثيلي، أو المَجازِ أو الاستعارةِ، أو الكِنايَةِ، أو التّلْوِيحِ والإشارةِ، أو غير ذلك، وهذا النوعُ من الكلام يحتاجُ إلى إعمالِ العَقْلِ للوُصول إلى المعنى المُراد، وهو الذي يَسْتَهْوِي العَرَبَ، ويطيرون فَرَحاً حين يَصِلُونَ إلى معناه بعدَ سَماعِهِ، وبهذا النوع من الكلام نَظَمُوا قصائِدَهم المشهورةَ، فالمُتشابِهُ في القُرآن أنْ يأتي المعنى بأساليبَ مُتنوّعَةٍ، وهو من بلاغةِ القُرآنِ وإعجازِهِ، وهو ما أرادَهُ اللهُ تعالى من (تَصريف الآيات) في قولِهِ [سورة الإسراء : 88 – 89] :”قُلْ لئن اجْتَمَعَتْ الإنْسُ والجِنُّ على أنْ يأتوا بمِثْلِ هذا القُرآنِ لا يأتونَ بمِثْلِهِ ولو كان بَعْضُهم لبعضٍ ظهيراً * ولقد صَرَّفْنا للناسِ في هذا القُرآن من كُلِّ مَثَل فأبَى أكثَرُ النّاسِ إلّا كُفُوراً”، وقال تعالى [سورة طه : 113] : “فكذلِكَ أنْزَلْناهُ قُرآناً عربيّاً وصَرَّفْنا فيه من الوعيد لعلّهم يَتَّقونَ أو يُحْدِثُ لهم ذِكْراً”، أي : كَرَّرْنا الآيات ووَجَّهْناها في أساليبَ مُتَنوِّعةٍ للدلالة على المعنى الذي نُريدُ بيانَهُ، ويحتاجُ الوصولُ إلى معنى الآياتِ المُتشابِهةِ إلى التّمَكُّنِ من لُغَةِ العَرَبِ وأساليبهم في الكلام، ويَتَحَقّقُ ذلك بأنْ يقومَ المُتَمَكِّنُ من اللُّغَةِ العربيّةِ بتحليل جُمَلِ الآيات وكلماتها وفْقَ لغة العرب وأساليبهم في الكلام، ليَصِلَ إلى المعنى المُراد)، فأمّا الذين في قلوبِهم مَيْلٌ عن الحَقِّ، وجنوحٌ إلى الباطِلِ فإنّهم يَتَطَلَّبون الآياتِ التي تشابَهتْ من القرآنِ، طَلَباً للضّلالِ، واضْطرابِ الأفكارِ، وطَلَباً لإرجاعِ ظاهرِ الآياتِ المُتشابهةِ إلى معنى غير المعنى الذي أرادهُ اللهُ تعالى من دون التَمَكُّنِ من لغة القرآن وأساليبِهِ في الكلام، وما يَعْلَمُ معاني آياتِ القرآنِ على وَجْهِها الذي أرادَهُ اللهُ إلّا اللهُ والذين تَمَكّنوا من لُغَةِ القرآنِ الذي نَزَلَ بلغةِ العَرَبِ وأساليبهم في الكلام (يحتاجُ الذي تَمَكّنَ من لغةِ العَرَبِ وأساليبهم في الكلام إلى تحليلِ الآياتِ المُتشابِهة وفْقَ لُغةِ العربِ وأساليبهم في الكلام، ليصِلَ إلى المعنى المُراد، أمّا الذي لم يَتَمَكّنْ من لُغةِ العربِ وأساليبهم فيُرْجِعُ ظاهرَ الآياتِ المُتشابهةِ إلى معنى غير المعنى الذي أرادهُ اللهُ تعالى)، يقولُ الذين تَمَكّنوا من لُغَةِ العَرَب التي نَزَلَ بها القرآن وأساليبِهم في الكلام : صَدّقنا بالقرآنِ كُلِّهِ، لأنّ كُلَّ آياتِهِ نازلةٌ من عندِ ربِّنا – وواقعُ الحال أنَّهُ ما يُظْهِرُ معاني القرآن على وَجْهِها الذي أرادَهُ اللهُ إلّا أصحابُ العقولِ الخالصةِ الذين تَمَكَّنوا من لُغَةِ العَرَب التي نَزَلَ بها القرآن وأساليبهم في الكلام
– 8 – ويقولُون : يا ربّنا، نسألُكَ أنْ لا تَجْعَل قلوبَنا تميلُ عن معاني آياتِكَ التي أردْتَها في القرآن بعد زمانِ هِدايتنا إلى الإيمانِ برسولك، وبالقرآن الذي أنْزَلْتَهُ إليه، ونسألك – يا ربّنا – أنْ تَمْنَحَنا رَحْمَةً حالةَ كونها خاصّةً من عندك بتوفير ألطافِكَ وتوفيقاتك لنا، لكي لا نَتَطَلَّبَ الآياتِ التي تشابَهتْ من القرآن، طَلَباً للضّلال، واضْطراب الأفكار، لأنّك أنت المانِحُ لهذه الألطافِ والتّوفيقاتِ
– 9 – ويقولونَ : يا ربّنا، إنّك جامعُ النّاسِ كُلِّهم لأجْلِ يومٍ صفتُهُ أنّهُ لا شكّ في مجيئِهِ، (وهو يومُ البَعْثِ والحِسابِ الذي وَعَدَ اللهُ عِبادَهُ به لحسابِهم وجزائِهم)، نؤكِّدُ أنّهُ واقِعٌ لا محالةَ لأنّ اللهَ لا يُخْلِفُ وَقْتَ وَعْدِهِ بيومِ البَعْثِ والحسابِ .
Photo by Masjid Pogung Dalangan on Unsplash