نحو منهج لفهم معاني القرآن بتحليل آياته وفق لغة العرب وأساليبهم في الكلام كما فهمها العربي في زمن نزول القرآن
(ملاحظة : ما بين قوسين هو دلالة المعنى في ضوء التحليل اللغوي، وقد جعلتُهُ في الأصل باللون الأحمر تمييزا له عن المعنى في ضوء التحليل اللغوي)
وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ ١١٢ وَلَقَدۡ جَآءَهُمۡ رَسُولٞ مِّنۡهُمۡ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَهُمۡ ظَٰلِمُونَ١١٣ فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَٰلٗا طَيِّبٗا وَٱشۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ ١١٤ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١١٥ وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ ١١٦ مَتَٰعٞ قَلِيلٞ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ ١١٧ وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا مَا قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُۖ وَمَا ظَلَمۡنَٰهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ ١١٨ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ وَأَصۡلَحُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورٞ رَّحِيمٌ ١١٩
المعنى في ضوء التحليل اللغوي :
– 112 – وذَكَرَ اللهُ مَثَلاً للذين جَحَدُوا نِعْمَةِ اللهِ عليهم بإرسالِهِ مُحَمَّداً رسولاً إليهم، ولم يُصّدِّقُوا بنُبوّةِ رسولِ اللهِ مُحَمّدٍ، وبإنزالِ القرآنِ إليه، أي : ذَكَرَ مَثَلاً لَهُم أهْلَ قريةٍ صِفَتُهُم أنّهم كانوا آمِنينَ في قَرْيَتِهم من كُلِّ خَوْفٍ، فلا يَغْزُوهم عَدُوٌّ أو تَحُلُّ بهم كارثةٌ بفضْلِ الله عليهم، صِفَتُهُم أيضاً أنَّهم كانُوا قارّينَ فيها، (أي : مُسْتقرّينَ فيها لا يَحْتاجُون إلى الانْتِقالِ عنها طَلَباً للرّزْقِ)، صِفَتُهُم أيضاً أنَّهُم كانوا يأتيهم رِزْقُهم من كُلّ مكانٍ حالةَ كونِهِ كثيراً واسِعَاً طيّباً من غيرِ تَعَبٍ ولا مُعاناةٍ، (أي : هم في عَيْشٍ هَنِيءٍ واسعٍ من كُلّ شيء)، فجَحَدوا نِعَمَ اللهِ عليهم بالشِّرْكِ به، وتكذيبِ رُسُلِهِ، ولم يُقابِلُوها بطاعَتِهِ وإخلاصِ العِبادةِ له، والتَّصْدِيقِ برُسُلِهِ شُكْراً لهُ، فجَعَلَهم اللهُ يُقاسُونَ ضَرَرَ الجُوعِ والخَوْفِ بمَنْعِ رِزْقِهِ عنهم، ورَفْعِ الأمْنِ والاسْتِقْرارِ عن قريتِهم عقاباً لهم بسَبَبِ الذي كانوا يَفْعَلُونَهُ، فشَمِلَهم الجوعُ والخَوْفُ وأحاطا بهم، كما يَشْتَمِلُ اللِّباسُ على بَدَنِ صاحِبِهِ
– 113 – وأُقْسِمُ على سبيلِ التّوكيدِ لقد جاءَ أهْلَ تلك القريةِ رسولٌ من اللهِ صِفَتُهُ أنّهُ منهم، ليهدِيَهم إلى توحيدِ اللهِ وإخلاصِ العبادةِ له، فكذّبوا رسولَهم، وجَحَدوا نُبوّتَهُ، ولم يُقابِلُوا نِعْمَةَ اللهِ عليهم بالتَّصْدِيقِ برسُولِهِ، والاسْتِجابَةِ لدعوتِهِ، فأهْلَكَهم العذابُ الذي أحَلَّهُ اللهُ بهم حالةَ كونِهِم مُتجاوِزِينَ وَحْدانِيَّةَ اللهِ إلى الشِّرْكِ به، ومُتجاوِزِين التَّصْدِيقَ برسولِهِ إلى التَّكْذِيبِ به وبما جاءَهُم به من الله (يَدُلُّ المعنى على أنَّ اللهَ ضَرَبَ هذا المثل لليهودِ الموجودين في المدينة لتحذيرِهِم من أنْ يكونوا مِثْلَ أهلِ القرية، فيَعْصُوا اللهَ بعَدَمِ التَّصْدِيقِ بنُبُوّةِ رسولِهِ مُحَمّدٍ (ص) الذي بَعَثَهُ إلى النّاسِ جميعاً، والكتابِ الذي أنْزَلَهُ إليه، فيُعاقبهم اللهُ بجَعْلِهم يُقاسُونَ ضَرَرَ الجوعِ والخوفِ بمَنْعِ رِزْقِهِ عنهم، ورَفْعِ الأمْنِ والاسْتِقْرارِ عن قَرْيَتِهم بعدَ أنْ كانوا قارِّين في ديارِهم في المدينة، آمِنين من الخوف، يأتيهم رِزْقُهم من كُلّ مكانٍ)
– 114 – فإذا جَعَلَكُم اللهُ آمنينَ في قَرْيَتِكم، قارّين فيها، يأتيكم رِزْقُكم كثيراً واسِعاً طَيّباً من غيرِ تَعَبٍ ولا مُعاناةٍ فكُلُوا من كُلًّ شيءٍ رَزَقَكُم اللهُ إيّاهُ حالةَ كونِهِ رِزْقاً مُباحاً، طَيِّباً تَسْتَلِذُّهُ نُفُوسُكم، ولا تَعافُهُ، وإنْ كُنْتُم تَعْبُدونَ اللهَ وَحْدَهُ وتُخْلِصونَ له العِبادةَ فاشْكُروا نِعَمَ اللهِ عليكم بالتَّصْدِيقِ بنُبُوَّةِ رسولِهِ مُحَمّدٍ، والتَّصْدِيقِ بالقُرآنِ الذي أنْزَلَه إليه، ولا تُقابِلُوا نِعَمَهُ بالجُحُودِ بنُبُوَّتِهِ، وبالقُرآنِ الذي أنْزَلَهُ إليه، فيَحِلُّ عليكم عقابُهُ، (يَدُلُّ المعنى على تحذيرٍ من الله لليهودِ الموجودين في المدينة من أنْ يَجْحَدوا نُبوّةَ رسولِ الله مُحمّدٍ، ويَجْحدوا القرآنَ الذي أنْزَلَهُ إليه، فيَحِلّ عليهم عقابُ الله كما حَلَّ بأهلِ تلك القرية، ولمّا لم يعتبرْ اليهودُ الموجودون في المدينة بما ضَرَبَهُ اللهُ لهم من المَثَل، وأصَرّوا على الجُحُودِ بنُبَوَّةِ رسولِهِ مُحَمّدٍ (ص)، وبالقُرآنِ الذي أنْزَلَهُ إليه سَلَّطَ اللهُ عليهم رسولَهُ والمُؤمنين به، ومَكَّنَهم منهم، فأذاقَهُمُ اللهُ لباسَ الجوعِ والخوفِ بحصارِهم، وقَتْلِ بعضِهم وإجلاءِ الآخرين من المدينة إلى بلادِ الشام، مع إجبارِهم على تَرْكِ ديارِهم وأموالِهم للمُسلمين)
– 115 – إنّما حَرَّمَ اللهُ عليكم المَيْتَةَ، وهي كلُّ حيوانٍ أباحَ الله أكْلَهُ وماتَ حَتْفَ أنْفِهِ، أو ماتَ على هيئةٍ غيرِ شَرْعِيّةٍ (يدلّ لفظ (المَيْتَة) على عُمومِ المَيْتَة، ولمّا كان المقصودُ من التّحْرِيمِ الأكْلُ منها، فكُلُّ شيءٍ في المَيْتَة حرامٌ أكْلُهُ)، وحَرَّمَ عليكم الدّمَ، (يدلّ لفظ (الدّم) على السائلِ الأحمرِ الذي يَجْرِي في عُرُوقِ الحَيَوَان، ويَتَدَفَّقُ من عُروقِهِ حين ذَبْحِهِ أو قَطْعِ عِرْقٍ من عُروقِهِ، ويُسْتَدلُّ بمعنى (الدم) على أنّ الدّمَ المُتَبَقِّي داخلَ لحم الحيوان المأكولِ اللّحْمِ بعد ذّبْحِهِ بطريقةٍ شرعيةً لا يَصْدُقُ عليه الدَّمُ المُحَرَّمُ أكْلُهُ)، وحَرَّمَ عليكم لحمَ الخنزير (المُرادُ بـ(اللحم) من جسم الحيوان والطير : الجزءُ العَضَلِي الرَّخْو بين الجِلْدِ والعَظْم، و(لَحْمُ كُلِّ شيء) : لُبُّهُ، ولمّا كان المقصودُ من التحريم الأكْلُ، فكُلُّ لَحْمِ الخنزير حرامٌ أكْلُهُ بما في ذلك لَحْمُ رأسِهِ ولسانُهُ ولحمُ رجليه وقَدَمَيْهِ، وكُلُّ لُبِّهِ من قلْبِهِ وشَحْمِهِ وأعضاءِ جِهازِهِ الهضمي، وأحشائِهِ الداخلية حرامٌ أكْلُهُ)، وحَرَّمَ عليكم كُلَّ ذبيحةٍ جَهَرَ الذابِحُ بذَبْحِها لغيرِ الله عليها، (أي : الذبيحة التي يَجْهَرُ الذابِحُ بذبْحِها باسمٍ غيرِ اسمِ الله، وهو اسْمُ مَنْ تُقدَّم الذبيحة قُرْباناً له، فكُلُّ شيءٍ في هذه الذبيحةُ حرامٌ أكْلُهُ)، فأيُّ إنسانٍ منكم ألْجَأتْهُ الحاجَةُ، وأحْوَجَتْهُ إلى أكْلِ شيءٍ من المُحَرّماتِ السّابقةِ بسَبَبِ جُوعٍ مُهْلِكٍ يَخْشَى مِنْهُ على نَفْسِهِ، أو بسَبَبٍ غيرِ ذلك، وحالُهُ في الاضْطِرارِ أنّهُ غيرُ قاصدٍ للفَساد بالخُروجِ على نِظامِ الدِّينِ وشَرِيعَتِهِ فيما حرّمَهُ اللهُ، ولا مُتجاوزٍ شريعةَ اللهِ بالمعاصي، وأكَلَ منها فلا حَرَجَ عليه ولا ذَنْبَ، لأنّ اللهَ كثيرُ الغفران لعباده التّائِبينَ، كثيرُ الرَّحمةِ بهم بقَبُولِ توبتهم (يدلُّ المعنى على أنّ اللهَ تعالى قد حَرَّمَ المَيْتَةَ والدّمَ ولحمَ الخنزير وما أُهِلَّ لغيرِ اللهِ به على اليهودِ كما حَرَّمها على المُسلمين، لأنّ مَصْدرَ شريعةِ اليهودِ والمُسلمين واحدٌ هو اللهُ تعالى)
– 116– وأنْهاكُم عن أنْ تَقُولوا : هذا حَلالٌ، وهذا حَرامٌ لأجْلِ حكايةِ ألْسِنَتِكُم الكَذِبَ بالحِلّيَةِ أوالحُرْمَةِ من غيرِ دليلٍ شَرْعيّ، ليَؤُولَ قولُكم ذلك إلى أنْ تَخْتلقوا الكَذِبَ على اللهِ، لأنَّ الذين يَخْتَلِقُونَ الكَذِبَ على اللهِ لا يَفُوزُون بخيرٍ في الدنيا والآخرة، (يدلّ المعنى على أنّ الخِطابَ مُوَجّهٌ إلى أحبارِ اليهود وعُلمائِهم الموجودين في المدينة زَمَنَ الرسول (ص)، ويُمكن الاستدلالُ بمعنى الآية على حُرْمَةِ وَصْفِ الشيءِ بالحِليّة والحُرْمَةِ من غير سندٍ شرعي من القُرآن)
– 117 – ما يَحْصُلونَ عليه باخْتِلاقِهِم الكَذِبَ على اللهِ مَتاعٌ قليلٌ في مِيزانِ ثوابِ الآخِرَةِ، يتمتّعونَ به في الدُّنيا مُدّةً قليلةً، ثم يَزُولُ عنهم، ولهم في الآخرة عذابٌ مُوجِعٌ
– 118 – وحَرَّمْنا على الذين هادوا ما تلوناهُ عليك (في الآية : 146 من سورة الأنعام، وتَقَدّمَ القولُ في (الذين هادوا) في (الآية : 62 من سورة البقرة) من قبلِ نُزُولِ آيةِ تحريمِ المَيْتَةِ والدّمِ ولحمِ الخنزير وما أُهِلَّ لغيرِ اللهِ به (قال الله تعالى [الآية 146 من سورة الأنعام] : “وعلى الذين هادوا حرَّمْنا كُلَّ ذي ظُفُرٍ، ومن البَقَرِ والغَنَمِ حرَّمْنا عليهم شُحُومَهُما إلاّ ما حمَلتْ ظُهُورُهُما أو الحَوَايا أو ما اخْتلَطَ بعظم”)، وما ظَلَمْناهُم بتَحْرِيمِنا عليهم ما تلوناهُ عليك (في الآية : 146 من سورة الأنعام)، فَقَدْ كانت حلالاً عليهم، ولكن كانوا يَظْلِمُون أنفُسَهم بتَكذِيبِهم الأنبياءَ والرّسُلَ، واختلاقِهم الكَذِبَ على الله، وقولِهم : هذا حلالٌ وهذا حرامٌ من غيرِ دليلٍ شَرْعِيّ، فجَزَيْناهم بتَحْرِيمِنا تلك الأطْعِمَة عليهم
– 119 – ثمّ إنَّ رَبَّك للذين عَمِلُوا الفِعْلَ السَّيِّءَ منهم حالةَ كونِهم جاهِلِينَ، مُنْساقِينَ وراءَ شَهَواتِهم وأهوائِهم، أو مُنساقِينَ وراءَ أحبارِهم وعُلمائِهم، غيرَ عالمين بعَوَاقِبِها، ثمّ تابُوا ونَدِموا على ما فَعَلوهُ من بعْدِ ذلك، وأتَوْا بالأعمالِ الصّالِحَةِ النّافِعَةِ، إنَّ رَبَّكَ من بعدِ تَوبَتِهم لغفورٌ لهم رحيمٌ بهم، لا يُؤاخِذُهم على ما فعلوه بجهالة (الفِعْلُ السَّيِّئُ هو اخْتِلاقُهم الكَذِبَ على اللهِ بقولِهم : هذا حلالٌ وهذا حرامٌ، فحَرَّمُوا أشياءَ قد أحَلَّها، وأحَلّوا أشياءَ قد حَرَّمَها) .