نحو منهج لفهم معاني القرآن بتحليل آياته وفق لغة العرب وأساليبهم في الكلام كما فهمها العربي في زمن نزول القرآن

(ملاحظة : ما بين قوسين هو دلالة المعنى في ضوء التحليل اللغوي، وقد جعلتُهُ في الأصل باللون الأحمر تمييزا له عن المعنى في ضوء التحليل اللغوي)

وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٣٨ فَمَن تَابَ مِنۢ بَعۡدِ ظُلۡمِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ٣٩ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٤٠

المعنى في ضوء التحليل اللغوي :

– 38 – الذي يَسْرُقُ والتي تسرُقُ فامْنَعُوهما من فعْلِ السَّرِقَةِ واصْرِفوهما عنه، وحُولُوا بينَهما وبينَ فِعْلِ السَّرِقةِ بحَبْسِهما أو سِجْنِهما ليكونَ ذلك جزاءً من اللهِ لهما مُقابِلَ الذي تَحَمّلاهُ من إثْمِ السّرِقةِ، أي : عقاباَ لهما من اللهِ، ويُؤكِّدُ وجوب الالتزام بهذا الحُكْمِ أنّ اللهَ قادرٌ على كُلِّ شيءٍ، لا يَغْلِبُهُ شيءٌ، ولا يَمْتَنِعُ من قُدْرَتِهِ شيءٌ، مُتْقِنٌ لتشريعاتِهِ وأحْكامِهِ

– 39 –  فأيُّ سارِقٍ أو سارِقَةٍ رَجَعَ عن فعْلِ السّرِقةِ، ونَدِمَ عليه من بعْدِ تجاوُزِهِ حقَّ نَفْسِهِ عليه بتَعْرِيضِها للعُقوبَةِ، وعَمِلَ عَمَلاً نافعاً أزالَ بهِ فسادَ نفسِهِ فإنّ اللهَ يَعْفُو عنه، ويغفرُ له، لأنَّ اللهَ كثيرُ الغفرانِ لعبادِهِ الذين يتوبون بعدَ المَعْصِيَةِ، كثيرُ الرّحْمَةِ بهم (جاءَ حُكْمُ السّارِقُ والسّارِقَةُ مَرّةً واحِدةً في القرآنِ في هذا الموضِعِ من سورةِ المائدة، والآيةُ مُحْكَمَةٌ من آياتِ الأحْكامِ، ولو كان حُكْمُ السارِقُ والسّارِقَةُ أنْ تُفْصَلَ أيْدِيهما لبَيَّنَ اللهُ تعالى في الآيةِ مِقدارَ المقطوعِ من اليدِ، ومقدارَ المَسروقِ الذي يُقامُ لأجْلِهِ عقوبةُ فَصْلُ اليَدِ، وقد تَسَبَّبَ تَرْكُ بيانِ ذلك في اختلافِ المُسلمين، فقد اختلفوا في مقدارِ المَسروقِ الذي يُقامُ لأجْلِهِ عقوبةُ قَطْعِ اليد، فذهَبَ بعضُهم إلى أنّ قَطْعَ اليد يكونُ في رُبْعِ دينار، ولا يكونُ في أقلّ من ذلك، وقالوا : يكونُ في بيضةِ حديد، وقالوا : في ثُلُثِ دينار، وقالوا : في خُمْسِ دينار، وقالوا : في عشرةِ دراهم، وقالوا : في مِجَنْ، وهو التُّرْس، واختلفوا في قيمة التُّرْس، واختلفوا في مِقدارِ المقطوع، فقالوا : من مفصل الكفّ، وقالوا : من وَسَطِ الكفّ ولا تُقْطَعُ الإبهام، وقالوا : من المَنْكِب، وقالوا : تُقطَع الأصابع فقط، وقالوا : تُقطَعُ يمينُهُ، فإنْ سَرَقَ مرّةً أُخرى قُطِعَتْ رجلُهُ اليُسرى، ثمّ إذا سَرَقَ مرّةً أخرى سُجِن، وكُلُّ هذا الاختلافِ راجعٌ إلى اخْتلافِ الرّوايات)

– 40 – ألم تَعْلَمْ – أيُّها المُشَكِّكُ في قبولِ اللهِ توبَةَ السّارِقِ والسّارِقةِ – أنّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السماواتِ والأرضِ، لا يُشارِكُهُ في مُلْكِهِ أحَدٌ ؟ وأنّ اللهَ يُعذّبُ مَنْ يشاءُ تعذيبَهُ، ويغْفِرُ لمَنْ يشاء أنْ يَغْفِرَ له ؟ ويُؤكِّد ذلك أنّ الله قديرٌ على كلّ شيء (يدُلُّ المعنى على تَرْغِيبِ السّارِقِ والسّارقةِ في التّوبة، وعَدَمِ الشّكِّ في قبولِ اللهِ تَوبَتَهما، لكي يَطْمَئِنّا من غُفرانِ اللهِ ذَنْبَهما، فيكونا عُضْوَيْنِ صالحين نافِعَيْنِ في المُجْتَمَع) .

ثرية المسجد النبوي

Photo credit: © by Safa Kadhim

التحليل اللغوي :

– 38 – (والسارق … من الله) مُعترضة وَسط الكلام لبيان حُكم السارق والسارقة، (السارقُ) مبتدأ، (والسارقةُ) عطف عليه، والألف واللام في (السارق والسارقة) موصول، (أي : الذي يَسْرُقُ والتي تَسْرُقُ)، (فاقطعوا أيديهما) خبر المُبتدأ، ودخلت الفاء في الخبر لما في الموصول من العموم المُشْبِه للشرط، هذا ما قالهُ الأخفش والمُبَرّد وجماعة من النحويين، وأجازَهُ الزَّمَخْشري، (اقطعوا) أمْرٌ مبني على حذف النون، (واو الجماعة) فاعلُهُ، (أيْدِيَ) مفعول به مُضاف إلى ضمير التثنية (هما) العائد إلى (السارق والسارقة)، وقد جرت عادة العرب أنّهم إذا أضافوا العضو المُوَحَّد من الإنسان إلى مُثنّى جمعوه فقالوا : (رؤوسهما)، و(أيديهما)، و(أعينهما)، قال تعالى : (فقد صغتْ قلوبُكما)، واستعملَ العرَبُ (قَطَعَ) في معانٍ كثيرةٍ، قالوا : (قَطَعَ االشيءَ) :  فَصَلَ بعضَهُ وأبانَهُ، و(قَطَعَ النّخلةَ) : اجْتَنى ثَمَرَها، و(قَطَعَ الصّديقَ) : تَرَكَهُ وهَجَرَهُ، وفيه معنى (المَنْع)، أي : مَنَعَ نفسَهُ من وصالِهِ، كما قالوا : (قَطَعَ فُلاناً عن حَقِّ فُلانٍ) : مَنَعَهُ منه، و(قَطَعَ رَحِمَهُ) : لم يَصِلْها، أي : مَنَعَ نفسَهُ من وصالِها، و(قَطَعَ فلاناً بالحُجّةِ) : غَلَبَهُ وأسْكَتَهُ، فلم يُجِبْ، أي : أبْطَلَ حُجَّتَهُ ومَنَعَهُ من الإجابة، كما قالوا : (قَطَعَ الصلاةَ) : أبْطَلَها، ومَنَعَ نفْسَهُ عن أدائها، أو مَنَعَ نفسَهُ عن إتمامها بإتيان ما يُنافيها، وقالوا : (أقْطَعوا الرَّجُلَ) : أبْطَلوا حُجَّتَهُ، وبَكَّتُوهُ بالحقِّ فلم يُجِبْ، و(قُطِعَ بفُلانٍ) : حِيلَ بَيْنَهُ وبَيْنَ ما يأمُلُهُ، و(قَطَعَ لِسانَهُ) : أسْكَتَهُ، أي : مَنَعَهُ من الكلام، و(قَطَعَ يَدَهُ عن كذا) : مَنَعَهُ منه، وصَرَفَهُ عنه، قال تعالى في الكلام عن معركة أُحُد، (آل عمران : 127) : “لِيَقْطَعَ طَرَفاً من الذين كفروا أو يَكْبِتَهم فيَنْقَلبوا خاسرين”، أي : لِيَمْنَعَ عنكم جانباً أو طائفةً من الذين كفروا، ويَصْرِفَهم عنكم، أو يَرُدُّهم بغيظهم، فيرجعوا من عندِكم إلى ديارِهم حالةَ كونِهم خائبين خاسرين لم ينالوا ما كانوا يطلبونه، وقالوا : (أقْطَعَت السماءُ بموضِعِ كذا) : انْقَطَعَ المَطَرُ عنه، أي : مَنَعَتْ مَطَرَها عنه، و(قاطَعَ القومَ) : امْتَنَعَ عن التعاون مَعَهم، و(قَطَعَ يَدَهُ) : خَدَشها، قال تعالى (يوسُف : 31) : “وَقَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ”، أي : خَدَشْنَها خَدْشاً كثيراً، ولذلك شَدَّدَ، و(تَقَطَّعَ القومُ) : تَفَرَّقوا، قال تعالى (الأعراف 168) : “وقَطَّعْناهم في الأرضِ أُمَماً”، أي : فَرَّقْناهم فِرَقاً، وإنّما أورَدْتُ المعاني التي استعملها العَرَبُ من (قَطَعَ) لأجِدَ المعنى الذي يتوافق مع سياق الآية والآية التي بعدَها، وأرى أنَّ المعنى الذي يتوافقُ مع سياقِ الآية و مع قولِهِ تعالى في الآية التي بعدَها : (فمَنْ تابَ من بعدِ ظُلْمِهِ وأصْلَحَ فإنَّ اللهَ يتوبُ عليه) هو أنَّ (قَطَعَ) هنا بمعنى : المَنْعِ والصَّرْف والتفريق والحيلولة بين المَرْءِ وبين ما يُريدُ أنْ يَفْعَلَهُ، فيكونُ معنى قولَهُ : (فاقْطَعوا أيْدِيَهما) : فامْنعوهما من فعْلِ السَّرِقَةِ واصْرِفوهما عنه، وحولوا بينهما وبينَ فِعْلِ السَّرِقةِ بحَبْسِهما أو سِجْنِهما، (جزاءً) خبر (يكون) منصوباً بعد (لام التعليل)، محذوفاً مع اسْمِهِ لكثرةِ استعمالِهِ في هذا الكلام، قالوا : (افعلْ به كذا وكذا جزاءً)، أي : (ليكونَ جزاءً)، والجملة تعليل لما قبلها، (بما) متعلقان بـ(جزاء)، والباء حرف جر بمعنى المُقابلة، و(ما) موصول، (كسَبا) صلة (ما)، (كَسَبا) فعل ماضٍ، و(ألف الاثنين) فاعلُهُ، والعائد مُقدّر، وهو المفعول به، والتقدير : (كَسَباهُ)، و(كَسَبَ الإثم) : تَحَمَّلَهُ، (نكالاً) بدل من (جزاءً)، و(النَّكال) : العِقاب، (من الله) مُتعلّقان بـ(جزاءً) و(نكالاً)، (والله .. حكيم) مرتبطة بما قبلها بالواو لتوكيد مضمونها، وتقدّم القولُ في مثلها

– 39 – (فمَنْ … عليه) مرتبطة بالحكم السابق بالفاء، (مَنْ) اسم شرط مبتدأ، (تابَ .. ظُلْمِهُ) جملة الشرط، (تابَ) فعل ماضٍ، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (مَنْ)، (من بعْدِ) مُتعلّقان بـ(تاب)، و(بعد) مُضاف إلى (ظُلمِهِ)، و(تابَ عن المعصية) : رجَعَ عنها، ونَدِمَ على فِعْلِها، (وأصْلَحَ) عطف على جملة الشرط، و(أصْلَحَ) : عَمِلَ عَمَلاً نافعاً، وأزالَ فسادَ ما فَعَلَهُ، (فإنّ .. عليه) جواب الشرط، (اللهَ) اسم (إنَّ)، (يتوبُ عليه) خبر (إنّ)، (يتوبُ) مُضارع مرفوع، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (الله)، (عليه) مُتعلّقان بـ(يتوب)، و(تاب اللهُ عليه) : عفا عنه، وغَفَرَ ذنبَهُ، (إنّ .. رحيم) تعليل لما قبلها، وتقدّم القولُ في مثلها، وجملة الشرط وجوابه خبر المبتدأ

– 40 – (ألم تعلم … والأرض) توكيد لمضمون (الآية : 36)، والهمزة للاستفهام الإنكارِي، (تعلمْ) مُضارع مجزوم بـ(لم) وفاعلُهُ ضمير المُخاطب مُستتراً، ويدلُّ نَظْمُ ما قبلها ومعناهُ أنَّ الخِطابَ مُوَجَّهٌ إلى المُشَكِّك في قبولِ اللهِ توبَةَ السّارِقِ والسّارِقةِ، (أنَّ) حرف توكيد ونصب ومصدر، (اللهَ) اسم (أنَّ)، (لهُ) مُتعلّقان بمُقدّر خبر مُقدّم، (مُلْكُ) مُبتدأ مُؤخّر، وهو مُضاف إلى (السماوات)، (والأرض) عطف على (السماوات)، والجملة الاسمية خبر (أنّ)، و(أنّ اللهَ .. والأرض) في تأويل مصدر سدّ مسد مفعولي (تعلم)، (يُعذّبُ مَنْ يشاء) خبر ثان لـ(أنّ)، (يُعَذّبُ) مُضارع مرفوع، وفاعلُهُ ضمير عائد إلى (الله)، (مَنْ) موصول مفعول به، (يشاءُ) صلة (مَنْ)، (يشاءُ) مُضارع مرفوع وفاعله ضمير عائد إلى (الله)، ومفعوله مُقدّر مع العائد إلى الموصول، والتقدير : (يشاءُ تعذيبَهُ)، (ويَغفِرُ لِمَنْ يشاء) عطف على ما قبلها ومثلها في القول، (والله … قدير) مرتبطة بما قبلها بالواو لتوكيد مضمونها، وتقدّم القولُ في مثلها .