نحو منهج لفهم معاني القرآن بتحليل آياته وفق لغة العرب وأساليبهم في الكلام كما فهمها العربي في زمن نزول القرآن
(ملاحظة : ما بين قوسين هو دلالة المعنى في ضوء التحليل اللغوي، وقد جعلتُهُ في الأصل باللون الأحمر تمييزا له عن المعنى في ضوء التحليل اللغوي)
معاني الآيات 88 – 94 من سورة النّساء
المعنى في ضوء التحليل اللغوي :
– 88 – فأيُّ شيءٍ حَصَلَ لكم – أيُّها المُؤمنون – حالةَ كونِكم فِرْقَتَيْنِ مُخْتَلَفَتَيْنِ في المُنافقين (يدُلُّ المعنى على أنَّ بعضَ الذين أسْلَمُوا من أهلِ المدينة لَحِقُوا بالمُشركين وتَرَكوا المدينةَ، فانقَسَمَ المُؤمنون بسَبَبِهم إلى فِرْقَتَيْنِ : فِرْقَة تَرَى أنَّهم ما زالوا مُؤمنين، ولكنَّهم رَحَلُوا إلى مَكّةَ لأسبابٍ تخصُّهم، وفِرْقَة ترى أنّهم لم يُؤمنوا، وأظهروا الإيمانَ نِفاقاً، ولمّا حانَتْ لهم الفُرصَةُ الْتَحَقُوا بالمُشركين)، وواقِعُ حالِهم أنّ اللهَ رَدَّهُم إلى الكُفْرِ والضَّلالِ بَعْدَ خُروجِهم منه بسَبَبِ الذي تَحَمَّلُوهُ من آثام ِالنِّفاقِ ؟ لا يَنْبَغِي أنْ يَحْدُثَ ذلك منكم أيّها المُؤمنون، هل تُريدونَ أنْ تَهْدُوا الذين جَعَلَهم اللهُ يَزِلّون عن الإيمانِ بسَبَبِ نفاقِهم ؟ لا يهدي أحَدٌ إنساناً يجعلُهُ اللهُ ضالّاً، ويُؤكِّدُ ذلك أنّ أيَّ إنسانٍ يجعلْهُ اللهُ ضالّاً بسَبَبِ إصْرارِهِ على النِّفاقِ فلَنْ تَجِدَ له طريقاً إلى الهِدايةِ
– 89 – تَمَنَّى المُنافقونَ أنْ تَجْحَدوا نُبُوَّةَ رسولِ اللهِ والقرآنَ الذي أنْزَلَهُ إليه جُحوداً مِثْلَ جُحودِهم نُبُوّتَهُ والقرآنَ الذي أنْزَلَهُ إليه، فتصيروا أنْتُمْ وهُمْ في ذلك سواءً (يدلُّ معنى (لو) على أنَّ حصولَ ما يتَمَنّونَهُ بعيدٌ، لأنَّ المُؤمِنَ الذي يُصَدِّقُ بنُبُوّةِ رسولِ الله والقرآنِ الذي أنْزَلَهُ إليه حَقَّ التصديق لا يَرْتَدُّ عن هذا الإيمانِ أبداً)، فإذا عَرَفْتُم ذلك فأنْهاكم عن أنْ تَتَّخِذوا منهم أصْدِقاءَ وناصرينَ تستعينون بهم في أمورِكم إلى أنْ يَتْركوا المُشرِكين، ويَنْتَقِلُوا إلى صَفِّ المُؤمنين من أجْلِ دينِ اللهِ الذي أرْسَلَ به رسولَهُ مُحَمّداً، فإنْ أعْرَضوا عن ذلك، وأصَرّوا على جحودِهم نُبُوَّةَ رسولِ اللهِ والقرآنَ الذي أنْزَلَهُ إليه، وعلى التحاقِهم بصَفِّ المُشركين المُحاربين لكم فائْسِرُوهم وأذِلّوهم في أيِّ مكانٍ وَجَدْتُمُوهُم فيه، وأنهاكم مَرّةً أخرى على سبيل التأكيد عن أنْ تَتَّخِذُوا منهم صديقاً ولا ناصراً
– 90 – لكن الذين يَنْتَمُون أو يَنْتَسِبوَن إلى قومٍ بينَكم وبينَهم ميثاقٌ (أي : عَهْدٌ، كعهدِ الحِلْفِ أو الجِوارِ أو الصُّلْح)، أو الذين جاؤوكم لطَلَبِ السّلامِ مَعَكَم، وحالُهم أنّهم قد ضاقتْ صدورُهم كراهةَ أنْ يُقاتلوكم، أو يُقاتلوا قومَهم، (أي : إنّهم يتحرّجون من أنْ يُقاتلوا المُسلمين، وأنْ يُقاتلوا قومَهم، فبسببِ ذلك يعتزلون المُسلمين ويَعْتَزِلُونَ قومَهم)، فلا تأسِروهم ولا تُذِلّوهم في أيِّ مكان تجدونَهم فيه – وواقعُ الحال لو أرادَ اللهُ تمكينَهم منكم لأطْلَقَ لهم القُدرةَ، ومكَّنَهُم منكم، فلَقَاتَلُوكم – فإنْ ابْتَعَدوا وتَنَحّوا عن قتالِكم، فلم يُقاتلوكم، وأظْهَروا الاسْتِسْلامَ فكُفُّوا أيديَكم عنهم، لأنّ اللهَ ما أنْشَأ لكم عليهم حُجّةً لقِتِالهم أو أسْرِهم (يدلّ المعنى على عَدَمِ جوازِ قِتال الذين يُريدون السّلام مع المُؤمنين، أو الذين ارتبطوا مع المُسلمين بمُعاهدةِ سَلام، أو الذين أظهروا الاسْتِسلامَ، أو الذين أظْهَرُوا من أنْفُسِهم ما يُطَمْئِنُ المُؤمنين بأنّهم غيرُ مُحاربين لهم سواءٌ أكانوا من أهلِ الكتاب، أم من المُشركين، أم مِمَّنْ ليس لهم دين)
– 91 – ستجدونَ قوماً آخرينَ صِفَتُهم أنّهم يُريدون أنْ يُظْهِروا لكم ما يجعلُكم مُطْمَئِنّين إليهم غيرَ خائفين منهم (أي : يُظْهِروا الاسْتِسْلامَ، أو يُظهروا من أنفُسِهم ما يُطَمْئِنُ المُؤمنين بأنّهم غيرُ مُحاربين، أو يُظْهِروا الاعتزالَ والابتعادَ عن القتال)، ويُريدون أنْ يَسْلَمُوا من قومِهم على أنفُسِهم، (بعدم الدخولِ في دينِ الإسلام)، صفتُهم أيضاً أنّهم كُلَّ وَقْتٍ يُعيدُهم قومُهم المُشركون إلى الضَّلالِ ردَّهم اللهُ إليه، فإنْ لم يَبْتَعِدُوا ويَتَنَحّوا عن قتالِكم، وإنْ لم يُظْهِروا الاسْتِسْلامَ، أو يُظهروا من أنفُسِهم ما يُطَمْئِنُ المُؤمنينَ بأنّهم غيرُ مُحاربين، وإنْ لم ينْصَرِفوا عن قتالكم ويَمْتَنِعوا عنه فائْسِرُوهم، وأذِلّوهم في أيّ مكانٍ ظَفَرْتُم بهم فيه (لأنّهم يُعَدّون مُحاربين لكم)، وأولئكم صَيَّرْنا لكم عليهم غَلَبَةً وقُوَّةً ظاهرةً
– 92 – وما وُجِدَ في دينِ الله وحُكْمِهِ حَقٌّ لمُؤمِنٍ (أي : لِمُصدِّقٍ بوحدانيّةِ اللهِ ونُبُوَّةِ رسولِهِ مُحَمّدٍ)، في أنْ يَقْتُلَ إنساناً خاضِعاً مُسْتَسْلِماً، مُؤْمِناً الناسَ من شَرِّهِ، مُظْهِراً من نفسِهِ ما يجعلُ الناسَ غيرَ خائفين منه، أو مُظْهِراً من نفسِهِ ما يُطَمْئِنُ المُؤمنين بأنّهُ غيرُ مُحارٍبٍ في أيّ حالٍ من الأحْوالِ إلا في حالِ أنْ يَقْتُلَهُ بخَطَأٍ، وأيُّ مؤمنٍ (أي : مُصدِّقٍ بوحدانيّةِ اللهِ ونُبُوَّةِ رسولِهِ مُحَمّدٍ) قَتَلَ إنساناً خاضعاً مُسْتَسْلِماً، مُؤْمِناً النَّاسَ من شَرِّهِ، مُظْهِراً من نَفْسِهِ ما يَجْعَلُ النّاسَ غيرَ خائفينَ منه، أو مُظْهِراً من نَفْسِهِ ما يُطَمْئِنُ المُؤمنين بأنّهُ غيرُ مُحاربٍ بِخَطَأٍ فعَلَيْهِ تحريرُ عَبْدٍ مَمْلوكٍ مُؤمنٍ، وعَلَيْهِ دِيَةٌ واصِلةٌ إلى أهلِ القَتِيلِ (الدِّيَةُ : مالٌ يُعْطَى وليّ المقتول بَدَلَ دَمِهِ) إلّا في حالِ أنْ يَتَصَدَّقَ أهلُ القتيلِ بالدِّيَةِ على القاتل (أي : يُعطونَهُ مالَ الدِّيةِ صَدَقَةً إذا وجدوهُ فقيراً لا يقدِرُ هو ولا أهلُهُ على دَفْعِ الدِّية، فحينَئِذٍ لا يجبُ عليه دفْعُ الدِّيَةُ)، فإنْ وُجِدَ المقتولُ بخَطَأٍ حالةَ كونِهِ من قومٍ صِفَتُهم أنّهم أعداءٌ لكم، ويُناصبونَكم الحَربَ، وحالُهُ أنّهُ خاضِعٌ مُسْتَسْلِمٌ، مُؤمِنٌ النّاسَ من شَرِّهِ، مُظْهِرٌ من نفسِهِ ما يجعلُ النّاسَ غيرَ خائفين منه، أو مُظْهِرٌ من نَفْسِهِ ما يُطَمْئِنُ المُؤمنين بأنّهُ غيرُ مُحاربٍ (كما لو لم يعلم القاتلُ أنّهُ كذلك فقَتَلَهُ ظنّاً منه أنّهُ مُحاربٌ مثلُ قومِهِ المُحاربين)، فعلى القاتل تحريرُ عبدٍ مملوكٍ مُؤمنٍ، (يدلُّ نَظْمُ هذا المَقْطَعِ من الآية على أنَّهُ لا يجبُ على القاتل دَفْعُ الدِّيةِ إلى أهلِهِ)، وإنْ وُجِدَ المقتولُ بخَطَأٍ حالةَ كونِهِ من قومٍ صِفَتُهُم أنَّ بينَكم وبينَهم ميثاقاً وعَهْداً بعَدَمِ الاعْتِداءِ فعلى القاتِلِ دِيَةٌ واصِلَةٌ إلى أهل القتيل، وعليه تحريرُ عَبْدٍ مملوك مُؤمنٍ، فمَنْ لم يجِدْ عَبْداً مملوكاً مُؤمناً (أو لا يقدر على ثمنِ شرائِهِ)، فعَلَيْهِ صيامُ شهرين مُتتابعين، لأجل أنْ تكون هذهِ الكفّارَةُ رُجوعاً من الله عليه بالمَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ، ويُؤكِّدُ وجوبَ الالتزام بذلك أنّ اللهَ في وجودِهِ عليمٌ بنيّاتِكم وبما تعملون، مُتْقِنٌ لتشريعاتِهِ وأحكامِهِ (يدلُّ معنى الآية وسياقٌ الآيات التي قبلها على أنّهُ يحرُمُ على المُؤْمِنِ حقّاً (أي : المُصَدِّق بوحدانيّةِ اللهِ ونُبُوَّةِ رسولِهِ مُحَمّدٍ) أنْ يقتُلَ إنساناً خاضعاً مُستسلماً، مُؤمناً الناسَ من شَرِّهِ، مُظْهِراً من نفسِهِ ما يجعلُ الناسَ غيرَ خائفين منه، أو مُظهِراً من نفسِهِ ما يُطَمْئِنُ المُؤمنين بأنّهُ غيرُ مُحاربٍ سواء أكان من أهلِ الكتاب، أم من المُشركين، أم ممّن ليس لهم دِينٌ في أيِّ حال من الأحوال إلّا في حالِ أنْ يقتُلَهُ بخطأٍ، أمّا ما ذَهَبَ إليه المُفسّرون من أنّ المُرادَ بالمُؤمن المقتول خطأً هو المُصَدِّق بوحدانيّةِ اللهِ ونُبُوَّةِ رسولِهِ مُحَمّدٍ، وما ذهبَ إليه الفقهاء بناء على هذا التفسير من أنَّهُ إذا قتلَ المُسلمُ غيرَ المُصَدِّق بوحدانيّةِ اللهِ ونُبُوَّةِ رسولِهِ مُحَمّدٍ خَطَأً فلا دِيّةَ على القاتل، ولا كفّارةَ عليه بعتقِ رقبةٍ مُؤمنة أو صيام شهرين مُتتابعين فهو مُخالف لمعنى الآية الذي ظَهَرَ من التحليل اللغوي لها، ومُخالف لسياق ما قبلها وما بعدها)
– 93 – وأيُّ إنسانٍ من المُسلمين يقتلْ إنساناً خاضعاً مُستسلماً، آمِناً الناسَ من شَرِّهِ، مُظْهِراً من نفسِهِ ما يجعلُ الناسَ غيرَ خائفين منه، أو مُظهِراً من نفسِهِ ما يُطَمْئِنُ المُؤمنين بأنّهُ غيرُ مُحاربٍ حالةَ كونِهِ مُتعمّداً (أي : قاصداً قَتْلَهُ معَ عِلْمِهِ أنّ الذي يقوم به هو القَتْلُ، وأنّ الذي يقتلُه إنسانٌ خاضعٌ مُستسلمٌ، آمِنٌ الناسَ من شَرِّهِ، مُظْهِرٌ من نفسِهِ ما يجعلُ الناسَ غيرَ خائفين منه، أو مُظهِرٌ من نفسِهِ ما يُطَمْئِنُ المُؤمنين بأنّهُ غيرُ مُحاربٍ) فجزاؤه جهنمُ حالةَ كونِهِ مُقيماً فيها إقامة دائمة، ويُؤكِّدُ هذا الجزاء أنّ اللهَ قد غَضِبَ عليه، وطَرَدَهُ من رحمتِهِ، وهيّأ له في جهنّم عذاباً عظيماً (يدلّ معنى الأية على أنَّ الجزاءَ المذكورَ كائنٌ في الآخرة، أمّا جزاؤهُ في الدنيا فقد بيّنَتْهُ آيةُ القِصاص في (سورة البقرة، الآية : 178)، وهو القتْلُ)
– 94 – يا أيّها الذين آمنوا، إذا أبْعَدْتُم في الأرضِ من أجْلِ دين الله لقتال أعدائكم الذين يُريدونَ حَرْبَكم فتَثَبّتُوا وتأنّوا في مَنْ تُقْدِمون على قَتْلِهِ، وأنهاكم عن أنْ تقولوا لمَنْ اسْتَسْلَمَ وأظْهَرَ من نفسِهِ الخضوعَ والانقيادَ وعَدَمَ القتال لَسْتَ
مُستسلماً خاضعاً غيرَ مُحاربٍ، بل أظهرْتَ الاستسلام والخضوعَ والانقيادَ وعَدَمَ القتال خوفاً من القتل، فتقتلوه حالةَ كونِكم تطلبون بقَتْلِهِ مَتاعَ الحياةِ الدنيا الفاني كالغنيمة والمال، وهو مَتاعٌ زائلٌ لا بقاءَ له، لأنَّ عندَ اللهِ أمْتِعَةً كثيرةً من النِّعَم والأرزاق تفوزون بها، كنتم مِثْلَ ذلك الذي اسْتَسْلَمَ وأظْهَرَ من نفسِهِ الخضوعَ والانقيادَ وعَدَمَ القتال (أي : كنتم غيرَ مُصَدِّقين بوحدانيّةِ الله ونُبُوَّةِ رسولِهِ) من قبلِ أنْ يهْدِيَكم اللهُ للإيمان، فأنْعَمَ عليكم بالإيمان، فإذا كان الأمْرُ كذلك فيجِبُ عليكم أنْ تَتَثَبّتوا وتَتَأنّوا لئلا تقتلوا إنساناً خاضعاً مُستسلماً، آمِناً الناسَ من شَرِّهِ، مُظْهِراً من نفسِهِ ما يجعلُ الناسَ غيرَ خائفين منه، أو مُظهِراً من نفسِهِ ما يُطَمْئِنُ المُؤمنين بأنّهُ غيرُ مُحاربٍ عَمْداً، لأنّ اللهَ في وجودِهِ خبيرٌ بكل شيء تعملونَهُ، يعلم نيّاتِكم ودوافِعَكم التي تُخفونها وراء أعمالكم (يدلّ المعنى على أنّ المُسلم حقّاً يجبُ أنْ يتعاملَ مع أيِّ إنسانٍ سواء أكانَ مُسلماً مِثْلَهُ أم غيرَ مُسلم على أساس ما يُظْهِرُهُ، وأنّ اللهَ هو الذي يعلمُ السرائر، وعلى أنّهُ لا يجوزُ للمُسلم حقّاً أنْ يَحْكُمَ على إنسان بخلاف ما ظَهَرَ منه) .

Photo credit: © by Safa Kadhim