نحو منهج لفهم معاني القرآن بتحليل آياته وفق لغة العرب وأساليبهم في الكلام كما فهمها العربي في زمن نزول القرآن
(ملاحظة : ما بين قوسين هو دلالة المعنى في ضوء التحليل اللغوي، وقد جعلتُهُ في الأصل باللون الأحمر تمييزا له عن المعنى في ضوء التحليل اللغوي)
إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةٗ قَانِتٗا لِّلَّهِ حَنِيفٗا وَلَمۡ يَكُ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٢٠ شَاكِرٗا لِّأَنۡعُمِهِۚ ٱجۡتَبَىٰهُ وَهَدَىٰهُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ١٢١ وَءَاتَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗۖ وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ١٢٢ ثُمَّ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ أَنِ ٱتَّبِعۡ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٢٣ إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبۡتُ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ١٢٤ ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ ١٢٥ وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَيۡرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ ١٢٦ وَٱصۡبِرۡ وَمَا صَبۡرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُ فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ ١٢٧ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ ١٢٨
المعنى في ضوء التحليل اللغوي :
– 120 – إنَّ إبراهيمَ كانَ أصْلَ أنْبياءِ بني إسرائيل الذين هم من ذُرِّيَةَ إسْحاقَ ويعقوبَ، وأصلَ نبيِّ اللهِ مُحَمَّدٍ الذي هو من ذُريّةِ أسماعيل بن إبراهيم، وأصْلَ شريعةِ التَّوحيدِ التي جاءَ بها أنبياءُ بني إسرائيل، وأصْلَ شريعةِ التَّوحيدِ التي جاءَ بها نبيُّ اللهِ مُحَمَّدٌ، (يدلُّ المعنى وسِياقُ ما قبلها على أنَّ أصْلَ تحريمِ المَيْتَةِ والدّمِ ولحمِ الخنزيرِ وما أُهِلَّ به لغير الله موجودٌ في شريعةِ إبراهيم، وأنَّ إبراهيمَ حرّمَها على نَفْسِهِ)، إنَّهُ كان جامعاً لخصالِ الخيرِ كُلّها، مُطيعاً للهِ، خاضعاً له، مُقرّاً بالعُبوديّة له، قائِماً بجميعِ ما أمَرَ اللهُ به، مائِلاً عن كُلِّ دينٍ باطِلٍ، مُستقيماً على دينِ الله وشريعتهِ، وحالُهُ أنّهُ لم يُوجَدْ في حياتِهِ من المُشركين بالله
– 121 – إنَّهُ كان شاكراً لأنْعُمِ الله عليه بتًوْحِيدِهِ وتَعْظِيمِهِ وتَمْجِيدِهِ والثَّناءِ عليه وإخلاصِ العِبادَةِ لَهُ، اصْطفاهُ اللهُ واختارَهُ للنُّبُوةِ وحَمْلِ رسالةِ التّوحيدِ إلى النّاسِ، ودَلَّهُ إلى دينٍ مُعْتَدِلٍ مُسْتَوٍ، هو توحيدُ اللهِ وإخلاصُ العبادَةِ له، والاسْتِسْلامُ له فيما شَرَعَهُ من أحكام الدين، وعَرَّفَهُ وبَيَّنَهُ لهُ
– 122 – وأعطيناهُ بعنايةٍ خاصّةٍ مِنّا في الدُّنيا ذِكْراً طَيّباً، وإنّهُ في الآخِرَةِ لمِنْ السّالمين مِنْ كُلِّ عَيْبٍ
– 123 – ثم أوحينا إليك – يا مُحَمَّدُ – بعدَ أنْ بَعَثْناك رسولاً للنّاسِ كافّةً على فَتْرَةٍ من الرُّسُلِ، أي : قُلنا لك : اتَّبِعْ شَريعةَ إبراهيمَ ودينَهَ حالةَ كونِهِ مُوَحِّداً لله، مائلاً عن كُلِّ دينٍ باطلٍ، مُستقيماً على دينِ اللهِ وشريعَتِهِ، وما وُجِدَ في حياتِهِ حالةَ كونِهِ من المُشركين بالله
– 124 – إنّما فُرِضَ الانْقِطاعُ عن المعيشةِ والاكتسابِ يومَ السَّبْتِ من كُلِّ أُسبوع على الذين اختلفوا في هذا اليوم (يدُلُّ الفعلُ المبني للمجهول (جُعِلَ) على أنَّ فَرْضَ الانْقِطاعِ عن المعيشةِ والاكتسابِ يومَ السَّبْتِ من كُلِّ أُسبوع كان في زَمَنِ موسى، وبأمْرٍ منه، وقد ورَدَتْ وَصِيَّةُ تقديسِ يوم “السبت” في عِدَّةِ مواضِعَ من سِفْرِ الخروج منها: “فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: إِلَى مَتَى تَأْبَوْنَ أَنْ تَحْفَظُوا وَصَايَايَ وَشَرَائِعِي؟ اُنْظُرُوا! إِنَّ الرَّبَّ أَعْطَاكُمُ السَّبْتَ. لِذلِكَ هُوَ يُعْطِيكُمْ فِي الْيَوْمِ السَّادِسِ خُبْزَ يَوْمَيْنِ. اجْلِسُوا كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَكَانِهِ. لاَ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْ مَكَانِهِ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ” ــ سفر الخروج (16: 28- 29). وفي سفر الخروج (20: 8- 10): “اُذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ . سِتَّةَ أَيَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ، وَأَمَّا الْيَوْمُ السَّابعُ فَفِيهِ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ . لاَ تَصْنَعْ عَمَلاً مَا أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأَمَتُكَ وَبَهِيمَتُكَ وَنَزِيلُكَ الَّذِي دَاخِلَ أَبْوَابِكَ” . يقول جاري جرينبرج في كتابه “101 أسطورة توراتية : الكتابُ المُقَدَّسُ لا يأتي على ذكر تلك الشَّعيرةِ من خلال أيِّ جُزْءٍ من تاريخِ “بني إسرائيل” فيما سبق الخروج من “مصر . إنَّ قِصَّةَ الخُروجِ من “مصر” حَوَتْ بعضَ الأوامِر الإلهيّةِ للالْتِزامِ بعُطْلَة “السبت”، لكن هذه الآيات لرُبَّما كانت إضافاتٍ مُسْتَحْدَثَةً أيضا . ففي الواقِعِ إن آيات سِفْرِ التثنية (5: 15)، التي تَعْكِسُ آراءَ الملك يُوشيا قبل الأسْرِ البابلي بقليلٍ، تقولُ إنَّ الرَّبَّ أمَرَ “بني إسرائيل” بعُطْلَةِ “السَّبْت” ليس لأنَّهُ اليومُ الذي اسْتَرَاحَ فيه الرَّبُّ، وإنّما لأنَّهُ اليومُ الذي خَلَّصَهُم فيه من حياةِ العُبوديّةِ في “مصر”: “وَاذْكُرْ أَنَّكَ كُنْتَ عَبْدًا فِي أَرْضِ مِصْرَ، فَأَخْرَجَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ هُنَاكَ بِيَدٍ شَدِيدَةٍ وَذِرَاعٍ مَمْدُودَةٍ . لأَجْلِ ذلِكَ أَوْصَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ أَنْ تَحْفَظَ يَوْمَ السَّبْتِ”، ويَدُلُّ المعنى على أنَّ اليهودَ اخْتلَفُوا في حقيقةِ فَرْضِ الانْقِطاعِ عن المعيشَةِ والاكْتِسابِ يومَ السَّبْتِ من كُلِّ أُسبوع، فبَعضُهُم جَعَلَهُ فَرْضاً واجِباً عليهم من اللهِ، وبعضُهم جعلَهُ فَرْضاً عليهم من موسى نفسِهِ وليس من اللهِ، وبعضُهم جَعَلَهُ مُمارَسَةً أخَذَها اليهودُ من البابليين بعدَ السَّبْي البابلي، ويَدُلُّ المعنى على أنَّ اللهَ جَعَلَهُ فَرْضاً واجِباً عليهم بعدَ اخْتِلافِهم امْتِحاناً لالْتِزامِهم بما فَرَضَهُ اللهُ عليهم من الأحكامِ والوصايا، ويَدُلُّ المعنى على أنَّ فَرَضَ الانْقِطاعِ عن المعيشةِ والاكتسابِ يومَ السَّبْتِ من كُلِّ أُسبوع لم يجعلْهُ اللهُ على غيرِ اليهودِ من الأُمَمِ، ولم يكُنْ تحريمُ العَمَلِ يومَ السّبْتِ موجوداً في شريعةِ إبراهيم)، وإنَّ ربّك لَيَحْكُمُ بينهم يوم القيامَةِ في الذي كانوا يَخْتَلِفُونَ فيه
– 125 – اُدْعُ إلى دِينِ ربّك الذي بعَثَكَ به (وهو دينُ الإسلامُ الذي نَزَلَ به القُرآنُ) مُسْتَعِيناً بالحِكْمَةِ (وهي اختيارُ أفْضلِ الحُجَجِ، وأفْضَلِ العِباراتِ التي تُرَغِّبُ المدْعُوَّ إلى ما يُدعَى إليه)، ومُستعيناً بالموعظةِ الحَسَنَةِ (وهي النَّصِيَحةُ، والأمْرُ بالطاعةِ، والتوصيةُ بها، والتذكيرُ بالعواقب، والتخويفُ من عواقبِ الإعراض عمّا يُدْعى إليه بالأسلوب الحَسَنْ الذي يتَقَبَّلُهُ المَدْعُوّ)ُ، وحاجِجْهُم وناقِشْهُم بالكلامِ المُباشِرِ، مُسْتَعِيناً بالجُملةِ التي هي أحْسَنُ الجُمَلِ، وبالكلامِ الذي هو أحْسَنُ الكلام في التأثير على المَدْعُوّ، وحَمْلِهِ على تغييرِ موقِفِهِ الذي يُصِرّ عليه، آمُرُك بذلك، لأنّ ربّك هو أعْلَمُ بحالِ مَنْ ضَلّ عن دينِهِ، وأعلمُ بالأسلوبِ الذي يُؤثِّرُ عليهم، وهو أعْلَمُ بالمُهْتَدِينَ الذين تَنْفَعُ معهم الدّعوةُ بالحِكمةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ (يَدُلُّ المعنى على أنّ اللهَ يأمُرُ رسولَهُ والمُسلمين على نَحْوِ الوُجوبِ بأنْ تكونَ دعوةُ النّاس من اليهود وغيرِهم إلى دينِ الإسلامِ بالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، وأنْ يكون النِّقاشُ والحِجاجُ معهم بأحْسَنِ العِبارات، وأحْسَنِ الكلام، ويتضمّنُ المعنى النَّهْيَ على نَحْوِ الوُجوبِ عمّا يُنَفِّرُ النّاسَ عن الإسلام من الأفعالِ والأساليبِ والكلامِ)
– 126 – وإنْ جازَيْتُم بالسُّوءِ مَنْ أساءَ إليكم في فِعْلٍ أو قَوْلٍ من اليَهودِ الموجودِينَ في المدينةِ أو من المُشركينَ فجازُوهم بمِثْلِ الفِعْلِ أو القّوْلِ السَّيّءِ الذي أساؤوا به إليكم، وبقَدْرِهِ، ولا تَزِيدُوا، وأُقْسِمُ على سبيلِ التَّوكيدِ لئنْ صَبَرْتم على تَرْكِ مُعاقَبَتِهم لهو خيرٌ للصابرين، (لأنّ في تَرْكِ مُعاقبتهم استمالةً لهم إلى دِينكم)
– 127 – واصْبِرْ على ما تَلْقاهُ مِنْهُم من أذىً بسَبَبِ دَعْوَتِكِ إيّاهم إلى الإسلام، وتبليغِكَ إيّاهم رسالةَ ربِّك – وواقعُ الحال أنّهُ ما صَبْرُك الذي أنتَ عليه إلا بقُوّةٍ من الله، وتوفيقٍ منه – ولا تَحْزَنْ عليهم بسَبَبِ عَدَمِ اسْتِجابَتِهم لدَعْوَتِك، ولا تكُنْ في ألمٍ أو أسَفٍ من تدبيرِهم لك بالحيلةِ أمْراً ليَصْرِفوك به عن الدَّعْوَةِ والتَّبْلِيغِ
– 128 – لأنَّ اللهَ كائنٌ مع الذينَ خافُوهُ وعَمِلوا بما أمَرَهم به ونَهاهُم عَنْهُ في المَعُونَةِ والتَّأييدِ والنُّصْرَةِ، ومع الذين هم مُحْسِنُونَ بأنْ زادُوا على خوفِهم من اللهِ الثباتَ على الدِّينِ، وإتقانَ دعوتِهم النّاسَ إلى دينِ اللهِ بالحِكمةِ والموعظةِ الحَسَنَةِ باخْتيارِ أحْسَنِ العباراتِ وأحسنِ الكلام
