نحو منهج لفهم معاني القرآن بتحليل آياته وفق لغة العرب وأساليبهم في الكلام كما فهمها العربي في زمن نزول القرآن
(ملاحظة : ما بين قوسين هو دلالة المعنى في ضوء التحليل اللغوي، وقد جعلتُهُ في الأصل باللون الأحمر تمييزا له عن المعنى في ضوء التحليل اللغوي)
وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ ١٨ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ١٩ وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِيكُمۡ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكٗا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ يُؤۡتِ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢٠ يَٰقَوۡمِ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡأَرۡضَ ٱلۡمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ ٢١ قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّ فِيهَا قَوۡمٗا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَا حَتَّىٰ يَخۡرُجُواْ مِنۡهَا فَإِن يَخۡرُجُواْ مِنۡهَا فَإِنَّا دَٰخِلُونَ ٢٢ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمَا ٱدۡخُلُواْ عَلَيۡهِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَٰلِبُونَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٢٣ قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَآ أَبَدٗا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ ٢٤ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَآ أَمۡلِكُ إِلَّا نَفۡسِي وَأَخِيۖ فَٱفۡرُقۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَٰسِقِينَ ٢٥ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيۡهِمۡۛ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗۛ يَتِيهُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَٰسِقِينَ ٢٦
المعنى في ضوء التحليل اللغوي :
18 – وقالت اليهودُ والنَّصارَى : نحن قريبونَ من اللهِ دونَ غيرِنا من سائرِ الأُمَمِ مِثْلَ قُرْبِ الأبناءِ إلى أبِيهم، فنحنُ بالنِّسْبَةِ إلى الله كأبنائِهِ، ونحنُ أيضاً أحِبّاءُ الله، خَصَّنا بالحُبِّ دونَ غيرِنا، (يَدُلُّ قولُهم هذا على قولٍ مُلازِمٍ مفهوم، وهو : وبِسَبَبِ مَنْزِلَتِنا القريبةِ من الله، وحُبِّهِ إيّانا، فإنّهُ لا يُعذّبُنا يومَ القيامة)، قُلْ – يا محَمّدُ – ردّاً عليهم : إذا كانَ الأمْرُ كما تقولون فلأيِّ شيءٍ يُعَذِّبُكُم اللهُ بسَبَبِ ذنوبِكم في الدّنيا والآخرة ؟ أنْتُمْ لَسْتُم كما تقولونَ، بل أنْتُمْ بَشَرٌ من البَشَرِ الذين خَلَقَهُم اللهُ (يَدُلُّ لفظُ (بَشَر) على معنى : أنتم مثلُ باقي البَشَرِ، يُخْطِئونَ ويُصيبونَ، ويَعْصُونَ ويُطيعُونَ)، يُؤكِّدُ ذلك أنَّ اللهَ يغفرُ لمَنْ يشاء أنْ يغفِرَ له منهم بسَتْرِ ذُنوبِهِ والعَفْوِ عنهُ، ويُعذّبُ مَنْ يشاء أنْ يُعَذّبَهُ منهم، (يدلُّ قولُهُ تعالى : (فلِمَ يُعَذّبكم بذنوبكم) على أنَّ مشيئتَهُ بالمَغْفِرَةِ والعذابِ مُتَسَبِّبَةٌ عن عَمَلِ الإنسان، فَمَنْ تابَ عن ذُنوبِهِ لأجْلِ الله، وأصْلَحَ غفَرَ اللهُ لهُ بمشيئته، ومَنْ أصَرَّ على الذُّنوبِ، وتَعَدَّى حدودَ عبوديّتِهِ لله عَذّبَهُ اللهُ بمشيئته) ويُؤكِّدُ مُضِيّ مَشيئتِهِ وعدم قُدْرَةِ أحَدٍ على التأثير عليها أنّ للهَ وَحْدَهُ مُلكَ السّماواتِ والأرضِ ومُلكَ كلِّ شيءٍ كائنٍ بينهما، يتصَرَّفُ بمُلْكِهِ الذي يدخُلُ فيه اليهودُ والنصارى كما يشاءُ، وإليه وَحْدَهُ مَرْجِعُهم في الآخرة، (يدلُّ المعنى على أنّ مَنْ يَزْعُمُ من المُسلمين أنّهُم الطّائفةُ النّاجيةُ من النّار، أو أنَّهم الطائفةُ التي لا يُعذّبها اللهُ في النّار يومَ القيامةِ بسَبَبِ حُبِّهم للرسول (ص)، أو حُبِّهم لأهلِ بَيْتِهِ، أو للصّحابَةِ فإنَّ القولَ فيهم كالقولِ في اليهود والنصارى، وهو قوله تعالى : “فلِمَ يُعَذِّبكم بذُنوبِكم بل أنتم بشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يغفرُ لمَنْ يشاء ويُعَذِّبُ مَنْ يشاء”)
– 19 – يا أهلَ الكتابِ (النداءُ مُوجَّهٌ إلى اليهودِ والنَّصارَى)، قد جاءكم رسولُنا مُحَمّدٌ على مُدَّةِ انقطاعٍ وسُكونٍ من إرسالِ الرُّسُل حالةَ كونِهِ يُبيّنُ لكم كثيراً من الأحكامِ التي كان عُلماؤكم وأحبارُكم يُخفونَها عنكم حالةَ كونِها من الشّريعَةِ المُشْتَمِلَةِ على الفرائضِ والأحكامِ والوصايا التي أنْزَلْناها اللهُ على موسى، ومن البِشارَةِ التي أنْزَلناها على عيسى كراهةَ أنْ تقولوا ما جاءَنا أيُّ رسولٍ بشيرٍ ولا أيُّ رسولٍ نذيرٍ يُبيّنُ لنا ذلك، ويُبَشِّرنا برحمةِ اللهِ ومغفرتهِ إذا صَدَّقْنا بنُبُوّتِهِ، ويُنْذِرُنا بعذابِ الله إذا جَحَدْنا نُبُوّتَهُ، فأُؤَكِّدُ لكم قد جاءكم رسولٌ بشيرٌ ونذيرٌ، هو رسولُنا مُحَمّدٌ، ويُؤكِّدُ ذلك أنَّ اللهَ قديرٌ على كلّ شيء
– 20 – وذَكِّرْ اليهودَ الموجودين في المدينة إذْ قالَ موسى لقومِهِ الذين هم أسلافُهم : يا قومِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عليكم حينَ أنْشَأَ فيكم أنبياءَ (مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف)، وصَيَّرَكم أحراراً تَمْلِكُونَ أنفُسَكم، ولا يَمْلِكُكُم أحدٌ بعدَ هلاكِ فرعون، وأعطاكم من النِّعَمِ الذي لم يُعطِهِ أحَداً كائناً من العالمين
– 21 – يا قومي، ادْخُلوا الأرضَ التي جَعَلَ اللهُ فيها الخَيْرَ والبَرَكةَ التي قَضَى لكم بدُخُولِها والسّكَنِ فيها (هي الأرضُ التي فيها بيتُ المَقْدِس)، ولا تَنْهَزِموا أمامَ المُقاتلين الذين يَمْنَعُونَكم من دُخولِها، فتَعُودُوا حالةَ كونِكم مُهْلِكين أنفُسَكم بالضَّياعِ وعَدَمِ الاسْتِقْرارِ بسَبَبِ انهزامِكم
– 22 – قالوا ردّاً عليه : يا موسى إنَّ فيها قوماً شديدي البَطْشِ والبَأْسِ، وهم موجودونَ في هذهِ الأرضِ لا في غيرِها، وإنّا لن نَدْخُلَها بالقِتالِ إلى أنْ يَخْرُجوا منها، فإنْ خَرَجُوا منها فإنّا حينئذٍ داخلونَها
– 23 – قال رَجُلانِ (أي : من قومِ موسى) صِفَتُهُما أنَّهما من الذين يخافونَ اللهَ، صِفَتُهُما أيضاً أنّهما أنْعَمَ اللهُ عليهما بالطَّاعَةِ والانقيادِ لله : ادخلوا عليهم مَدْخَلَ مدينتِهم المعروفَ لكم، وهم في داخِلها، فإنْ دَخَلْتُم عليهم مَدْخَلَ مدينتِهم المعروفَ لكم وهم في داخلها فإنّكم غالبون عليهم (يدلّ معنى هذه الجملة على معنى مُفاجأةِ العَدُوّ، أي : فاجِئُوهم بهذا الدخول)، والواجبُ على المُؤمنين أنْ يَتَوَكَّلُوا على اللهِ، فإذا كان الواجِبُ عليهم كذلك فتوكَّلوا على الله وَحْدَهُ، نُؤكِّدُ لكم إنْ كنتم مُؤمنين باللهِ ورسوله فتوكّلوا على اللهِ وادخلوا عليهم مَدْخَلَ مدينتِهم المعروفَ لكم، وهم في داخلها (يدلّ معنى الآية على عِدَّةِ أمور عسكرية وإيمانيّة، منها : أنّ الخوفَ من اللهِ، والولايةَ له إذا اتَّصَفَ بهما إنسانٌ أعطاهُ اللهُ علماً يخصُّهُ به عن غيرِهِ، وبصيرةً يرى بها الأمور على حقيقتِها على غيرِ ما يراهُ غيرُهُ، ومنها : معلومةٌ عسكريةٌ، وهي أنّ عُنْصُرَ المُفاجأةِ في المعركةِ مع العَدُوّ سببٌ رئيسٌ في النَّصْرِ عليه، وأنّ مُفاجأةَ العَدُوِّ بدُخُول الأرض أو المدينة أو البلاد وهو في في داخلها يُؤدّي إلى إرباكِهِ وكَسْرِ معنوياتِهِ وانهيارِ مُقاتِليه، وأنّ المُسلمين المُؤمنين عليهم أنْ تكونَ المُبادَرَةُ لهم في المعركة مع عدوِّهم، وأنْ لا يكونَ تَحَرُّكُهُم في المعركة معَ عَدُوِّهم ردَّ فِعْلٍ على ما يَفْعَلُهُ العَدوّ بهم، ويَدُلُّ الأمْرُ بالتوكّل على اللهِ على أنَّ على المسلمين المؤمنين أنْ يتوكّلوا على الله بعدَ أنْ يَحْزِمُوا أمْرَهم بعِلْمٍ، ويُفاجِئُوا عدوَّهم، وأنْ لا يَنْتَظِروا مجيءَ ظروفٍ تُحقّق النصرَ لهم على عدوّهم، فإنَّ مِثْلَ هذه الظروف لن تأتيَ في الوقت الذي يَعْمَلُ العَدُوُّ على تَقْوِيَةِ قُدراتِهِ وكَسْبِ المُؤيّدين من حوله)
– 24 – قالوا ردّاً على الرّجُلَين مُوجِّهينَ الخِطابَ إلى موسى استخفافاً بالرَّجُلَين، وتحقيراً لأمْرِ موسى : يا موسى، إنّا لن نَدْخُلَ المدينةَ بالقتالِ أبداً، أي : لن نَدْخُلَها مُدَّةَ دوامِ وجودِ القومِ الجَبّارين فيها، فإذا أرَدْتَ دُخُولَها فاذهبْ أنت وربّك فقاتِلا القومَ الجَبّارينَ، وبعبارةٍ أوْضَح : إنّنا قاعدون في مكانِنا هذا، غيرُ ذاهبينَ لقتالهم
– 25 – قال موسى : يا ربِّ إنّي لا أمْلِكُ إلاّ نفسي في الاستجابةِ إلى أمْرِكَ، وليس لي القُدْرَةُ على حَمْلِ بني إسرائيل على تنفيذِ أمْرِكَ، وأخي لا يَمْلِكُ إلاّ نفسَهُ في الاستجابةِ إلى أمْرِكَ، وليس له القُدْرَةُ على حمل بني إسرائيل على تنفيذ أمْرِكَ، فيا ربّنا احْكُمْ بيننا وبين القوم الخارِجينَ عن طاعَتِكَ بعصيانِهم أمْرَكَ، وافْصِلْ بحُكْمِكَ بينَنا وبينَهم
– 26 – قال اللهُ جواباً لدعاء موسى : فإذا كان موقِفُهم من أمْرِي كما قالوا فإنَّ الأرضَ المُقدّسةَ مُحرَّمةٌ عليهم أربعين سنةً حالةَ كونِهم ضالّين مُتحيّرين في الأرْض، غيرَ مُسْتَقِرِّينَ في مكان، فإذا كان ذلك حاصِلاً فأنهاكَ عن أنْ تَحْزَنَ على القوم الخارجين عن طاعتي العاصينَ أمري (يدلّ معنى الآيات من (آية 20 – 26) على أنّ الله تعالى أراد بإنزالِها أنْ يُحَذِّرَ اليهودَ الموجودين في المدينة من أنْ لا يَسْتَجِيبُوا لأمْرِ الله بالتصديق بنُبُوّةِ رسولِهِ مُحمّد، وبالقرآن الذي أنْزَلَهُ إليه فيكونوا مِثلَ أسلافِهم زَمَنَ رسولِهِ موسى حين لم يَسْتَجِيبُوا لما امَرَهم به، ولم يَسْتَجِيبوا لما دعاهم إليه موسى، ولم يستجيبوا لما دعاهم إليه المُؤمنون الطائعون المُنقادون لله، فيُعاقِبهم اللهُ بمثلِ ما عاقبَ به أسلافَهم، وهو الضلالُ والتَحَيُّر في الأرض، ويدلُّ المعنى على أنّ اللهَ تعالى إذا قدّرَ أمْراً لإنسانٍ أو لقومٍ، وجَعَلَ تحقيقَهُ مشروطاً بالسَّعْي والعَمَلِ للحُصولِ عليه فإنْ سَعَى الإنسانُ وعَمِلَ للحصولِ عليه أمْضى اللهُ تقديرَهُ وحقَّقَهُ له، وأعانَهُ بتَيْسِيرِ أسبابِ الحصول عليه، وإنْ امْتَنَعَ الإنسانُ عن السَّعْي والعَمَلِ للحصول عليه، لأيّ سبب من الأسبابِ صَرَفَ اللهُ تقديرَهُ عنه، ولم يُمْضِهِ له، ومن الأمور التي قدَّرها اللهُ في خَلْقِهِ وجَعَلَ تحقيقها مشروطاً النَّصْرُ، فقد جَعَلَ تحقيقَهُ مشروطاً بطاعةِ أمْرِ الرسول أو القائد، والسَّعْي بإخلاصٍ للحصول عليه، وعدم عصيان أمْرِ القائد، أو عدم التّلَكُّؤ في التنفيذ، أو عدم التَّفْكيرِ بكون الأمْرِ صحيحاً أو خطأً، وقد كانت نتيجةُ عصيانِ بني إسرائيل أمْرَ موسى بدخولِ الأرضِ المُقدّسةِ أنْ صَرَفَ الله عنهم تقديرَهُ، فأضاعُوا أنْفُسَهُم وأهلكوها بالتَّيْه والضلال أربعين سنة) .
Photo credit: © by Safa Kadhim