نحو منهج لفهم معاني القرآن بتحليل آياته وفق لغة العرب وأساليبهم في الكلام كما فهمها العربي في زمن نزول القرآن
(ملاحظة : ما بين قوسين هو دلالة المعنى في ضوء التحليل اللغوي ، وقد جعلتُهُ في الأصل باللون الأحمر تمييزا له عن المعنى في ضوء التحليل اللغوي)
قال الله تعالى في سورة البقرة :
لا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٢٣٦ وَإِن طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدۡ فَرَضۡتُمۡ لَهُنَّ فَرِيضَةٗ فَنِصۡفُ مَا فَرَضۡتُمۡ إِلَّآ أَن يَعۡفُونَ أَوۡ يَعۡفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ عُقۡدَةُ ٱلنِّكَاحِۚ وَأَن تَعۡفُوٓاْ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۚ وَلَا تَنسَوُاْ ٱلۡفَضۡلَ بَيۡنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ ٢٣٧ حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ ٢٣٨ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ فَرِجَالًا أَوۡ رُكۡبَانٗاۖ فَإِذَآ أَمِنتُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ ٢٣٩ وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا وَصِيَّةٗ لِّأَزۡوَٰجِهِم مَّتَٰعًا إِلَى ٱلۡحَوۡلِ غَيۡرَ إِخۡرَاجٖۚ فَإِنۡ خَرَجۡنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِي مَا فَعَلۡنَ فِيٓ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعۡرُوفٖۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٢٤٠ وَلِلۡمُطَلَّقَٰتِ مَتَٰعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِينَ ٢٤١ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ٢٤٢
المعنى في ضوء التحليل اللغوي :
– 236– إنْ طَلّقتُم النساءَ وَقْتَ لم تُباضِعوهُنَّ (أي : وَقْتَ لم تَدْخُلُوا بهِنَّ) مِمَّنْ قد أوْجَبْتُمْ لهُنّ مَهْراً معلوماً، أو وَقْتَ لم تُوجِبوا لهنّ مَهْراً معلوماً فلا حَرَجَ ولا إثمَ عليكم (يدلُّ (أو لم تفرِضوا لهُنَّ فريضة) على أنَّ وليَّ المرأةِ لم يُحَدِّدْ مَهْراً بَقَدَرٍ معلوم في تزويجِها، أو أنَّ المرأةَ نفسَها لم تُحَدِّدْ مَهْراً بَقَدَرٍ معلوم في تزويجِ نفسِها من الرّجُل، مثل أنْ يُزَوِّجَ الأبُ ابنَتَهُ لرجُلٍ قائلاً : زوَّجْتُك ابنتي على مَهْرٍ تُعْطيه إيّاها حَسْبَ قُدْرَتِكَ واسْتِطاعَتِك، أو تقولُ المرأةُ نفسُها للرجُل : زَوَّجْتُكَ نفسي على مَهْرٍ تَدفَعُهُ لي حَسْبَ قُدْرَتِكَ واستطاعَتِكَ)، وأعْطوهُنَّ (أي : اللاتي طلَّقْتموهنّ وَقْتَ لم تُباضِعوهُنَّ مِمَّنْ قد أوْجَبْتُمْ لهُنّ مَهْراً معلوماً، أو وَقْتَ لم تُوجِبوا لهنّ مَهْراً معلوماً) مَنْفَعَةً غيرَ محدودةٍ بمِقْدارٍ، أي : أعطوهُنَّ منفعَةً على الغَنِيِّ الذي وَسَّعَ الله عليه في الرزق مِقْدارُ استطاعَتِهِ، وعلى الفقيرِ الذي ضاقَ عيشُهُ مِقدارُ استطاعَتِهِ، يُؤكِّدُ ذلك أنّي آمُرُكم أنْ تُمَتِّعوهُنَّ متاعاً (أي : أنْ تُعطوهنّ مَنْفعةً) بما تعارف عليه الناس من عطاءِ الرجل الغنيّ، ومن عطاء الرجل الفقير، يُؤكّدُ حُكْمَ إعطائِهنّ مَنْفَعَةً أنّي أُثْبِتُهُ إثْباتاً على المُحسنين الذين يلتزمون بأحكامِ الله ويُحسنون تطبيقها
– 237 – وإنْ طَلّقتُم النساءَ من قَبْلِ أنْ تُباضِعوهُنَّ (أي : من قَبْلِ دخولِكم بهِنَّ) حالةَ كونِكم قَدْ أوجَبْتُم لهنّ مَهْراً معلوماً فلهنّ نِصْفُ المَهْرِ الذي أوجبتُموه بالقَدَرِ المعلوم (يدلُّ نظمُ الآية ومعنى الآية التي قبلها على أنَّ المنفعة التي يُعطيها الزوجُ للمُطَلّقة التي لم يُباضِعْها وقد أوجب لها مهرا معلوما تكون زائدةً على نِصْفِ المَهْرِ المُقَدّر المعلوم الذي تَسْتَحِقُّهُ)، أسْتَثْنِي من هذا الحُكم أنْ تُسْقِطَ النساءُ المُطَّلقاتُ حقَّهُنّ في نِصْفِ المَهْرِ عن أزواجِهنَّ، ولم يُطالِبْنَهم به، أو أنْ يُعْطِيَ الزّوجُ الذي بيدِهِ إبْرامُ عَقْدِ النِّكاح وإمضاؤُهُ مُطَلَّقَتَهُ نصفَ المهرِ الذي تَسْتَحِقُّهُ، ويُعطيها نِصْفَهُ الآخَرَ هِبَةً لها (أي : يُعطيها المَهْرَ المعلومَ كُلَّهُ)، وعَفْوُكم – أيُّها الرجالُ والنساءُ – أقْرَبُ للخوفِ من الله، لأنّ فيه ضماناً لعدم وُقُوعِ الظُّلْمِ من أحدِ الزوجَيْنِ على الآخر (عفوُ المُطلّقات هو أنْ يُسْقِطْنَ حقَّهُنّ في نِصْفِ المَهْرِ عن أزواجِهنَّ، ولم يُطالِبْنَهم به، وعفوُ الأزواج هو أنْ يُعْطُوا المُطَلّقاتِ نصفَ المهرِ الذي يسْتَحْقِقْنَهُ، ويُعطوهُنَّ نِصْفَهُ الآخَرَ هِبَةً لهُنَّ)، وأحُثُّكم على عَدَمِ نسيانِ الإحسانِ بينِكم، فلا تتركوا العَفْوَ الذي نَدَبَ اللهُ إليه، لأنَّ اللهَ عليمٌ بكلّ شيءٍ تعملونَهُ كَمَنْ يُبْصِرُ الشيءَ من جميع جهاتِهِ فيُحيطُ به عِلْماً
– 238 – حافظوا على الصلواتِ بالمواظبة عليهنَّ، وحافظوا على الصلاةِ الموصوفة بأنّها الفُضْلَى عندَ اللهِ من بين الصلواتِ على وَجْهِ الخُصوصِ (عطفُ الشيء على ما قبلَهُ يقتضي المُغايرة، ويدلُّ هذا النّظْمُ على أنّ الصّلاةَ الوسْطَى مُغايرة للصّلَوات، والصّلواتُ جَمْعٌ يُرادُ بها صلواتُ (الظُّهْرِ والعصر والمغربِ والعشاء والفَجْر)، والصلاة الوُسْطَى غيرُ تلك الصلوات، وهي الصلاةُ الفُضْلى عندَ اللهِ، وقدَ خَصَّ اللهُ (صلاةَ الجُمعة) بكلامٍ فيه معنى تفضيلها على باقي الصلوات، قال تعالى : “يا أيُّها الذين آمنوا إذا نُودِيَ للصلاةِ من يومِ الجُمُعةِ فاسْعَوا إلى ذِكْرِ االلهِ وذَروا البَيْعَ ذلكم خيرٌ لكم إنْ كُنتم تعلمون”، وجاء الكلامُ في (الصلوات) على العموم، ويدلُّ هذا النّظْمُ، وكلامُ اللهِ تعالى في (صلاة الجُمُعة) على أنّ المُرادَ بـ(الصلاة الوُسْطى) : صلاةُ الجُمُعة،لأنّ اللهَ خصّها بكلامٍ فيه معنى تفضيلها على باقي الصلوات، ويدلُّ مجيءُ الآيةِ وَسْطَ مجموعةٍ من أحكامِ اللهِ على أنّ للصّلوات بصورةٍ عامّةٍ، والصلاةِ الوسطى بصورة خاصّةٍ دوراً مُهمّاً في جَعْلِ المسلم يلتزِمُ بما فُرِضَ عليه من أحكام، وما نُدِبَ إليه من الأعمال المستحبة)، وأطيلوا القيامَ في الصلاة والدّعاء لله حالةَ كونكم خاضعينَ مُقِرّين له بالعُبوديّة
– 239 – فإنْ تَوَقَّعْتُم حُلولَ مكروهٍ (بسبب عدوٍّ يُقاتلُكم أو سيلٍ يُداهمكم أو سَبُعٍ يُريدُ أنْ ينقَضَّ عليكم أو نحو ذلك من أسباب الخوف) فصَلّوا حالةَ كونِكم ماشين، أو حالةَ كونِكم راكبين (الرّاكب : كُلُّ مَنْ علا شيئاً، كراكبي الخيل، أو الجمال وباقي المطايا، ويدخل في هذا العصر راكبي وسائل النقل الحديثة)، فإذا اطْمأنَنْتُم وزالَ الخوفُ عنكم فاذكروا اللهَ بالثناءِ عليه وتعظيمِهِ وتنزيهِهِ وتقديسِهِ ذِكْراً مِثْلَ الذِّكْرِ الذي عَلّمَكموه، أي : ذِكْراً مِثْلَ الذِّكْرِ الذي لم تكونوا تعرفونَهُ (يدلُّ السياقُ على أنَّ المُرادَ بالذِّكْرِ : الصلاة، ويدلُّ النّظْمُ والمعنى على أنّ المُرادَ بـ(إنْ خِفْتُم فصَلّوا رِجالاً ..) : صلاةُ الخوف)
– 240 – والذين تَحْضُرُهم الوفاةُ حالةَ كونِهم مُسلمينَ منكم، ويَتْرُكون أزواجاً يُوصونَ وَصِيّةً كائنةً لأزواجِهم، أي : يُوصونَ بأن يَبْقَيْنَ في بيوتِهِنَّ بقاءً إلى السّنةِ بعدَ وفاةِ أزواجهنّ لينتَفِعْنَ ببقائِهنّ في بيوتِ ازواجهنّ ويَسْرُرْنَ بمكانِهنّ حالةَ كونِهنَّ غيرَ خارجاتٍ من بيوتِ أزواجهنّ مُدّةَ السّنة، فإنْ خرَجْنَ بإرادتِهنَّ من بيوتِ أزواجهنَ فلا حَرَجَ عليكم في الذي يفْعَلْنَه في أنفُسِهنّ بما تعارف عليه الناس من الزواجِ والتَّزَيُّنِ بعدَ انقضاءِ العِدّة، ويُؤكِّدُ وجوبَ الالتزام بذلك أنّ الله قويٌّ لا يَغْلِبُهُ شيءٌ، ولا يَمْتَنِعُ من قُدْرَتِهِ شيءٌ، مُتْقِنٌ فيما يُشرّع لكم من أحكام (يدلُّ معنى (يُوصون وَصِيّةً لأزواجهم) على أنّ الوصيّةَ للزوجةِ بالبقاء في بيت زوجها مُدّةَ سنةٍ واجبةٌ على الزوج الذي تحضُرُهُ الوفاة، ويدلُّ (غيرَ إخراج) على أنّهُ شَرْطٌ في بقاءِ الزوجة في بيتِ زوجها مُدّةَ السنة، فإنْ خرجتْ من بيتِ زوجِها وذهبتْ إلى بيتٍ آخر انتفتْ الوصية)
–241 – للنساءِ المُطلقاتِ مَنْفَعَةٌ ينتَفِعْنَ بها بعدَ طلاقهنّ مُدّةَ أيّامِ عِدّتهنّ (أي : إعطاؤهنّ مِقداراً من المال) بما تعارفَ عليه النّاسُ من إعطاء الرجُلِ الغَنِيّ حَسَبَ قُدْرَتِهِ، وإعطاء الرجُلِ الفقير حسبَ قُدرتِهِ، (ويدلُّ سياقُ أحكام المُطلّقات في الآياتِ السابقة على أنَّ المُراد بـ(المُطلّقات) هنا : المُطلّقات اللاتي دَخَلَ بهنّ أزواجُهنّ، وفَرَضوا لهنّ مهراً معلوماً، ويدلُّ نظْمُ الآية على أنّ المُرادَ بـ(المَنفعة) هنا : النفقة التي تُعْطَى للمُطلّقة مُدّة أيامِ العِدّة)، يُؤكِّدُ هذا الحُكم أنّي أُثْبِتُه إثباتاً على الذين يخافون الله، ويحفظون أنفسهم من عقابه – 242 – يُبيّنُ اللهُ لكم آياتِه التي ذكَرَ فيها احكامَ المُطلّقاتِ بياناً مثلَ ذلك البيان الذي بيَّنَ فيه آياتِهِ التي ذكرَ فيها أحكامَهُ في جميع شؤون حياتِكم، لكي تُدرِكوا أحكامَهُ على حقيقتها، وهذا هو المطلوب منكم (يدلُّ هذا المقطع من الآية على عدم جوازِ الاتيان بحُكمٍ مُخالفٍ لما بيَّنهُ اللهُ في آيات القرآن من أيِّ مصدرٍ غيرِ القرآن) .
د. عبد الكريم الزبيدي
Image by Ashraf Chemban from Pixabay