نحو منهج لفهم معاني القرآن بتحليل آياته وفق لغة العرب وأساليبهم في الكلام كما فهمها العربي في زمن نزول القرآن
(ملاحظة : ما بين قوسين هو دلالة المعنى في ضوء التحليل اللغوي، وقد جعلتُهُ في الأصل باللون الأحمر تمييزا له عن المعنى في ضوء التحليل اللغوي)
قال اللهُ تعالى في سورة البقرة :
ألم تَرَ إِلَى ٱلۡمَلَإِ مِنۢ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ مِنۢ بَعۡدِ مُوسَىٰٓ إِذۡ قَالُواْ لِنَبِيّٖ لَّهُمُ ٱبۡعَثۡ لَنَا مَلِكٗا نُّقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ قَالَ هَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ أَلَّا تُقَٰتِلُواْۖ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلَّا نُقَٰتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدۡ أُخۡرِجۡنَا مِن دِيَٰرِنَا وَأَبۡنَآئِنَاۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ تَوَلَّوۡاْ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلظَّٰلِمِينَ ٢٤٦ وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ ٱللَّهَ قَدۡ بَعَثَ لَكُمۡ طَالُوتَ مَلِكٗاۚ قَالُوٓاْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ عَلَيۡنَا وَنَحۡنُ أَحَقُّ بِٱلۡمُلۡكِ مِنۡهُ وَلَمۡ يُؤۡتَ سَعَةٗ مِّنَ ٱلۡمَالِۚ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰهُ عَلَيۡكُمۡ وَزَادَهُۥ بَسۡطَةٗ فِي ٱلۡعِلۡمِ وَٱلۡجِسۡمِۖ وَٱللَّهُ يُؤۡتِي مُلۡكَهُۥ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ ٢٤٧ وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ ءَايَةَ مُلۡكِهِۦٓ أَن يَأۡتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَبَقِيَّةٞ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ تَحۡمِلُهُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٢٤٨ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلۡجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبۡتَلِيكُم بِنَهَرٖ فَمَن شَرِبَ مِنۡهُ فَلَيۡسَ مِنِّي وَمَن لَّمۡ يَطۡعَمۡهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّيٓ إِلَّا مَنِ ٱغۡتَرَفَ غُرۡفَةَۢ بِيَدِهِۦۚ فَشَرِبُواْ مِنۡهُ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُۥ هُوَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلۡيَوۡمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦۚ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ ٢٤٩ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفۡرِغۡ عَلَيۡنَا صَبۡرٗا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٢٥٠ فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢٥١ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتۡلُوهَا عَلَيۡكَ بِٱلۡحَقِّۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٢٥٢ ۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَٰتٖۚ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ ٱخۡتَلَفُواْ فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ وَمِنۡهُم مَّن كَفَرَۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ ٢٥٣ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا بَيۡعٞ فِيهِ وَلَا خُلَّةٞ وَلَا شَفَٰعَةٞۗ وَٱلۡكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٢٥٤ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُۚ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٞ وَلَا نَوۡمٞۚ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيۡءٖ مِّنۡ عِلۡمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَۚ وَسِعَ كُرۡسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۖ وَلَا ئَُودُهُۥ حِفۡظُهُمَاۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡعَظِيمُ ٢٥٥ لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٢٥٦ ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٥٧
المعنى في ضوء التحليل اللغوي :
246 – ألم يَصِلْ عِلْمُكَ – أيُّها الرّسولُ – إلى قِصّةِ جماعةِ الأشرافِ والوُجَهاءِ حالةَ كونِهم من بني إسرائيل حالةَ كونِهم من بعد موسى حين قالوا لنبيّ لهم : ارْسِلْ لنا مَلِكاً بما آتاك اللهُ من وَحْي النبوّة، إنْ تُرْسِلْ لنا مَلِكاً نُقاتلْ لأجْلِ الدِّينِ الذي أرسَلَ اللهُ به أنبياءَ بني إسرائيل، ودَعُونا إليه، فتَعْجَبَ ممّا جرى لهم ؟ قال لهم نبيُّهم ردّاً عليهم : إنْ فَرَضَ اللهُ عليكم القتالَ فهَلْ أتوقّعُ منكم أنْ لا تُقاتلوا ؟ قالوا جواباً له : نَعْجَبُ لقولك، أيُّ شيءٍ حَصَلَ لنا حالةَ كونِنا تاركينَ القتالَ، وحالُنا أنّ عدوَّنا قد فَصَلنا عن ديارِنا بالاستيلاء عليها، وفَصَلنا عن أبنائِنا بأسْرِهم وسَبْيِهم، فلمّا فَرَضَ اللهُ عليهم القتالَ أعْرَضُوا عَنْهُ، وتَرَكُوهُ إلاّ عدداً قليلاً منهم، وواقعُ الحالِ أنّ اللهَ عليمٌ بالمُتجاوزين طاعتَهُ فيما أمَرَهم به
– 247 – وقال لهم نبيّهم : إنّ اللهَ قد أرْسَلَ لكم طالوتَ حالةَ كونِهِ مَلِكاً عليكم، قالوا ردّاً عليه : نَعْجَبُ من ذلك، على أيِّ حالٍ يُوجَدُ له المُلكُ علينا وحالُنا أنّا أحَقُّ وأولَى بالمُلْك منه، وحالُهُ أنّه لم يُعْطِهِ اللهُ كَثْرةً من المالِ يتسلّطُ بهِ على الناس ؟ قال النّبِيُّ جواباً لهم : أُؤكِّدُ لكم أنّ اللهَ اختارَهُ مَلِكاً، وفَضَّلَهُ عليكم، وزادَهُ كَثْرةً في العِلْمِ والجِسْمِ، واللهُ يُعْطِي مُلكَهُ الإنسانَ الذي يختارُهُ من عبادِهِ، ويُؤكِّدُ ذلك أنّ اللهَ واسِعُ القُدْرَةِ، قادرٌ على ذلك، عليمٌ بمصالِحِ عبادِهِ، فاختيارُهُ مُطابِقٌ لما يعلَمُهُ من مصالحِ عبادِهِ (جاء في التوراة [صموئيل الأول : 8، 9] : أنّ النبيّ هو صَمُوئيل، وطالوت هو شاوُل بن قيس بن أبِيئيل)
– 248 – وقال لهم نبيّهم : إنّ علامةَ تمليكِهِ عليكم أنْ يأتيكم التابوتُ حالةَ كونِهِ فيه رزانَةٌ ووَقارٌ وهَيْبةٌ كائنةٌ من ربّكم، وفيه ما بَقِيَ من الأشياء التي تَرَكَها آلُ موسى وآل هارون، (التابوتُ هو صندوقٌ من الخَشَبِ وَضَعَ فيه موسى ألواحَ التوراة ومتاعَهُ) وحالَةَ كونِهِ تحملُهُ الملائكة، إنْ كنتم مُؤمنين بأنّي أُخبرُكُم عن الله فإنَّ في ذلك علامةً لكم على اختيارِ اللهِ طالوتَ مَلِكاً عليكم
– 249 – فأقرّوا بمُلْكِهِ عليهم، واجتمعوا حولَهُ لقتال ِعدوِّهم، فلمّا خَرجَ طالوتُ بالجنودِ عن البَلَد الذي يُقيمون فيه قال لهم : إنّ اللهَ مُمْتَحِنُكم بماءِ نهرٍ، فأيُّ إنسانٍ منكم يشربْ منهُ فليس من جنودي، وأيُّ إنسانٍ منكم لم يَذُقْهُ فإنّه من جنودي إلّا الذي يأخذُ بيدِهِ كفّاً من الماءِ فيشربُهُ فإنّهُ يكونُ معي، فشَرِبُوا من ماءِ النّهْرِ إلاّ عدداً قليلاً منهم، فلمّا اجْتازَ النّهْرَ هو والذين صَدّقوا به حالةَ كونِهم مُصاحبين له، قالوا : لا قوّةَ ولا قُدرةَ لنا اليومَ بجالوتَ وجنودِهِ (يدلُّ السياقُ والمعنى على أنّهم قالوا ذلك لمّا رأوا قِلّةَ عَدَدِهم بسب إرجاعِ طالوتَ الذين شربوا من ماء النهر، ولم يسمح لهم بمُرافقته)، قال الذين يُوقنون بمُلاقاتِهم جزاءَ اللهِ بعد الموت : كثيرٌ من الفئاتِ القليلةِ غَلَبَتْ في القتال فِئاتٍ كثيرةً بأمْرِ اللهِ وتأييدِهِ لهم، بسَبَبِ صَبْرِهم على القتال، ويُؤكِّدُ ذلك أنّ اللهَ مَعَ الصابرين على القتالِ في سبيلِهِ
– 250 – ولمّا ظَهروا وانْكَشَفوا لجالوتَ وجنودِهِ قالوا : يا ربّنا، نسألُكَ أنْ تُنْزِلَ علينا صَبْراً على مواجهةِ عَدُوّنا، وأنْ تُثَبِّتَ أقدامَنا في مواجهتِهِ، وأنْ تَنْصُرَنا على القوم الكافرين
– 251 – فهزموهم بأمْرِ اللهِ وتأييدِهِ لهم بالنصر، وقَتَلَ داودُ جالوتَ، وأعطاهُ اللهُ المُلكَ على بني إسرائيل، وأعطاهُ الفِقْهَ والعِلْمَ الذي تَسْتَلْزِمُهُ النُّبُوَّةُ، وعلّمَهُ بالوحي إليه من كُلِّ شيءٍ يشاءُ أنْ يُعلّمَهُ إيّاهُ من أمور الدين والدنيا، ولولا أنْ يدفعَ اللهُ الناسَ، أي : يدفعَ بعضَهم وهم المُؤمنون بقتالِ بعضِهم وهم المُفسدونَ لَفسَدَتْ الأرضُ بغَلَبَةِ المُفسِدين، وبما ينشرونَهُ فيها من أنواع الظُلمِ والفَسادِ، ولكنَّ اللهَ صاحبُ فَضْلٍ على العالمين بدَفْعِ الناسِ المُؤمنين بقتالِ الناسِ الكافرين المُفسدين لمَنْعِ وقوعِ الفسادِ في الأرض، بلى، إنّ الله يُعْلِمُك بقصّتهم، لكي تعقلوها وتتفكّروا فيها (ذكر اللهُ هذه القصّة للمسلمين بعدَ قوله : (مَنْ ذا الذي يُقرِضُ الله قَرْضاً حسناً) لكي يتفكروا فيها، ويصلوا إلى التصديق بالحقائق التالية، الأولى : أنّ التخاذلَ عن قتالِ عدوّهم الذي يُقاتِلُهم يُؤدّي إلى احتلال العدو بلادَهم، وإخراجِهم من ديارِهم، وإذلالهم وقتل أبنائهم وإذلال نسائهم، الحقيقة الثانية : أنّ عدوَّهم لا يُمكن دَفْعُهُ عن ديارِهم وأهلِهِم إلاّ بالقتالِ والجهادِ في سبيل الله، الحقيقة الثالثة : أنّ سُنَّةَ الامتحانِ جاريةٌ فيهم، كما كانت جاريةً فيمَنْ سَبَقَهُم من الأمم، الحقيقة الرابعة : أنّ اليقينَ في الاعتقادِ بأنّ المُجاهدَ مُلاقي اللِه سواء قُتِلَ في المعركة أم لم يُقْتَل فيها، واليقينَ في الاعتقاد بأنّ الغَلَبَةَ والنَّصْرَ بيدِ الله، كُلُّ ذلك يجعلُ المُجاهِدَ على يقينٍ بأنّ اللهَ قادرٌ على أنْ ينْصُرَ الجماعةَ القليلةَ المُؤمنةَ على الجماعة الكثيرة الكافرة، فيُقْدِمُ المُؤمنون إلى جهادِ أعدائِهم من دونِ النَّظَرِ إلى قِلَةِ عَدَدِهم وكَثْرةِ عددِ أعدائهم، الحقيقة الخامسة : أنّ الطاعةَ الكاملةَ للقائد، والصّبرَ والثباتَ في أرضِ المعركة، وعدمَ الفرارِ من الزحف، واليقينَ بالنصر من الله أسبابٌ تُحقّقُ النصر)
– 252 – تلك، أي : آياتُ اللهِ التي قَصَّتْ عليك القِصَّةَ نقرؤُها عليك قراءةً بالحَقّ، لتأخذوا منها العِبْرَةَ والموعِظَةَ، ويُؤكِّدُ ذلك أنّكَ رسولٌ من المُرْسَلين الذين نُوحِي إليهم آياتِنا
– 253 – تلك، أي : الرُسُلُ الذين تقدّمَ ذِكْرُهم في هذه السُّورةِ جَعَلْنا بعضَهم أفْضَلَ من بعض، أي : منْهم الذي كَلّمَهُ اللهُ مباشرَةً (وهو موسى)، وأعلى اللهُ قَدْرَ بعضِهم، وشَرَّفَهم وكَرّمَهم في درجات على الأنبياء (وهو رسولُ اللهِ مُحَمَّدٌ)، وآتينا عيسى الموصوفَ بابنِ مريم الحُجَجَ الواضحات الدّالّةَ على أنّهُ رسولُ اللهِ أرْسَلَهُ إلى بني إسرائيل للعَمَلِ بالفرائضِ والأحكامِ والوصايا التي أنَزلْناها على موسى، وقَوّيناهُ بروحِ القُدُسِ (روح القُدُس هو جبرائيل الذي جَعَلَ اللهُ فيه قُوّةً من القُوّةِ التي يختصُّ بها اللهُ سُبحانَهُ وتعالى، وتتَّصِفُ بها ذاتُهُ المُقَدّسة)، ولو شاءَ اللهُ أنْ لا يختلفَ الذين جاؤوا من بعدِ الرُّسِل في نُبُوَّةِ عيسى ابنِ مَريمَ، وفي نُبُوَّةِ رسولِ اللهِ مُحَمَّدٍ ما قَتَلَ الذين جاؤوا من بعدِ الرُّسِل بعضَهم بعضاً من بعدِ مجيءِ الحُجَجِ الواضحاتِ على أنّ عيسى ابن مريم رسولُ اللهِ، أرْسَلَهُ إلى بني إسرائيل للعَمَلِ بالفرائضِ والأحكامِ والوصايا التي أنَزلَها على موسى، وعلى أنَّ مُحَمَّداً رسولُ اللهِ وخاتمُ الرُّسُل، أرسَلَهُ إلى الناسِ بخاتمةِ الشرائع (يدلُّ المعنى على أنَّ الذينَ جاؤوا من بعدِ الرُّسُل اختلفوا في نُبُوَّةِ عيسى ابنِ مَريمَ، وفيما انْزَلَهُ اللهُ إليه، واختلفوا في نُبُوّةِ رسولِ اللهِ مُحمّدٍ (ص)، فبنو إسرائيل وعُلماؤهم وأحبارُهم كفروا بنُبُوّةِ عيسى ابن مريم وأنكروها وكفروا بما أنْزَلَهُ اللهُ إليه من الكتاب، وكَفروا بنُبُوّةِ رسولِ اللهِ مُحمّدٍ وبالكتابِ الذي أنْزَلَهُ اللهُ إليه، وصَدَّقَ بنُبُوّة عيسى ابن مريم ناسٌ كثيرون من بعدِهِ، وصدَّقَ بنُبُوَّةِ رسولِ اللهِ مُحَمّدٍ ناسٌ كثيرون، وكفَرَ بهِ وبالكتابِ الذي أنْزَلَهُ اللهُ إليه الذين صَدَّقُوا بنُبُوّة عيسى ابن مريم، فتَسَبَّبَ ذلك الاختلافُ في حصولِ حروبٍ بين اليهود والذين صَدَّقوا بنُبُوّة عيسى ابن مريم من جِهَةٍ، فقتَلَ بعضُهم بعضاً، وفي حصولِ حروبٍ بين اليهود والذين صَدَّقوا بنُبُوّةِ رسولِ اللهِ مُحَمّدٍ من جِهَةٍ ثانيةٍ، فقتَلَ بعضُهم بعضاً، وفي حصولِ حروبٍ بين الذين صَدّقوا بنُبُوَّةِ عيسى ابن مريم، وكفروا بنُبُوّةِ رسولِ اللهِ مُحَمّدٍ وبالكتابِ الذي أنْزَلَهُ اللهُ إليه وبينَ الذين صَدَّقوا بنُبُوّةِ رسولِ اللهِ مُحَمّدٍ من جهة ثالثة، فقتَلَ بعضُهم بعضاً)، ولكن اختلفوا، فمنهم الذين صَدّقوا برُسُلِ اللهِ جميعاً، وبما أنْزَلَهُ اللهُ إليهم، ومنهم مَنْ كَفَرَ ببعضِ رُسُلِ الله، ولو شاءَ اللهُ أنْ لا يَقْتُلَ بعضُهم بعضاً ما اقْتَتَلوا، ولكنّ اللهَ يفعلُ الذي يُريدُهُ بما يقتضيه عِلْمُهُ وحِكْمَتُهُ (يدلُّ المعنى على أنَّ سبب الاختلاف بين أتباعِ رُسُلِ اللهِ تعالى عَدَمُ إدراكِهم أنَّ الرُّسُلَ الذين أرسَلَهم اللهُ إلى الناس جاؤوا بدينٍ واحدٍ مُشتملٍ على الشريعة من الفرائض والأحكام والوصايا والمعارفِ الإلهيَّةِ، وعَدَمُ إدراكِهم أنَّ الرسولَ الذي يُرسِلُهُ الله بعدَ رسولٍ قبلَهُ إمّا انْ يكونَ مُذَكِّراً بالعَمَلِ بالدين المُشتمل على الشريعة من الفرائض والأحكام والوصايا والمعارفِ الإلهيَّةِ الذي جاء به الرسولُ الذي قبلَهُ، ومُنْذِراً بالعقاب مَنْ تَرَكَهُ ولم يعمل به، كما هو حالُ الانبياءِ الذين أرسَلَهم اللهُ بعد الرسولِ موسى الذي أرسَلَهُ اللهُ بدينٍ مُشتملٍ على الشريعة من الفرائض والأحكام والوصايا والمعارفِ الإلهيَّةِ، وإمّا أنْ يكونَ الرسولُ الذي يُرسِلُهُ اللهُ بعدَ رسولٍ قبلَهُ آتياً بشريعةٍ مُشتملةٍ على فرائضَ وأحكامٍ ووصايا ومعارفَ إلهيةٍ مُكمّلةٍ للشريعة التي جاء بها الرسولُ الذي قبلَهُ، كما هو حال الرسولِ مُحمّدٍ (ص)
– 254 – يا أيُّها الذين صَدّقوا بالرُّسُلِ جميعاً، وبالدِّين الذي أرْسَلَهم اللهُ به، ابْذلوا في وُجُوهِ الخير من كُلِّ شيءٍ أعْطَيْناكموه ممّا تَنْتَفِعون به في معاشِكم في الحياةِ الدنيا من قبلِ أنْ يأتيَ يومٌ موصوفٌ بأنّه لا تجارةٌ فيه، فتنفعَكم أموالُكم، ولا صداقةٌ فيه، فتنفعَكم صداقةُ الصّديق، ولا طَلَبٌ فيه من مخلوق إلى مخلوقٍ أنْ يُكلِّمَ اللهَ له في التجاوُزِ عن ذنوبِهِ، والذين يَجْحَدونَ أمْرَ الله ببذْلِ بعضِ ما أعطاهم اللهُ إيّاهُ في وجوه الخير هم المُتجاوزونَ حدودَ دينِ اللهِ (يدلُّ المعنى على الإنفاقَ في وجوهِ الخير قد أمَرَ اللهُ به في الدّين الذي بَعَثَ اللهُ بهِ رُسُلَهُ إلى الناسِ، وأنَّ الذينَ صَدّقوا برُسُلِ اللهِ مأمورون به، ويَشْمَلُ الإنفاقُ في وجوهِ الخير إعطاءَ مَنْ أمَرَ اللهُ بإعطائهم من الوالدين والأقربين من الأرحام، واليتامى والمساكين وابنِ السبيل، ويشملُ الإنفاقُ في وجوهِ الخيرِ بذلَ المالِ في الأعمال التي تنفعُ الناس)
– 255 – اللهُ لا إلهَ إلاّ هو، (أي : الألوهية مقصورةٌ عليه وَحْدَهُ منفيّةٌ عن غيره)، هو ذو الحياةِ الدائمة الثابتة الذي يُدْرِكُ كُلَّ المُدْرَكاتِ، ولا تدخُلُ عليه عواملُ الموتِ والفناءِ، هو القائِمُ بتدبيرِ خَلْقِهِ، هو لا يغْلِبُهُ نعاسٌ يؤدّي بصاحِبِهِ إلى الفُتورِ والغَفْلَةِ، ولا يَغْلِبُهُ نومٌ يُؤدّي به إلى تعطيلِ قِواهُ المُدْرِكة، هو له مُلْكُ كُلِّ شيءٍ موجودٍ في السّماوات، وكُلُّ شيءٍ موجودٌ في الأرض، (أي : لا يَمْلِكُ معه أحَدٌ شيئاً في السّماواتِ والأرضِ) – أيُّ مخلوقٍ هذا، أي : الذي يَطْلُبُ إلى مخلوقٍ في حَضْرَةِ اللهِ أنْ يَسْألَ اللهَ له أنْ يَتجاوَزَ عن ذنوبِه ؟! لا يطْلُبُ أيُّ مخلوقٍ إلى مخلوقٍ في حضرةِ اللهِ أنْ يَسْألَ اللهَ له أنْ يَتجاوَزَ عن ذنوبِه إلّا بإجازةِ الله له – (يدلّ المعنى على أنّ الشفاعةَ مقصورةٌ على إجازَةِ اللهِ وإباحَتِهِ لطالبِ الشفاعة أنْ يَتَشَفَّعَ بمخلوقٍ إلى الله ليَسْألَ اللهَ له أنْ يَتجاوَزَ عن ذنوبِه، فلا يحقُّ لأيِّ مخلوقٍ أنْ يطلبَ من مخلوقٍ أنْ يَشْفَعَ له عندَ اللهِ إلا بإجازةِ اللهِ له ذلك، ويدلُّ المعنى على أنّهُ لا يحقُّ لأيِّ مخلوق أنْ يشْفَعَ لأحدٍ عندَ اللهِ إذا لم يُجِزْ اللهُ لطالبِ الشفاعة أنْ يطلبها منه، وهذا المعنى يدلُّ على أنّهُ لا صِحّةَ لقول مَن يقول : إنّ جماعةً من المخلوقين كالأنبياء والصالحين يشفعون لأشخاصٍ عندَ اللهِ يومَ القيامة من دون أنْ يُجيزَ اللهُ لأولئك الأشخاص أنْ يطلبوا الشفاعةَ منهم، ويدلُّ هذا المعنى على أنّهُ لا يُجيزُ اللهُ لمخلوقٍ قضى حياتَهُ في الدّنيا في معصيةِ الله، ولم يعملْ بما أمَرَ اللهُ به، ونهى عنه، وفَعَلَ الذنوبَ الكبيرةَ أنْ يطلبَ من أحَدٍ أنْ يسألَ اللهَ أنْ يتجاوَزَ عن ذنوبِهِ ومعاصيه، ويُدْخِلَهُ الجنّة، لأنّه حينئذٍ يتساوى في دخولِ الجنّة مع المُؤمنِ الذي قضى حياتَهُ في طاعةِ الله، وعَمِلَ بما أمَرَ اللهُ به، ونهى عنه، وعَمِلَ الصالحات، واللهُ يقول [السجدة : 18] : “أفَمَنْ كانَ مُؤمناً كمَنْ كان فاسقاً لا يستوون”، وهذا يعني أنّ قولَ مَنْ قضى حياتَهُ في الدّنيا في معصية الله، ولم يعملْ بما أمَرَ اللهُ به، ونهى عنه، وفَعَلَ الذنوبَ الكبيرة : إنّ حُبَّ النّبي (ص)، أو أحدٍ من أهلِ بيتهِ، أو أحَدٍ من الصالحين سيجعلُ النبيّ أو أحداً من أهلِ بيته يشفعُ له يومَ القيامة عندَ الله، ويُخلّصُهُ من النّار هو قولٌ غيرُ صحيح)، هو يَعْلَمُ حاضِرَ خَلْقِهِ ومُسْتَقْبَلَهم، ويَعْلَمُ ماضيهم، وما سبق من حياتِهم، ولا يُدركون شيئاً كائناً من عِلْمِه من جميع جوانبِهِ، أي : لا يُدْرِكون إلاّ شيئاً صفتُهُ أنّهُ شاءَ أنْ يُعْلِمَهم به، هو وَسِعَ عِلْمُهُ مَمْلَكَتَهُ في السماواتِ والأرضِ بعدَ أنْ قامَ بتدبيرِ مُلْكِهِ، وأجْرَى سُلطانَهُ ونظامَ حُكْمِهِ فيهما، كما يتولّى المَلِكُ تدبيرَ شؤونِ مَمْلَكَتِهِ، وإجراءَ سُلطانِهِ فيها حين يُمْسِكُ بزمامِ الحُكْمِ باستعلائه على كُرْسيّ المُلْك، ولم يَضِقْ عِلْمُهُ عنها (أي : هو عالمٌ بكُلِّ شأنٍ من شؤونِ مَمْلَكَتِهِ)، ولا يُثْقِلُهُ ولا يُجْهِدُهُ حِفْظُ السماواتِ والأرضِ، وهو الأعلى في مَمْلَكَتِهِ في القُدْرَةِ والعِلْمْ، الأعظمُ في الجلال والكبرياء (يدلُّ مجيئُ الآية في سياق ما قبلها على أنَّ اللهَ تعالى أرادَ أنْ يُبَيِّنَ صفاتِهِ التي تدلُّ على قُدْرَتِهِ وعَلْمِهِ وتدبيرِهِ، لكي يعلمَ الناسُ أنَّ اللهَ أرْسَلَ رُسُلَهُ إليهم بعِلْمِهِ وتدبيرِهِ وقُدْرَتِهِ، وأنْزَلَ معهم الدينَ المُبيّنَ للأحكامِ والفرائض والوصايا والمعارف الإلهيّة بعِلْمِهِ وتدبيرِهِ وقُدْرَتِهِ، فيُصَدّقوا برُسُلِ اللهِ جميعاً، ويعملوا بالدّينِ الذي أنْزَلَهُ اللهُ معهم، ولا يختلفوا فيه، ولا يقتل بعضهم بعضاً بسبب اختلافهم، فالرُّسُلُ كُلُّهم رُسُلُ الله، والدينُ كُلُّهُ دينُ الله)
– 256 – لا إجبارَ ولا إلزامَ كائنٌ في الدين الذي أرْسَلَ اللهُ به الرُّسُلَ جميعاً، لأنّهُ قد تبيّن للناسِ الهُدَى (أي : الدين الحقُّ الذي أرسَلَ اللهُ به رُسُلَهُ، ودعا إليه) حالةَ كونِهِ مُتَمَيِّزاً من الضلال (أي : الباطل الذي أوْجَدَهُ رُؤساء الضلالة الذي كفروا برُسُلِ اللهِ، وبالدينِ الذي أرسَلَهم به، ويدلُّ المعنى على أنَّ اللهَ تعالى تَرَكَ الإيمانَ بالرُّسُلِ وبالدّين الذي أرسَلَهم به إلى اختيارِ الإنسان بعد أنْ بَيَّنَ بالحُجَجِ الواضحة الدينَ الحقُّ الذي أرسَلَ به رُسُلَهُ حالةَ كونِهِ مُتَمَيِّزاً من الباطل)، فأيُّ إنسانٍ يَكْفُرْ بالطّاغوت (الطّاغوتُ هو رُساءُ الضلالة الذين مَرَدُوا على الشّرِّ والنفاقِ، وكفروا برُسُلِ اللهِ، وبالدين الذي أرسَلَهم به، وكُلُّ سُلطةٍ سياسيةٍ طاغيةٍ تصدُّ عن دين الله، وتُؤثّر على قُدْرَة الإنسان على الاختيار بين الكُفْرِ والإيمان، وكُلُّ سُلطةٍ دينيةٍ كالأحبار والقَساوسة وعُلماء الدين الذين يُؤثّرون على قُدْرَة الإنسان على الاختيار بين الهُدى والضلال، وكُلُّ صاحبِ رأسِ مالٍ طاغٍ يستعملُ رأسَ مالِهِ في حَمْلِ الناس على الكُفْرِ والضلال)، ويُؤمنْ بالله فقد أخَذَ بالعُرْوَة القويّة المُحْكَمة، وتَعَلّقَ واعتصَمَ بها بقوّةٍ حالةَ كونِها لا انقطاعَ لها أبداً، فحالُهُ كحالِ مَنْ تعلّقَ بالحَبْلِ الأشدِّ قوّةً، فهو آمِنٌ دائماً من السقوط، كذلك مَنْ كَفَرَ بالطاغوت، وأخَذَ بالإيمانٍ بالله، واعتَصَمَ به فهو آمِنٌ من الوقوع في الضلال، واللهُ سميعٌ لكلّ ما تقولون، عليمٌ بكلّ ما تفعلون – 257 – اللهُ وَليُّ الذين آمنوا في القيامِ بأمْرِهم، وتدبيرِ شؤونِهم، أي : يُخْرِجُهم من الضلالاتِ الكثيرةِ التي تُشْبِهُ الظُّلماتِ، ويأخذُ بأيديهم إلى الهدايةِ التي تُشْبِهُ النُّورَ، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت، أي : يُخرجونَهم من الهدايةِ إلى الضَّلالةِ، أُولئك – أي الطّاغوتُ والذينَ يَتَوَلَّوْنَهم – هم أصحابُ النار، حالةَ كونِهم مُقيمينَ فيها إقامةً دائمةً، لا يخرجون منها أبداً.
د. عبد الكريم الزبيدي
Photo by Ashkan Forouzani on Unsplash